أسبابُ انحسارِ البدعِ في القرنِ الرابعِ عَشَر (القسم الأول جهود الملك عبد العزيز في انحسار البدع في شبه الجزيرة العربية)
مركز سلف للبحوث والدراسات
تمهيد:
عاشتِ الأمةُ الإسلامية في القرنَين الثاني عشرَ والثالثَ عشرَ الهجريَّين مرحلةً صعبة من مراحلها وُصفت بعصور الظَّلام، وكذا استمرَّ الوضع حتى منتصَف القرن الرابع عشر، فالأحوال السيِّئة التي كانت تعيشها الأمة الإسلامية والواقعُ المرير الذي كان يعيشُه المسلمون في تلك الفترة والتخلُّف الذي ساد العالمَ الإسلاميَّ كان وراءه أسباب، منها معتقداتٌ فاسدة تهافَتَ الناس إليها؛ هاربين من الجحيم الذي يعيشون فيه، ليجدُوا عندها خلاصًا وفكاكًا مما كان يقَع عليهم كما يتوهَّمون، وكان كلما ازداد الواقع مرارةً تسارع الناس إليها، وأمعَنوا في تصديق تلفيقاتها وأكاذيبها.
فالعالم الإسلاميُّ مِن مشرقه إلى مغربه مسجًّى بزي التصوُف، وبسبب المعيشة التي كان يتمتَّع بها أرباب الطرق في زمن الشدَّة والجوع اتِّكالًا على الأوقاف والهبات التي كانت تنهال عليهم رغِب الناس في طُرُقهم والعيشِ في زواياهم؛ لعلّهم يظفرون بشيء من ذلك المستوى من المعيشة الذي لم يكن متوفّرًا لعامَّة قطاعات المجتمع الأخرى.
وكان الأتراك يحبُّون التصوُّف، ويميلون إلى تقديس أهله والإيمان بصِدق ولايَتِهم.
وبالتأمل في التاريخ نجد أن الصوفية أخذت تنتشر في المجتمع العباسيِّ، ولكنها كانت ركنًا منعزلًا عن المجتمع، أمَّا في ظلِّ الدولة العثمانية وفي تركيا بالذاتِ فقد صارت هي المجتمع، وصارت هي الدين، وانتشرت في القرنين الأخِيرين بصفةٍ خاصَّة تلك القولة العجيبة: “من لا شيخَ له فشيخُه الشيطان”، وأصبحتِ الصوفية بالنسبة للعامة بصورةٍ خاصة هي مدخلهم إلى الدين، وهي مجال ممارستهم للدين.
وامتدَّ هذا السرطانُ في التوغُّل حتى مطلع القرن الرابع عشر، يذكر محمد بن علي السنوسي أن السلطان عبد الحميد كان قد قرَّب إليه ثلاثة من كبار المتصوِّفة في ذلك العصر وهم: الشيخ محمد ظافر المدني الشاذلي (ت 1321هـ)، والشيخ أحمد أسعد المدني (ت 1314هـ)، والشيخ أبو الهدى الصيادي (ت 1328هـ)، ويقول: “ولهؤلاء الثلاثة مقامٌ سامٍ في السلطنة العثمانية يومئذ، مع نفوذٍ في جميع الدوائر”.
وعلى العموم يمكننا مطمئنِّين أن نطلقَ على ذلك العصر الذي نحن بصدَد الحديث عنه أنه عصر الصوفيَّة، فقد أطبقَت على العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، ولم تبقَ مدينة ولا قرية إلا دخلتها، باستثناء نجد وملحقاتها، يقول أحد مفكِّري الهند: “لم تكن في الهند إلا فكرة التصوُّف الباطل، ولم تخل قرية أو مدينة من الزوايا”.
وكانت حياة المسلمين مضطَرِمة بالفتن والأزمات، وعرضةً لكثير من ضروب الطغيان وصُوَر الظلم، وكان اضطرابُ الأمن وانعدامُه سمةً من سمات تلك العصور، حيث تُزهَق الأرواح لأسباب تافهةٍ، بل دون أسبابٍ في بعض الأحيان، وفي هذه الأجواء الحالكة والظروف العصيبة كان أربابُ التصوّف يَحيَون حياةً هادئة، يرفرف عليها الأمن والاطمئنان، بعيدةً عن غوائل الفتن التي كانت تغتال الأفراد وتصيب المجتمعات، “فكثيرًا ما كان يقوم الناس في الأزمات بارتداء ملابس المجاوِرين؛ لينجوا بأنفسهم من الأخطار التي كانت ستنالهم خلالَ تلك الأزمات ولو كانوا من عامَّة الناس”.
وباختصار فإن غياب العلماء الربانيِّين عن الساحة الإسلامية والحرب على السلفية جعلت الجماهير المسلمة تتدفق إلى رحاب الصوفية، وتنزلق في دركاتها؛ لأنه لم يكن في الساحة غيرها.
