أسبابُ انحسارِ البدعِ في القرنِ الرابعِ عَشَر (القسم الثاني دور الدعاة والمصلحين في العالم الإسلامي)

مركز سلف للبحوث والدراسات

 تمهيد:

تحدَّثنا في الجزء الأول من هذه الورقة العلمية عن دور الملك عبد العزيز المحوريِّ في إنكار البدع ومحاربتها في المملكة العربية السعودية في القرن الرابع عشر، وفي هذا الجزء الثاني نبذةٌ عن بعض مناطق العالم الإسلامي وكيف عمت الدعوة السلفية بركتها أرجاء المعمورة، وكانت دعوتها بالسِّلم والحكمة والموعظة الحسنة؛ مما أضعف كثيرًا من الفكر الصوفي الطُّرقيّ الذي انتشر على يديه كثير من البدع والخرافات لعدَّة قرون.

القسم الثاني: دور الدعاة والمصلحين في الإصلاح في العالم الإسلامي

شهد هذا القرن نهضةً إصلاحيةً ودعواتٍ للرجوع إلى الكتاب والسنة مصدرًا والسلف الصالح فهمًا ومنهجًا، وذلك في جميع أنحاء البلاد الإسلامية، وسنُسلِّط الضوءَ فيما يلي من سطور على أهم الدعوات الإصلاحية السلفية التي ظهرت في مختلف البلاد الإسلامية.

أولًا: الدعوات الإصلاحية في الخليج:

كان لعلماءِ نجد في القرن الثالثَ عشرَ أثر كبيرٌ في نشر السنَّة والعقيدة الصحيحة في الخليج تعلّمًا وتعليمًا ودعوةً وإرشادًا، وكان لهم دَور بارز مع غيرهم من أهلِ الدعوة في منطقة الخليج عمومًا، والكويت وقطر والبحرين والإمارات خصوصًا، وقدِ امتدَّ هذا الأثر إلى القرن الرابعَ عشرَ.

ويمكن أن نلخِّص أثر علماء نجد في الحياة العلمية بالخليج العربي فيما يلي:

التدريس:
رزَق الله تعالى بعضَ علماء نجد سعةً في الاطلاع وتبحُّرًا في العلوم، ولا سيما الفقه وأصوله، فذاع صيتهم، وعرف الخاصةُ فضلهم، فأسند إليهم الحكام والعلماء مهمَّةَ التدريس ونشر العلم في المدارس والمساجد.

ومِن علماء نجد الذين درَّسوا في الخليج العربي الشيخ راشد بن خنين الذي درس في مدينة الزيارة الأحساء، قال ابن سند في ترجمته: “درَّس فيها العلوم من منثورٍ ومنظوم، وعمر فيها المدارس”.

ومنهم العلامة العالم محمد بن عبدالعزيز آل مانع الحنبلي، وقد تصدَّر للإقراء والتدريس في المدرسة الأثرية في قطر، وكان لهذه المدرسة دورٌ رائد في نشر العلم الشرعي، قال الدكتور محمد منير موسى عنها: “وقدِ استمرت هذه المدرسة الدينية المشهورة طيلةَ رُبع قرن من الزمان، واستطاعت خلالها أن تعلِّم جيلًا من المثقَّفين، كان له الصدارة في القيادة فيما بعد”.

وقد ذاع صيتُ الشيخ محمد، وعرف أهل الخليج مكانتَه، فأرسلوا إليه البعثات؛ ليتعلم الطلاب العلمَ على يديه، ويكفي أن نُشير إلى تلك البعثةِ التي أرسلها عليّ المحمود من الإمارات إلى قطر على نفقته الخاصّة كي تتعلم على يد هذا العالم.

ومن علماء نجد الذين درّسوا في الخليج الشيخ مشعان المنصور النجديّ الأصل، الذي سافر إلى الشارقة ورأس الخيمة، وأسَّس في كلّ واحدة منها مدرسة علمية، وأشهرها: مدرسة الفتح برأس الخيمة، وقد درّس فيها الفقه الحنبلي، وكان من تلامذته فيها الشيخ حميد والشيخ كايد بن محمد القاسمي.

التصدي للدعوات الهدامة:
ظهر في شرق الجزيرة العربية دعوات منحرفة وتيارات تدعو إلى ترك الدين الإسلامي واعتناق الدين النصراني، فما كان من علماء نجد وبعض أعيانها إلا أن تصدَّوا لدعوات المسيحيين.

