دور المرأة في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
أحمد بن عبد الله الباتلي
لقد كان للمرأة المسلمة نصيب كبير في الاستفادة من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، وتحمل أعباء نشر الدعوة، وإسهامها في الالتزام بمبادئ الدعوة على المنهج السليم الذي أرشد إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-، فلقد كانت دعوته شاملة للرجال والنساء، ويخص النساء بدروس ومواعظ في الأمور التي تهمهن في العقيدة والفقه. فحققت دعوته استجابة مباركة، ويدل على ذلك تلك المرأة التي جاءت للشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- وهو في "العيينة" فأقرت على نفسها بالزنا، وتكرر ذلك منها أربعاً، فأعرض الشيخ عنها، ثم أقرت وعادت إلى الإقرار مراراً، فسأل الشيخ عن عقلها؟ فأخبر بتمامه وصحته، فأمهلها أياماً رجاء أن ترجع عن الإقرار إلى الإنكار فأصرت على اعترافها، فأمر الشيخ والي العيينة الأمير عثمان بن معمر برجمها فخرج الوالي وجماعة من أهل العيينة فرجموها حتى ماتت، فأمر الشيخ أن يغسلوها، وأن تكفن، ويصلى عليها، ذكر ذلك ابن غنام.
ولما انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- للدرعية سنة (1157هـ) كان من أوائل من استجاب لدعوته زوجة الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - واسمها (موضي بنت وهطان) - رحمها الله -، وكانت ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبرت زوجها الإمام محمد بن سعود بقدم الشيخ للدرعية، وقالت: "إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به". فقبل قولها، ورحب بالشيخ، وتم بينهما التحالف لنصرة الدين والعقيدة.
كما كان لبنات الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- دور في نشر العلم بين النساء في الدرعية وخارجها لاسيما ابنته فاطمة التي رحلت إلى رأس الخيمة ثم عُمان بعد سقوط الدرعية، وحفيدته سارة بنت علي بن محمد بن عبد الوهاب رحلت إلى مصر مع أسرتها بعد سقوط الدرعية (1233هـ) فقامت بالتدريس هناك، ونشر العلم، وبيان العقيدة الصحيحة للناس برفقة عمها الشيخ عبد الله بن محمد ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله - الذي كان يدرس العقيدة والفقه في رواق الحنابلة في الجامع الأزهر.
إضافة لقيام عدد من النساء آنذاك بتدريس القرآن للبنات في البيوت والكتاتيب. مما كان له أبلغ الأثر في تمسكهن بآداب الإسلام.
وهذا ما يؤكد أن للمرأة المسلمة أثرها الطيب في تاريخ الإسلام، كما أن لها نصيباً في تحمل أعباء الدعوة، ونشر العلم الشرعي في أوساط النساء، وفق الضوابط الشرعية. فعلى الجميع مسؤولية إعداد المرأة الصالحة لتربية جيل مسلم على العلم والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال - تعالى -: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 71).
بنات وحفيدات إمام الدعوة:
1_ فاطمة بنت محمد بن عبد الوهاب -صاحبة الهجرتين-: هي العالمة الفاضلة، فاطمة ابنة شيخ الإسلام الإمام المجدد العالم: الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، الذي تولى الدعوة الإصلاحية التي أشرقت شمسها في سماء الجزيرة العربية، فنصر الله به الدين، ونشر العقيدة السلفية الصحيحة، وقمع البدع والضلالات المنتشرة آنذاك، بتوفيق الله - تعالى - ثم بمناصرة أُمراء الدولة السعودية منذ تحالف الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب على مناصرة الدعوة، ونشر التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بالكتاب والسنة. وكان ذلك في سنة (1157هـ).
وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تزوج بامرأة فاضلة من أسرة كريمة، وذلك عند قدومه للعيينة في عام (1154هـ) تزوج الجوهرة بنت أمير العيينة عبد الله بن معمر، فتقوّت الصلة بين الأُسرتين، مما مكّن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يمارس دعوته الإصلاحية وينشرها في العيينة آنذاك، فقطع الأشجار التي يُعظّمَها الجُهال، ونفذ أحكام الشريعة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان كثير العيال، وتوفي بعض أولاده في حياته، ولكنه عند وفاته (سنة 1206هـ) ترك أربعة أولاد.