وقد تجلّت مظاهر الشرك ووسائلُه في تلك الفترة في بناء المساجد والقباب والمشاهد على الأضرحة والقبور، وما يحصل فيها من الاستغاثة والاستعانة بأصحاب هذه الأضرحة في الشدائد والأزمات، ودعائهم من دون الله عز وجلّ، والذبح والنذر لها، والاستشفاء وطلب البرء من الأضرحة.
وباستعراض مَن أحصى تلك الأضرحة نجد القاياتي (ت 1320هـ) قد ذكر عددًا من الأضرحة والمزارات المنسوبة إلى الأنبياء في بلاد الشام في بداية القرن الرابع عشر الهجري، فبلغت أكثر من أربعين ضريحًا. وذكر محمد بن خليفة النبهاني (ت 1369هـ) عددًا من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة في البصرة. ويذكر علي باشا مبارك أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدَها مائتان وأربعة وتسعون ضريحًا. وتذكر الدكتورة سعاد ماهر أن الأضرحة المشهورة يزيد عددها في مصر على الألف. وقد ذكر عبد الرحمن بك سامي الذي قام بزيارة إلى الشام عام 1890م الترب والأضرحة والمزارات في دمشق وضواحيها، فبلغت مائة وأربعة وتسعين موضعًا. أما نعمان قسطالي فقد عدَّ فيها أكثر من أربعة وأربعين ضريحًا، وهذه المشهورة منها، وذكر أن للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبرًا، لكل واحد منها قبّة ويزار ويتبرّك به. وفي الأستانة -عاصمة السلطنة العثمانية- يوجد أربعمائة وواحد وثمانون جامعًا لا يكاد يخلو جامع منها من ضريح. وفي الهند يوجد أكثر من مائة وخمسين ضريحًا ما يزال بعضها موجودًا. وفي بغداد كان يوجد أكثر من مائة وخمسين جامعًا في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقلَّ أن يخلو جامع منها من ضريح. وفي الموصل يوجد أكثر من ستّة وسبعين ضريحًا مشهورًا كلها داخل جوامع.
ووصل الحال لبعض الناس أن يعتصموا بالأضرحة كما جاء في مذكرة الاحتجاج التي قدَّمها حمدان بن عثمان خوجة (ت حوالي 1261ه) بتاريخ 15 المحرم 1249هـ-1833م إلى وزير الحربيّة الفرنسي، وعدَّد فيها الأخطاء التي ارتكبها حكّام الجزائر الفرنسيون وشكايات الجزائريين ضدّهم، وكانت هذه المذكّرة عبارة عن ثمانية عشر بندًا. جاء في البند الثامن منها قوله: “مقتضى ديننا وسياستنا احترام الأولياء واحترام تربتهم، حتى إنَّ مَن هرب إلى تربة وليّ ولو كان عليه قِصاص شرعي لا نخرجه من التربة، بل نترصّد خروجه بنفسه؛ احترامًا لذلك الولي، وتعظيمًا لمن أطاع الله؛ فهي بمنزلة الجوامع في الاحترام واشتراك الناس في زيارتها والاحتماء بها”.
فهذه الأضرحة والقبور هيمنت على حياة النّاس كلها، وقد رتَّبَ بعضهم أجورًا في زيارة قبور الأولياء لا يخطر على بال! ففي مصر يذكر البتنوني أن بعض العوام هناك لديهم اعتقاد سائد أنه: “يجيء يوم ينقطع فيه طريق الحج إلى مكّة، وعندها يحجّ النّاس إلى مقام السيد البدوي في طنطا”([17])، بل إن العامة في مصر لتعتقد فعلًا أن زيارة ضريح البدوي يعدل حجّة كاملة([18]). وفي الهند يعتقد أتباع الشيخ معين الأجميري الذين يُعَدّون بالآلاف أن زيارة ضريح شيخهم سبع مرات يكفي عن زيارة مكّة للحج([19]). وذكر الشيخ رشيد رضا أنه كان مرّة في قبَّة الإمام، وكان ثم جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذَّن المؤذن العصر مستدبرا القبلة، فقلت لهم: لِمَ لمْ يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هو السنة؟! فقال أحدهم: إنه يستقبل ضريح الإمام! وذكر أيضًا أنهم لا ينكرون على من يستقبل قبر الإمام في صلاته.
وقد كان الناس في تلك الحقبة -حكامًا ومحكومين- يحرصون على القيام بالبيعة في رحاب تلك الأضرحة، كما بويع المولى سليمان سنة 1206هـ داخل ضريح المولى إدريس.
هذا، وإن كان الغلو في الأولياء والصالحين قد وصل به الحال إلى ما ذكرنا، فكيف إذن سيكون الغلوّ في مقام النبوة وأهل البيت؟! لذا لا نتعجب ما نراه في المدائح النبوية وما يحصل في المولد إذا كان هذا حاصلًا فيمن هم دون مقام النبوة والصحبة والسلف الصالحين.