ومن هؤلاء النجديين الشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر الحنبلي، قال الشيخ عبد الله البسام في ترجمته: “أقام في جزيرة البحرين بعد خراب الدرعية، فقدم البحرين قسيس إنجليزي من المبشرين… ومعه كتاب مؤلف فيه شبهات موردة لتعزيز الدين المسيحي وتوهين الدين الإسلامي، وسلم كتاب الشبهات لحاكم البحرين الشيخ عبد الله بن أحمد بن خليفة، وطلب منه عرضه على علماء البحرين؛ ليجيبوا عليه أو يقرّوا بصحة ما فيه إن عجزوا، فعرضه عبد الله بن خليفة فقالوا: لا نستطيع الردَّ عليه، ولا على دفع الشبه التي فيه… فأعطى خليفة الكتاب لرفيقه ليدفعه إلى الشيخ عبد العزيز بن معمر، فعرضه عليه وقصّ عليه الأمر، وتصفحه ثم أمعن النظر منه وقال: سأعطيكم الجواب عليه بعد شهر إن شاء الله تعالى، فلم يمض الشهر حتى دفع إليهم الجواب السديد، ففرح به حاكم البحرين أشدَّ الفرح، ثم دعا القسيس الإنجليزي وناوله الرد، فلما قرأه دهش من قوة الجواب وسداد الرد، وقال لحاكم البحرين: لا يخرج هذا الرد من علماء هذه البلاد، ولا بد أن يكون من نجد، فقال له الحاكم: نعم هذا جواب أحد طلبة العلم النجديين.

ولما سافر مقبل بن عبد الرحمن الذكير إلى البحرين أسس جمعية ضد التبشير المسيحي.

النصح والإرشاد:
قام عدد من علماء نجد بمهمة الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العقيدة السلفية، ومحاربة البدع والخرافات، ومن أمثلة ذلك: أن القاضي عبد الله بن سعد -وهو من الذين لم يترجم لهم أحد ممن كتب عن نجد- كان يعظ الناس ويرشدهم في أحد مساجد أمارة عجمان بالإمارات، كما قام بمعاقبة الأشخاص الذين لم يؤدوا الصلاة خمس مرات يوميًّا في المساجد.

وذكر محمد بن فيروز أن أحد أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يقرأ مسائل العقيدة في أحد مساجد الأحساء، في جمع يصل إلى ألف شخص.

ثانيًا: الدعوات الإصلاحية في مصر:

ظهرت في مصر كثير من مظاهر الشرك البدع والخرافات، والتي أدت بدورها إلى انحرافات عظيمة في التوحيد، وانتشار الجهل وتبدّل الحقائق والثوابت والمعتقدات، وشيدت القباب على الأضرحة، وأنشئت المساجد على القبور، وأقيمت المزارات والمشاهد، فقصدها القريب والبعيد والعلماء والجهال والكبار والصغار إلا من رحم الله، يطوفون بساحاتها، ويلتزمون أعتابها، وينذرون لها ويذبحون، وغير ذلك من البلاء.

فتأسَّست جماعة أنصار السنة المحمدية على يد مؤسسها العلامة محمد حامد الفقي، وهي من الجمعيات التي أسهمت في ميدان الدعوة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر الهجري، وتعتبر الجماعة امتدادًا لمدرسة الإمام ابن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب، كما انفردت دون غيرها بإخراج كتب المدرسة السلفية وتحقيقها.

والجماعة تهتمّ بأمور العقيدة والتوحيد، ولا تهتم بشؤون السياسة، وتعدّ هذه المدرسة امتدادًا للمدرسة السلفية السعودية، والتي تعتبر معركتها ضدَّ تيار التغريب الثقافي.

والشيخ حامد اشتهر بالنشر والتحقيق أكثر من اشتهاره بالتأليف، وأحسب أن ذلك يرجع إلى شغفه بكتب السلف عامة وبكتب ابن تيمية وابن القيم خاصة، فكان أن جعل همَّه الأكبر في إخراج هذه الكنوز ونشرها في الأمة الإسلامية.

وكان للشيخ نشاط ملموس في مجلتين قام على تأسيسهما والإشراف عليهما وهما:

أولًا: مجلة الإصلاح، والتي تأسست في مكة المكرمة بأمر من الملك عبد العزيز رحمه الله، وبمشورة من الشيخ حامد رحمه الله، وكان تأسيسها في عام 1348هـ.

ثانيًا: مجلة الهدي النبوي، في مصر، وهي التي تركزت فيها جهود الشيخ بكثرة.