وأكبر أولاده: حسين بن محمد بن عبد الوهاب، الذي كان مشهوراً بالعلم والفقه، وخلف والده في القيام بالتدريس في الدرعية، وإمامة جامعها، وتولى القضاء فيها إلى أن توفي عام (1224هـ).
ثم عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، الابن الثاني للشيخ، وكان من العلماء الأجلاء، والمؤلفين البارعين في التوحيد والسيرة النبوية والفقه، وتوفي سنة (1242هـ).
أما الابن الثالث للشيخ محمد بن عبد الوهاب فهو علي، وكان عالماً نابغةً يُضرب به المثل في الزهد والورع، فقد عُرض عليه القضاء لكنه أبى توليه من شدة ورعه، وكان عالماً فقيهاً مفسراً، توفي بمصر عام (1245هـ).
والولد الرابع لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب هو إبراهيم، الذي كان مشهوراً بالحرص على نشر العلم، وتدريس التوحيد، وانتقل إلى مصر ومات بها سنة (1250هـ)، وللشيخ محمد بن عبد الوهاب ولدان ماتا في حياته هما: حسن وعبد العزيز.
أما بنات الشيخ محمد بن عبد الوهاب فمنهن: شائعة، وهيا، وسارة، وفاطمة التي ولدت في أوائل القرن الثاني عشر الهجري في أواخر حياة والدها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فجاءته على كِبر، لكنه اعتنى بها كإخوتها وأخواتها الذين نشأوا في بيت إمام الدعوة الإصلاحية، ونهلوا من علمه الغزير، حتى صاروا علماء زمانهم، فتذكر المصادر التاريخية أن فاطمة كانت تقوم بتدريس النساء، ثم تجلس لتدريس الرجال من طلاب العلم، وتجعل بينها وبينهم سترة أثناء التدريس.
وشهدت فاطمة سقوط الدرعية سنة (1233هـ) على يد إبراهيم باشا الذي ارتكب أسوأ الجرائم في تدميرها، وقتل أهلها. وأخذ مجموعة منهم معه إلى مصر، وعاشوا هناك، واضطر عدد من أفراد أسرة آل سعود وآل الشيخ إلى الخروج من الدرعية، والبحث عن بلد آمن في المناطق المجاورة لنجد. وكانت فاطمة بنت محمد بن عبد الوهاب من بين هؤلاء، حيث خرجت مع ابن أخيها علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، وكان أكبر أولاد الشيخ حسين، وتولى القضاء في الدرعية طويلاً، وكانت له معرفة في التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، فخرجا معاً إلى (رأس الخيمة)، نظراً للعلاقة الوطيدة بين آل سعود والقواسم في الخليج العربي –آنذاك-، ثم بعد هجوم البريطانيين على رأس الخيمة خرجت فاطمة مع ابن أخيها علي بن الحسين إلى عُمان، ولذا سُميت فاطمة (صاحبة الهجرتين)؛ لخروجها إلى رأس الخيمة في هجرتها الأولى، ثم إلى عُمان في هجرتها الثانية.
وحينما استقرت في عُمان عملت فاطمة على نشر العقيدة السلفية بين أهالي عُمان، وتدريسهم التوحيد الخالص لله - تعالى -.
ولما استقرت الأحوال السياسية في نجد، وقامت الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبد الله عام (1240هـ)، عادت فاطمة إلى الرياض مع ابن أخيها، واستقرت بها وتولى ابن أخيها القضاء في الرياض حتى توفي نحو سنة (1257هـ)، أما عمته فاطمة بقيت في الرياض حتى ماتت ودُفنت بمقبرة العود - رحمها الله تعالى -، ولم تتزوج رغم أنها كانت موصوفة بالجمال، وكانت عفيفة شجاعة، ويدل على ذلك أن رجلاً دخل بيتها متخفياً بزي امرأة لرؤيتها، فكان أن لقنته درساً قاسياً. وكانت جريئة في نشر التوحيد، وذم أهل البدع، وأصحاب القبور، فحينما سارت إلى الحج، مرت بقبر في الطريق، فطلب سادن القبر من قائد راحلتها أن يُقدم هدية لصاحب القبر بدعوى أنه ولي، فانتهره وقال: "لا أقدم له إلا التراب"، فتكلمت فاطمة وهي في الهودج قائلة: "ولا تقدم حتى التراب"، ثم استدلت بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخل الجنة رجلٌ في ذُباب، ودخل النار رجلٌ في ذُباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يُقرَّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرَّب. قال: ليس عندي شيء أُقرب. قالوا له: قرّب ولو ذباباً فقرّب ذُباباً فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرَّب، فقال: ما كُنتُ لأقُرب لأحد شيئاً دون الله - عز وجل -، فضربوا عُنقه فدخل الجنة)).