وما ذُكر غيضٌ من فيض مما يندَى له الجبين، بل إن ما طال الحرمين الشريفين من البدع والخرافات لم يطل أيَّ بلدة غيرهما من حيث كثرة انتشارها.
ما التغيير الذي حصل في القرن الرابع عشر الهجري؟
بعد قرابة منتصف القرن الرابع عشر الهجري تغيَّرت ملامح الدول الإسلامية، نظرًا للتغيير الحاصل بعد سقوط الدولة العثمانية الحاضنَة للتصوُّف، ووقوع كثير من الدول تحت وطأة الاستعمار ثمّ الاستقلال، ودخلت مرحلة جديدة من ظهور المصلحين الذين سيكون لهم الدور الأبرز في تخليص الأمة وإيقاظها من هذا السبات العميق، وسوف نقسم هذه الجهود إلى قسمين:
القسم الأول: جهود الملك عبد العزيز في انحسار البدع في شبه الجزيرة العربية.
القسم الثاني: دور الدعاة والمصلحين في الإصلاح في العالم الإسلامي.
وسنخصُّ هذه الورقة العلمية بالحديث عن القسم الأول، ونرجئ الكلام عن القسم الثاني في ورقة علمية مستقلة.
القسم الأول: جهود الملك عبد العزيز في انحسار البدع في شبه الجزيرة العربية:
1– هدم الأضرحة والقباب المقامة على القبور:
لم تكن شبهُ الجزيرة العربيةِ بمنأى عما يحصل بباقي ديار المسلمين من انتشار البدع والخرافات، وأخطرُها تعظيمُ البناء على القبور الذي سبق أن بينَّا انتشارَه في ديار المسلمين، والمفاسد التي تترتَّب على ذلك، من التبرُّك بها وطلب قضاء الحوائج عندها.
ولم يكنِ الملكُ عبد العزيز متفرِّدًا بهدم هذه البنايات على القبور، بل هو فعلُ الولاةِ منذ أيام السلف، وفعل أجداده -أمراء آل سعود- من قبل، خاصَّةً ما كان منها في الحرمين الشريفين، قال الشافعي: “وقد رأيتُ من الولاة بمكة يهدم ما بُنيَ منها -أي: ما بُنيَ على القبور- فلم أرَ الفقهاءَ يعيبون ذلك”، وقال ابن القيم: “القباب التي على القبور يَجبُ هدمها كلها؛ لأنها أُسِّسَت على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور”.
ولم يكن في العصور المفضَّلَةِ مشاهدُ على القبورِ، وإنما ظَهَرَ ذلكَ وكثرَ في دولةِ بني بُوَيْه، لَمَّا ظَهَرَت القرامطةُ بأرضِ المشرقِ والمغربِ كان بها زنادقةٌ كفَّارٌ، مقصودُهم تبديلُ دينِ الإسلامِ، وكانَ في بني بُوَيْه من الموافقةِ لهم على بعضِ ذلكَ.
واستمَرَّ بناء القباب في الحرمين الشريفين حتى عهد الدولة السعودية الأولى، فقد بادرت بعد ضمِّها مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى هدم جميع القباب والمشاهد، ما عدا ما كان على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه.
وقد دخل سعود بن عبد العزيز مكة المكرمة عام 1218هـ، وعندما انتهى من الطواف والسعي فرّق أتباعه في أحياء مكة المكرمة، وأمرهم أن يهدِموا القباب التي بُنيت على القبور والمشاهد، وكان في مكَّة من هذا النوع شيء كثير، في أسفلها وأعلاها، ووسطها وبيوتها، فأقام فيها أكثر من عشرين يومًا. وقد استغرق هدمُ تلك القباب بضعةَ عشر يومًا حتى لم يبق في مكة شيءٌ من تلك المشاهد والقباب إلا أزالوها وجعلوها ترابًا.
وعندما دخلت جيوش محمد علي المدينة (عام 1226هـ) ثم سلَّمتها للعثمانيّين عادت القباب وتضاعفت حتى غطَّت معظمَ منطقة البقيع، كما تبيِّن الصور التي التُقِطت في أواخر العهد العثمانيّ، ولما استسلمت المدينة لرجال الملك عبد العزيز بن سعود عام 1344هـ أزال الإخوان تلك القباب، وسوَّوا القبور بالأرض.
أما حال سائر القبور في مكة وجدَّة والطائف فقد أورد العاملي ما فعله أتباع الدعوة السلفية من هدم القباب والأبنية على القبور في عهد الملك عبد العزيز، فقال: “لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأُولى، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قبة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي طالب عمه، وخديجة أم المؤمنين، وخرَّبوا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة الزهراء، ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها كما خربوا قبور من ذكر أيضًا، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يُتبرك بها”.
كما حرص الملك عبد العزيز على هدم القبة المبنية على قبر عبد الله بن السامر في نجران.