وكان الشيخ مقربًا من الملك عبد العزيز رحمه الله، حيث كان الملك يجلّه ويقدّره، فأوكل إليه عدة أعمال.

وعاصر الشيخ رحمه الله عددًا كبيرًا من الدعاة الذين التقى بهم، وعمل معهم في مجال الدعوة إلى الله تعالى.

ومن أبرزهم في السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، والشيخ محمد بن حسين نصيف، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.

ومن أبرزهم في مصر: الشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ أبو الوفاء محمد درويش، والشيخ محمد خليل هراس، والشيخ محمد عبد الظاهر أبو السمح، والشيخ محمد أحمد عبد السلام، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت.

ومن الوطن العربي: من السودان الشيخ محمد عبد القادر الحسن، والشيخ يوسف عمر آغا، والشيخ محمود مختار، والشيخ أبو زيد محمد حمزة، والشيخ نور الدين علي من الصومال، والشيخ محمد بن سالم البيحاني من اليمن، والشيخ محمد تقي الدين الهلالي من المغرب.

ومات رحمه الله وأنصار السنة المحمدية يملؤون الأرض إيمانًا في السودان وسوريا والمغرب والعراق وإندونيسيا وإرتيريا وأكثر بلاد العالم الإسلامي.

وتواكب على رئاسة الجماعة بعد وفاة مؤسسها الشيخ محمد حامد الفقي عام 1959م عدة أسماء، هي: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، ثم الشيخ محمد عبد المجيد الشافعي المعروف برشاد الشافعي، والذي يعد المؤسس الثاني للجماعة، وفي حياته انتخب الشيخ محمد علي عبد الرحيم رئيسًا للجماعة.

وجماعة أنصار السنة كانت تتلقى الدعم المادي من الملك عبد العزيز رحمه الله كما ذكر الفقي ذلك في كتابه “أزهار من رياض سيرة الملك العادل”، وهو صاحب المشاركات الفاعلة في بناء دار أنصار السنة في القاهرة، ذكره د. أحمد محمد طاهر في كتابه “جماعة أنصار السنة النشأة والأهداف”.

ثالثًا: الدعوات الإصلاحية في المغرب:

في أوائل القرن الرابع عشر الهجري وإثر دخول الاستعمار ظهرت دعوات الاجتهاد والرجوع إلى الأصل الصافي للتشريع الإسلامي، وانبثقت في المغرب مدارس وحركات إصلاحية، سنستعرض أهمها وأهم رموزها:

مدرسة عبد الله بن محمد السنوسي (ت 1350هـ):

أتى بها من المشرق بعد طول مكث بها، وكانت تدعو إلى نبذ المذهب المالكي، ونبذ العقيدة الأشعرية، ونبذ التصوف، وهي أقرب في مشربها إلى المدرسة الوهابية بنجد حينها، ومدرسة أهل الحديث بالهند، ونظرًا لتصلب أرباب هذه المدرسة وإبعادهم النجعة عن المألوف؛ اصطدمت بتيار معارض قويّ حينها، ولم يكتب له الانتشار إلا في نهايات القرن الرابع عشر، ومن أبرز أعلام تلك المدرسة تقي الدين الهلالي، ومنه انتشرت ضمن ما يعرف الآن بالتيار السلفي بالمغرب بمختلف توجهاته.

كان الشيخ تقي الدين معجبًا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ناشرًا لكتبه، وكان ينوّه بجهود المملكة العربية السعودية في نشر التوحيد ونبذ الشرك والبدع؛ لأنه عايش الفترة التي سبقت دخول الملك عبد العزيز رحمه الله، وكيف كان أهل مكة والمدينة وما حولهما أيام الملك حسين بن علي عندما حجَّ أول حجة له عام 1341هـ.

أعطاه السيد محمد رشيد رضا توصية وتعريفًا إلى الملك عبد العزيز آل سعود قال فيها: “إن محمد تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه”. فبقي في ضيافة الملك عبد العزيز بضعة أشهر إلى أن عيِّن مراقبًا للتدريس في المسجد النبوي، وبقي بالمدينة سنتين، ثم انتقل إلى المسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي بمكة، وأقام بها سنة.

المدرسة السلفية الوطنية:

وهي المدرسة التي تبنت الحركة الوطنية الحزبية، تربت فكريًّا على يدي محمد بن العربي العلوي (ت 1384هـ)، والذي تخرج على أبي شعيب بن عبد الرحمن الدكالي (ت 1356هـ) المتأثر في بلاد المشرق وما انفعل بها من المذاهب، تأثرت هذه المدرسة بأبي شعيب الدكالي وتلميذه ابن العربي فيما يتعلق بنبذ التصوف والصوفية ومحاربة كل ما يعتبرونه خرافة.