رحم الله هذه العالمة الداعية المهاجرة في سبيل الله. وقدس الله روحها.
2_ سارة بنت علي بن محمد بن عبد الوهاب: هي حفيدة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -. وابنة الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب، وهو أكبر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصفه مؤرخ نجد العلامة ابن بشر بقوله: "وأما علي ابن الشيخ محمد فكان عالماً جليلاً، ورعاً كثير الخوف من الله - تعالى -، وكان يُضرب به المثل في الدرعية في الورع والديانة، وله معرفة بالفقه، والتفسير، وغير ذلك، وأرادوه على قضاء الدرعية فامتنع منه". وذكر الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله - أنه ولد في مدينة الدرعية، ولم تُعرف سنة ولادته على التعيين، وقد نشأ بها فلما شب شرع في طلب العلم، وكانت حلقات والده عامرة بالعلم، فأخذ يقرأ عليه ويستفيد من قراءة غيره حتى أدرك قسطاً وافراً من العلم. وكانت له منزلة بين العلماء في الدرعية، وكان أحد الذين خرجوا للتفاوض مع إبراهيم باشا عند اشتداد حصار الدرعية، فاتفقوا على أن يخرجوا إلى مصر، فانتقلت سارة مع والدها: علي بن محمد، وأسرتهم مع من انتقل من ذرية الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد سقوط الدرعية سنة (1233هـ).
وعاشت سارة في مصر وسط عائلتها في جو علمي، حيث انشغلوا بالعلم وتدريسه هناك، وحرصوا على نشر العقيدة الصحيحة، وتدريس الفقه، وذلك أن عمها الشيخ عبد الله بن محمد ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1242هـ) وابنه عبد الرحمن بن عبد الله كانا يُدرّسان العلم هناك، بل إن الشيخ عبد الرحمن درَس على مشايخ الأزهر، فأحبه أهل مصر وعلماؤها، فجلس في رواق الحنابلة بالجامع الأزهر يدرس الفقه حتى توفي سنة (1274هـ)، وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد اللطيف كانت لهم جهود علمية أثناء إقامتهم في مصر. وتوفي والدها الشيخ علي بن محمد سنة (1245هـ). وهذا ما يؤكد أن سارة بنت علي عاشت في بيئة علمية، ولم تنقطع عن العلم بسبب الانتقال من بلدتها الدرعية إلى مصر. بل استمرت في طلب العلم، وتعليم النساء التوحيد والفقه. وكان لها اهتمام باقتناء الكتب المخطوطة. ويدل على ذلك ما وجد من شرح صحيح مسلم للنووي، الأجزاء الأول والثالث، ودُوَّن على الجزء الثالث عبارة وقفية نصها: "وقفت هذا المجلد سارة بنت علي..."، وهذه النسخة محفوظة في قسم المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
كما تحتفظ مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض بنسخة من الجزء الثاني من شرح المنهاج، لمؤلفه محمد تقي الدين الفتوحي.
وهذان نموذجان لعنايتها بالكتب، وحرصها على جعلها وقفاً. وفي هذا قدوة للنساء من طالبات العلم، بالحرص على اقتناء الكتب في منازلهن، والاستفادة منها قراءةً وبحثاً، ومطالعةً. فإنها أوعية العلم، وخزائن المعرفة، ومفتاح الثقافة.
وصدق المتنبي يوم قال:
أعز مكان في الدنى سرج سابح *** وخير جليس في الزمان كتاب
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي:
أنا من بدّل بالكتب الصحابا *** لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
صالح الإخوان يبغيك التُقى *** ورشيد الكتب يبغيك الصوابا
وموقف آخر في حياة سارة بنت علي، وهو أن العالمة الداعية لا تنقطع عن نشر العلم والدعوة لسفرها من بلدها، بل تستمر في طلب العلم ونشره في كل مكان تسافر إليه، فالمسلم كالغيث حيثما وقع نفع.
نشر :
إضافة تعليق جديد