وهكذا نجد الملك عبد العزيز قد وضع حدًّا للجهل والممارسات العقدية المنحرفة في بعض المناطق.
2- هدم الأصنام:
ومن صور حرص الملك عبد العزيز على إزالة جميع مظاهر الشرك المنتشرة عند بعض المسلمين والتي كانت تؤدِّي إلى صرف شيء من العبادة لها: هدم صنم الخلصة، وهو صنم من أشهر أصنام الجاهليّة، كان في منطقة تبالة، وهو عبارة عن مروةٍ بيضاء، منقوش عليها كهيئة التاج. وجاء في الموسوعة الإسلامية الميسرة: “ذو الخلصة: اسم بيت، كان بعض العرب يعظمونه في الجاهليّة”. وقيل: الخلصة بيت أصنام، كان لدوس وخثعم ولجبيلة، ومن كان ببلادهم من العرب، وهو صنم لهم، فأحرقه جرير بن عبد الله البجلي حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكّة.
وقد هدم عدّة مرات، ثم بني أخرى، وقد أمر الملك عبد العزيز بهدمه، وكان يقع في منطقة تبالة قرب بيشة، وقد هدم بواسطة عامل الملك عبد العزيز على تلك الناحية عبد العزيز بن إبراهيم، ونكّل بسدنته، وتوعدهم بالقتل إذا عادوا لبنائه.
وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دَوس على ذي الخَلَصة». والمعنى: أنهم يرتدُّون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء دوس طائفاتٍ حول ذي الخلصة، فترتج أعجازُهنّ كما كانت عادتهنَّ في الجاهلية.
3- إقفال الزوايا المنسوبة إلى الطرق الصوفيّة:
لما بسطت الحكومةُ السعودية نفوذها على الحجاز ودخل الملك عبد العزيز مدينة جُدَّة سنة 1344هـ كان من أوائل الأعمال التي قامت بها الدولة السعودية هدم قُبَّة حواء، وقفل الزوايا المنسوبة إلى الطرق الصوفية، وإبطال البدع التي كانت سائدة في ذلك الزمان.
ومن أشهر الزوايا التي تم إغلاقها: زاوية السيد البدوي في محلّة المظلوم قرب سوق الجامع، وهي أشهر الزوايا وأكثرها بدعًا وخرافات. كما كان في حارة المظلوم زاوية أخرى للطريقة القادرية، وفي حارة الشام زاوية للطريقة الجيلانية، وفي العيدروس قريبًا من مستشفى جدّة الحكومي العام زاوية العيدروس.
وهناك زاوية معروفة في آخر سوق الندا، يوجد بها قبر أبو سرير وضريحه.
ومن الزوايا أيضًا: زاوية الشاذليّة بحارة اليمن، وزاوية السنوسي بمنطقة العيدروس، وزاوية الأسنوي بحارة اليمن، وزاوية الميرغني، وزاوية ابن علوان… وغيرها كثير. فلقد كانت الزوايا في بلاد الحجاز كثيرة والطرق عديدة، حتى ذكر أن في جدّة ما يزيد على مائة زاوية.
4– منع الاحتفال بالمواسم البدعية:
الاحتفالات بالمواسم البدعية بدأت في الحجاز منذ عهد الفاطميين، علاوة على ما كانت تحتفل به من الأعياد الدينية جاء عيد المولد النبوي، وعيد مولد السيدة فاطمة، ومولد السيدة خديجة والسيدة آمنة، ومولد علي والحسن والحسين، وأمثال ذلك؛ كيوم عاشوراء وآخر أربعاء من صفر، وليلة أول رجب وليلة أول شعبان، وكذا النصف منه، وغرة شهر رمضان، وأول العام الهجري، وليالي الوقود وهي التي تسبق شهري رجب وشعبان، كلها انتقلت إلى مدن الحجاز من الفاطميين، حيث كانوا يحتفلون بها تقليدًا لتشيُّعهم لأهل البيت، وما كانت مكة تعرفها قبلهم، إلا أن اتباع أمراء مكة والمدينة هذه الحقبة للمذهب الشيعي هو ما أظهر هذه المواسم للسّكان، رغم قلة المعتنقين لهذا المذهب في الحجاز، وذلك من خلال فرض هذه المناسبات على الناس في احتفالات جماعيّة علنية يُعدُّها الأمراء الإعداد المناسب.
وقد بلغ عدد هذه الأعياد والمواسم غير المشروعة أكثر من عشرين عيدًا وموسمًا، وكان بعضها يحظى بعناية خاصَّة لديهم، ومنها: أول العام الهجري، وأول شهر رمضان، والجُمع الثلاث الأخيرة من رمضان.