وكان الشيخ الدُّكَّالِي منافحًا عن منهج سلف هذه الأمة، محاربًا للبدع والخرافات، وبهذا شهد له القريب والبعيد، كما أن هذا المنهج الذي ارتضاه هو ما رشَّحه ليكون خطيبًا ومعلمًا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.

قال عنه عبد الله الجراري: “ففي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة قدم إلى المغرب ويمم فاس، وحظي بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبد الحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عزّ نظيره، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وأقبلوا عليه باعتناء كبير، في هذا الظرف شمّر عن ساعد الجدّ لمحاربة البدع ونصر السنة، ومقاومة الخرافات والأباطيل”.

والحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب لم تكن انتشرت في ربوع الحجاز جميعها؛ لأن الذين ناصروه هم آل سعود رحمهم الله، وكانت الحجاز آنذاك لم تدخل في نطاق ولايتهم. وكانت أصداء هذه الحركة تصل إلى رحاب مكة والمدينة وغيرها من أراضي الحجاز عن طريق العلماء الذين كانوا يأتون من نجد لزيارة الحرمين الشريفين، إما للحج أو العمرة.

وكانت تلك الدعوة المنبعثة في ظل المذهب الحنبلي تنحو منحى المطالبة بالدليل في جميع الأحكام الشرعية، فضلا عن نقاء العقيدة على ما كان عليه السلف قبل دخول الأهواء وتعدد الآراء.

وهذا الموقف هو الذي حدا بالشريف الرفيق عون أن يبعث إلى الأزهر لإرسال عالم مطلع على الكتاب والسنة والعلوم الشرعية عمومًا يتولى الخطابة والتدريس والإفتاء في ظل الحرمين الشريفين، وكان من رُشح لهذه المهمة هو الشيخ أبو شعيب الدُّكَّالي رحمه الله.

وقد كان لأحمد بن عيسى النجدي أثر كبير على الشريف عون الذي أتى بالشيخ الدكالي ليكون إمامًا وخطيبًا ومفتيًا في الحرم المكي.

مدرسة ابن الحسن الحجوي والسائح:

كما تبلورت مدرسة فكرية اجتهادية أثرية هادئة، تناغمت مع متغيِّرات العصر بدون اصطدام بالواقع، تدعو إلى الاجتهاد غير بعيد عن المذهب المالكي، وتُعنى بمحاورة الفكر الغربي الطارئ على البلاد، ومقارعته بمختلف الوسائل.

ومن أهم أرباب هذه المدرسة: محمد بن الحسن الحجوي، ومحمد بن عبد السلام السائح، وهي مدرسة أقرب للسقي من علم الأصول منها لعلم الحديث.

رابعًا: الدعوة الإصلاحية في القارة الهندية:

أما الدعوة الإصلاحية التي قامت في الهند فيتصدَّرها الأسرة الغزنوية التي بدأت حركتها الإصلاحية من المحدث الكبير السيد نذير حسين الدهلوي وتلامذته، فكان منهم:

الشيخ المحدث محمد بن عبد الله الغزنوي (ت 1296هـ)، وكان له دور هام في نشر علوم الحديث والعقيدة السلفية في أبناء الهند، وله مؤلفات.

والإمام المحدث الشيخ عبد الجبار بن عبد الله الغزنوي (ت 1331هـ): أسس “المدرسة الغزنوية تقوية الإسلام”، فخدمت السنة والعقيدة، وله دور قيادي في نشر العقائد السلفية، وهو الذي قام لأول مرة بنشر مجموعة التوحيد، ومجموعة الحديث (النجدية)، بأمرتسر (الهند).

وانتقد في كتابه “الأربعين” بعض آراء العلامة أبي الوفاء ثناء الله الأمرتسري في مسألة أسماء الله وصفاته، والشيخ الأمرتسري نفسه رجع عن موقفه حينما دعاهما الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله إلى الرياض، فجزى الله الملك عبد العزيز حيث اهتم بقضية إخوانه في الدين والعقيدة، وأدى واجب النصح، فجمعهم على كلمة الحق.

والشيخ المحدث عبد الواحد والشيخ المحدث عبد الرحيم (ت 1342هـ) ابني الإمام عبد الله الغزنوي: أقاما في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية خمس سنوات على طلب الأمير عبد الرحمن آل سعود، وتصدَّرا للتدريس، فتتلمذ عليهما عدد كبير من آل سعود وأصحاب نجد.