من المنكرات في هذه الاحتفالات:
اعتاد الناسُ على الاحتفال بهذه المواسم نتيجةً لقلة العلم وانتشار الجهل، وكان العامة يُعنَون بالاستكثار من المناسبات ليحتفلوا بها في صخَب ولعب، فيحتفلون بأول السنة الهجرية، وبآخر أربعاء في صفر، وبمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وبمولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شهر ربيع الأوّل، كما يحتفلون بدخول رجب، وخروج شعبان، وجميع ليالي رمضان، وبالأخص أواخره، فتدق طبولهم، وتشدو مزاميرهم، فيرقصون في حماس على دقات الطبول، ويلعبون بعصيِّهم الغليظة، علاوةً على أيام خاصّة بالطرق الصوفيّة نفسها، حيث تذبح في حفلاتهم الذبائح، وتمد موائد الطعام، وتوزع الحلوى، ويمارس فيها شيخ الطريقة وأتباعه أسلوب طريقتهم، وتتخللها الأغاني، ينشدها المنشدون، وتسير فيها مواكب كبيرة، يتقدمها شيخ الطريقة وأتباعه، ويشترك فيها الدَّهماء والأطفال، وهم يغنّون ما يعتبرونه ذِكرًا، وفي مثل هذه التجمّعات يحدث من المساوئ ما يبرأ منه الذكر الصَّحيح، وما لا يرضاه الخلُق القويم، وقد ظلَّ ذلك حتى أنكره العلماءُ في العهد السعودي الثاني، وأمرت الحكومة بمنعه، وهي في جملتها من البدَع السيئة التي نحمد الله تعالى على تخلّص البلاد منها، فهي منافيةٌ للدين، ومَضيَعة للمال والوقت، ومُلهيَة للناس عن الصالح من الأعمال.
والغالبُ أنَّ هذه الاحتفالات -علاوةً على كونها بدعةً- لا تخلو من وجود الشركيات والمنكرات؛ لذلك منع الملك عبد العزيز إقامة هذه الاحتفالات، أو إحياء ليالي خاصة لمناسبات معيّنة.
5- الحدّ من التبرُّك الممنوع:
قال الأستاذ محمد المغربي: “وإني لأذكر أنه كان في محلة المظلوم قرب سوق الجامع زاوية السيد البدوي، وكانت تعلَّق فيها سبحة من الخشب كبيرة، حجم حباتها مثل حجم البيضة، وكان يدَّعى أنها المسبِّحة التي كان يستعملها السيد البدويّ للذكر، كما هناك جبّة خضراء وعمامة عظيمة وغيرها، وكنت وأنا صغير السنّ أتسلّق الشبّاك لأرى المسبحة والعمامة، وكان عقلي الصّغير لا يسلِّم بصحة ما أرى؛ لأن المبالغة فيها والتهويل واضحان بجلاء”.
ويقول في موضع آخر: “وقد أدركتُ أنَّ هذه السبحةَ أُكذوبة كبيرة، يتسلَّط بها القائمون على الزاوية على عقول السذّج والبُلَهاء، ونحمد الله أن أزيلت هذه البدع، وانتهت هذه التّرَّهات، وعادت العقيدة إلى صفائها ونقائِها؛ لأن العهدَ السعوديَّ قضى على كلّ هذه البدع والخرافات من اليوم الأوّل لتسلُّمه زمام الأمور”.
وقد أمر الملِك عبد العزيز بمنع التمسُّح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، أو الطواف عليه، أو تقبيل القبّة والحوائط.
وأقيمت مكتبة مكان البيت الذي ولِد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أُنشِئت مدرسة مكان دار أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكذلك هدم بيت فاطمة رضي الله عنها في زقاق الصّواغة؛ لأنّ بعض الناس كانوا يتَّخذون من بعض الأماكن الكريمة مقرًّا للشَّعوذة والضحك على بسطاء العقول، وخاصَّةً من الحجاج والجهلة.
وهذا الفعلُ من الملك عبد العزيز رحمه الله يدلُّ على عنايتِه بالمحافَظة على العقيدة الصحيحة، فإنه سمح ببناء مدرسة ومكتبة؛ ليقطعَ الطريق ويغلق الباب على كلِّ من تسوِّل له نفسه بالتبرّك بزيارة هذه الأماكن، أو اتِّخاذها فرصة للشّعوذة والدجل وإفساد عقائد الناس.
هذا من أبرز ما فعله الملك عبد العزيز في جانب المنع والاحتراز للحدّ من انتشار البدع والخرافات، وبالمقابل نجده لم يغفل جانب البناء العقدي، فمن الإجراءات التي اتخذها:
6- العناية بتدريس العقيدة السلفية في الحرمين الشريفين:
لقد أدرك الملك عبد العزيز رحمه الله أهميةَ الحرمين الشريفين في نفوس المسلمين، ووفودهم إلى المسجد الحرام في كلّ عام؛ لذا لم يتأخَّر عن القيام بواجبه في الاهتمام بالحرمين الشريفين من جميع النواحي، سواء المتعلّقة بتصحيح العبادة والسلوك، أو تطوير المكان، حتى يعود الزائر والحاجّ والمعتمر إلى دياره وقد أدَّى عبادته موافقًا لشرع الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليرسخ في قلبه عقيدة السلف الصالح، ومصحِّحًا لما أثير من نظرات خاطئة حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ففي عام 1345هـ صدر نظام التدريس العام في المسجد الحرام بأمر ملكي، ويتبعه في ذلك المسجد النبوي، ومما ورد فيه:
1- يقرأ فقه المذاهب الأربعة والعلوم العربية بكرة وأصيلًا، ودرس التوحيد والتفسير والحديث والوعظ بين العشاءين.
2- يجب على المدرّسين أن يبيّنوا في تقرير العقائد ومباحث الصفات مذهب السلف الذي أجمع عليه أئمَّة أهل السنة على أنه أسلم المذاهب وأحراها بالقبول.
3- يجب على المدرّسين أن يبيّنوا للناس أثناء درسهم أنواعَ البدع التي شوّهت سمعةَ الدين الحنيف، وأنواع الخرافات التي أضرّت بالمسلمين وهبطت بهم إلى الحضيض.
كما استقدم جلالته عام 1345هـ عشرة مدرسين من مصر والشام للتدريس بالمسجد الحرام، وهم من العلماء السلفيين. إضافة إلى استقدام مجموعة أخرى من العلماء الأزهريين للتدريس في المسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي عام 1368هـ.
وهذا الحرص الذي أولاه عنايته قد أثمر غرسه، وطال نفعه أرجاء المعمورة.
7- الاهتمام بنشر العلم وإرسال الدعاة إلى مختلف مناطق المملكة وخارجها:
كان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله يرى أنه إذا نهض العرب مرة أخرى وأخذوا بقسطهم العلمي في سائر العلوم المادية فإنهم لا يأتون ببدعة، بل يُعتبرون مُحيِينَ لعهد أجدادهم الذين ملَكوا ناصية العلم حِقبة من الزمن، وقدَّموا للإنسان خدمات لا تنكر.
لقد كانت حركة التعليم في عهده رحمه الله تسير على الأسس والأهداف الإسلامية النبيلة، وأهمها: اهتمامه بالعلوم الشرعية والعقيدة الإسلامية واللغة العربية كأساس لبناء الفرد المسلم على أسس إسلامية وبلغة عربية صحيحة؛ لأنها رواية وثيقة تقود صاحبها إلى خير الدارين، وتأتي العلوم الأخرى بالدرجة الثانية من الاهتمام، ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن الملك عبد العزيز وضع كل إمكانات الدولة وبذل كل غال ونفيس في سبيل نشر العلم ومحو الأمية والقضاء على الجهل والتخلف وتثقيف الشعب بعد أن كان الجهل سائدا في عموم البلاد.
فلقد كان رحمه الله يرسل المعلمين والدعاة إلى مختلف مناطق المملكة، خاصة التي يرى أنها في حاجة إلى المعلمين؛ وذلك لما في الجهل والبداوة من خطر على مبادئ دعوته السلفية، بما جُبل عليه أهل تلك المناطق التي انتشر فيها الجهل من طباعٍ أورثتها عاداتٍ وتقاليَد تتنافى كليةً مع تعاليم الدعوة ومعطياتها الحياتية المثلى التي تنشد صلاحَ المجتمع وتفاعل أفراده في وحدة متماسكة منضبطة، فضلًا عما يتَّصف به أولئك البدو من خشونة في الصفات وغلظة في الطبع تجعلهم أشدَّ تمنعًا وأصلب تعنتًا في تقبّل الأوامر الصارمة والاستكانة للتعاليم الجازمة.
ومن هنا اتجه الملك عبد العزيز رحمه الله إلى نهج سياسة حكيمة وأسلوب أمثل في معالجة هذه المشكلة. ودرءُ هذا الخطر يكمن في توطين البدو وصرفهم إلى ممارسة لون من ألوان الحياة المستقرة، وتشكيلهم بالعقيدة الإسلامية، وتسليحهم بالعلم الشرعي، بعد أن أمَّن لهم كلَّ متطلَّبات الأمن والمعاش والاستقرار، بما هيَّأ لهم من مناخ زراعي ملائم، والاستكثار من حفر آبار المياه وتوفير الآلات الضرورية للحرث والزراعة، كما خصَّص لكل هجرة ما يلائمها من قوت ومساعدة حالَةَ التعرُّض للآفات والكوارث الطبيعية، كما أبقى لزعماء القبائل وذوي النفوذ مهامَّهم القيادية وما كانوا عليه من علوٍّ في المنزلة وبسطة في الجاه والنفوذ.
كما اهتمَّ الملك عبد العزيز رحمه الله بإرسال الدعاةِ إلى خارج البلاد للتعريف بالمنهج السلفيّ، ودحض الشبه المثارة حولَه. ووجَّه اهتمامه رحمه الله إلى دَعم العلماء السلفيين في البلاد الإسلامية الذين أخَذت أقلامهم تصول وتجول في مناصرة الدعوة السلفية والذبِّ عنها كأمثال الشيخ محمد رشيد رضا، ومحمد حامد الفقي، ومحمد خليل الهراس، وعبد الرحمن الوكيل وغيرهم.
فقد كان للشيخ محمد رشيد رضا جهود طيِّبة في مناصرة الدعوة السلفيَّة وأتباعها، فكتب مقالات عديدةً في صحف مصر ومجلاتها كصحيفة الأهرام ومجلة المنار، يشرح فيها حركة الشيخ ومبادئها وأهدافها، وحالة أتباعها في عصره، وأنهم الأمل الوحيد في إعادة ما للمسلمين من عزّ ومجد؛ لأن عقيدتهم تقوم على مبادئ الإسلام الصحيح كما أنزله الله على رسوله محمد .
وقد ساعد الملك عبد العزيز محمد رشيد رضا وغيره في تمويل طبع الكتب السلفية التي تقوم بطباعتها مطبعة المنار، كما دعم رحمه الله محمد حامد الفقي في طباعة عدد كثير من الكتب على نفقته الخاصة. وفي الشام قام الشيخ محمد بهجت البيطار -بدعم من الملك عبد العزيز- بنشر الدعوة السلفية من خلال نشاطاته الدعوية المتنوعة.
وممن كان له جهد كبيرٌ في نشر الدعوة السلفية في سوريا والذبِّ عنها الشيخ عبد القادر بدران الذي قام بتحرير العديد من المؤلفات في نصرة الدعوة السلفية وخدمة الفقه الإسلامي، وأغلبها طبع على نفقة الملك عبد العزيز، وغير هؤلاء كثير.
8- تأسيس المنشآت التعليمية:
بعد أن ضم الملك عبد العزيز رحمه الله الحجاز إلى نجد بدأ التعليم المنظَّم، بإنشاء مديرية المعارف في مكة سنة 1344هـ، والتي تحولت في عام 1373هـ إلى وزارة مستقلة، وشهدت المملكة خلال تلك الحقبة ميلاد صروح تعليمية كثيرة.
ففي عام 1345هـ أتم الأستاذ الشيخ كامل القصاب ترتيب برنامج المدارس الحجازية، ورفع التقرير لصاحب الجلالة، وروعي في منهاج التعليم أمور لم تراع كلها في أكثر المدارس المنتشرة في البلدان والأقطار.
فالأمر الأول الذي لوحظ في البرنامج الموضوع هو: أن يخرج التلميذ من المدرسة وهو مسلم مؤمن حقًّا، قد تعلم الإسلام وأركانه والإيمان وأركانه علمًا وعملًا.
والأمر الثاني: سيخرج التلميذ بدين راسخ في نفسه، يحمل نصيبًا من العلوم التي تؤهله للازدياد من العلم ثم خدمة بلاده وقومه.
وهكذا نجد هذا الأساس المتين يستهدف كل راغب في التعليم؛ مما أسهم في إخراج جيل موحِّد، متبع للكتاب والسنة، بعيدًا عن البدع والخرافات.
9- الإسهام في نشر كتب الدعوة السلفية:
أدرك الملك عبد العزيز رحمه الله مدى أهمية الكتاب في نشر الدعوة السلفية وتبصير الناس بأمور دينهم؛ فاتجه رحمه الله إلى طبع نفائس الكتب التي تخدم العقيدة الإسلامية، وتساعد في نشر الوعي والثقافة الإسلامية، وبخاصة ما تضمن الذب عن الدعوة الإسلامية والدفاع عنها.
أما سياسة الملك عبد العزيز في طبع الكتب والمخطوطات فإنه كان يأخذ بما يشير عليه العلماء، وكذلك كانت الكتب التي أسهم في طبعها تضم كتب الدعوة والتفاسير المعتبرة، وكتبًا في الحديث والفقه الإسلامي في موسوعاته الكبرى، وكتبا تاريخية عظيمة الفائدة، وكتبا في الأدب وبعض دواوين الشعر.
ويمكنُ لنا أن ندركَ الغايةَ من طبع هذه الكتب وتوزيعها وهي: تعميم الدعوة السلفية، وإتاحة كتب الفقه وغيرها لطلاب العلم.
ولما كانت المطابعُ من أهمِّ الوسائل التي تقوم عليها دعامة نشر العلم وتعميمه فإن الملك عبد العزيز حرص على أن تكونَ هناك مطبعة حكوميَّة، تقوم -إلى جانب طباعة ما يلزم للحكومة- بطباعة كتب أخرى نافعة. وقد طبعت مجموعة من الكتب الإسلامية في هذه المطبعة.
ومن الجدير بالذكر أن جهود الملك عبد العزيز في مجال الكتب اتخذت ثلاثة مسارات:
أ- مسار تمويل طباعة الكتب.
ب- مسار تدعيم ناشري الكتب ماديًّا قبل طبع وبعده.
ج- مسار شراء كميات من الكتب بقصد التوزيع والتشجيع.
10- الموقف من التيارات الفكرية المنحرفة:
حيث سلِمت المملكة بفضل الله ثم بجهود علماء الدعوة السلفية التي جدَّدها الملك عبد العزيز رحمه الله من أن يتسلَّل إليها شيء من الأفكار الهدَّامة والمبادئ المنحرفة التي بُليت بها كثير من البلاد الإسلامية كالقومية والعلمانية والاشتراكية وغيرها، التي دعا إليها أعداء الإسلام، وزرعوا بذورَها بين أبناء المسلمين، وجنَّدوا في سبيل انتشارها الكثيرَ من الوسائل الإعلامية، وبخاصة الصحف السيارة آنذاك كالمقطم والهلال والمقتطف وغيرها، فانجرف في تيارها بعض أبناء المسلمين واغتروا بمظهر الحضارة الغربية المادية، ودَعوا إلى الارتماء في أحضان الغرب ومحاكاته، واعتبروا سبيل التقدُّم كامنًا في السير على مناهج الغربيين وتقليدهم.
ولكن الملك عبد العزيز بإيمانه الراسخ وفكره النيِّر ونظره الثاقب أدرك فساد تلك الدعوى، وبخاصة أنها اقتصرت في تقليدها ومحاكاتها للغربيين على وجه حضارتهم الأسود، وهو ما يتعلق بجوانب السلوك والأخلاق، دون الاستفادة من عطاء الحضارة المعاصرة في جانبها المادي، وإلا فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، يقول رحمه الله: “يقولون: إن المسلمين في تأخر، وبحثوا ليجدوا طريقة لتقدم المسلمين، فما وجدوا طريقة أمامهم إلا أن يقلدوا الأوربيين، ولكنهم لم يقلدوا الأوربيين فيما كان سببا لقوتهم ومنعتهم، بل قلدوهم فيما يخالف ما ينتسب إليه المسلم، وقلدوا ملاحدتهم في الإعراض عن دين الله، ثم هم بعد ذلك يدعون أنهم مسلمون، وأنهم يدافعون عن الإسلام”، ويقول رحمه الله: “قد مضى عشرات السنين على الذين يدعون الناس في السر والعلن بالقول والعمل لتقليد الأوربيين، ولكن من منهم عمل اليوم إبرة، أو صنع طيارة، أو اخترع بندقية أو مدفعا، لقد قلدوهم فيما يخالف أمور دينهم، ويحسبون هذا طريق التقدم”.
وهكذا كان الملك عبد العزيز رحمه الله سدًّا منيعا أمام هذه التيارات الوافدة الفاسدة، كما كان سياجا مانعا ضد الغزو الفكري بمختلف أشكاله، حاميا هذه البلاد من مخاطره وآفاته، محافظا على هويتهما الإسلامية، حيث تمكّن العلماء والدعاة بتوجيه منه رحمه الله من تأليف الكتب في الردود على هذه التيارات وبيان زيفها وضلالها. يقول رحمه الله رافضا تيار العلمانية بدعاواها الزائفة وشعاراتها البراقة ومنكرا دعوتهم فيما يتعلق بتحرير المرأة: “وغير خافٍ أنه قد صار في آخر هذا الزمان دعوى للتمدن، وهي بلا شك رقصة من رقصات الشيطان… وأقبح من ذلك في الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وترقيتهن، وفتح المجال لهن في أعمال لم يُخلقن لها حتى نبذن وظائفهن الأساسيَّة… وادِّعاء أن ذلك من عمل التقدّم والتمدن، فلا والله ليس هذا التمدن من شرفنا وعرفنا وعاداتنا”.
وفي الوقت نفسه اهتمَّ الملك عبد العزيز بحماية مجتمعه -وبخاصة الشباب- من الانزلاق في مهاوي تلك التيارات، فأم رحمه الله بوضع نظام الجمارك الذي يمنع بموجبه دخول الكتب والنشرات والتصاوير المخلة بالعقائد والأخلاق وغيرها.
ختامًا: هذه أهم عشرة أسباب اتخذها الملك عبد العزيز من ضمن سلسلة إجراءات أخرى أدت بطريقة مباشرة في انحسار البدع بعد منتصف القرن الرابع عشر في المملكة العربية السعودية، وكانت نتائجها ظاهرة مع مطلع القرن الخامس عشر؛ إذ كانت النتائج على صعيد المدن والقرى أن أخرجت جيلًا مثقفًا واعيًا، متمسكًا بمذهب السلف، ومدافعًا عنه، لا يرضى بالرجوع إلى الجهل والاستسلام للخزعبلات والخرافات، وهكذا التوحيد إذا أضاءت شمسه وسطع نجمه انقشعت ظلمات الجهل والشرك والخرافة، وانحسرت في غيابة الجبِّ.
نشر :
إضافة تعليق جديد