والشيخ العلامة محمد داود ابن العلامة عبد الجبار الغزنوي (ت 1963م): له جهود متضافرة في نشر السنة والسلفية، وتنظيم صفوف السلفيين، وأصدر مجلة علمية دينية باسم: “التوحيد”، كما أسس الجامعة السلفية في لائلفور، وله مقالات علمية في الرد على منكري السنة والقاديانية، واختارته المملكة العربية السعودية عضوًا للمجلس الاستشاري الأول بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وله دور مهم في نشر أفكار ابن تيمية وابن القيم.

والشيخ المصلح عليم الدين حسين النكرنهسوي العظيم آبادي (ت 1306 هـ): قضى حياته في خدمة العلم ونشر الدعوة السلفية، دعا الناس إلى التمسك بالكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، وكان لجهوده أثر بارز في إصلاح عقائد الناس.

والشيخ رحيم بخش اللاهوري (ت 1312هـ): اشتهر بكتابه العظيم “سلسلة الكتب الإسلامية” في 16 جزءًا في فقه السنة النبوية وتعاليم الإسلام النيرة باللغة الأردية، في أسلوب رائع سهل، ويدرس في بعض المدارس السلفية الدينية في باكستان.

والعلامة الشيخ سلامت الله بن رجب علي الجيراجفوري (ت 1322هـ): كان من كبار دعاة السلفية، قضى حياته في الدرس والإفادة والوعظ والتذكير ونشر السنة ومحاربة البدع والمنكرات، كان مرشدًا عامًّا وخطيبًا لعاصمة مملكة بوفال الإسلامية.

والشيخ عبد الحميد بن غلام السوهدروي الفنجابي (ت 1330هـ): أسس “المدرسة الحميدية” في قريته، كما أنشأ جمعية الإصلاح، واشتغل بالتدريس والإفادة والدعوة والإرشاد، وكان لجهوده أثر طيب في إصلاح حال قومه.

والشيخ تلطف حسين العظيم آبادي ثم الدهلوي (ت 1334هـ): له جهود عظيمة، وأنفق مبالغ باهضة في مجال النشر والتوزيع، فنشطت حركة نشر السنة في ذاك الوقت، وقام بتأسيس مدرسة رياض العلوم بدهلي، ولا تزال تؤدي هذه المدرسة دورها الفعال في عصر انقراض مدارس السلفيين في دهلي.

والشيخ المحدث عين الحق بن علي حبيب الجعفري الفلواري (ت 1333هـ): نشأ وتربى في أسرة متصوفة خرافية، ذات عز وشرف، وفَّقه الله عز وجل لإكمال الدراسة على العلماء السلفيين، فاختار السلفية، وترك الشياخة الموروثة، وصار من كبار الدعاة إلى السلفية والسنة، وله جهود طيبة في مجال الدعوة والإرشاد، وكان أحد أعضاء اللجنة الثلاثية المكونة لرفع الخلاف بين العلامة ثناء الله الأمرتسري والعلماء الغزنويين في مسألة الصفات.

هؤلاء بعض تلاميذ المحدث السيد نذير حسين الدهلوي الذين اشتغلوا بخدمة علوم الحديث الشريف، وكان لجهودهم دور كبير في تنشيط حركة السنة النبوية في القرن الرابع عشر الهجري.

وقد أحسن من عدّ الإمام مجدد القرن الرابع عشر، ومجدد علوم الكتاب والسنة ومصلح هذه الأمة، وقد نفع الله بجهود تلاميذه الأمة الإسلامية بما لا يعلمه إلا الله، وقضى الإمام المحدث حياته في الدعوة والإصلاح والإفتاء والتدريس أكثر من نصف قرن، وقد تتلمذ عليه واستجاز منه آلاف من علماء العالم الإسلامي، وقد ذكر أسماء خمسمائة منهم مؤلف “الحياة بعد الممات” في سيرة الإمام المجدد، وقال: “إن هذا الفهرس مختصر جدًّا؛ لأن عدد تلاميذه حسب ما قال لي الشيخ تلطف حسين والحافظ محمد حسين لا يقلّ عن عشرين ألفا، وعدد الذين استفادوا من دعوته وتآليفه وتأثروا بمنهجه لا يقلون عن ثمانية ملايين.

خامسًا: الدعوات الإصلاحية في اليمن:

إذا كانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في تأثيرها قد تخطَّت حدود الجزيرة العربية إلى مناطق متعدِّدة من العالم الإسلامي، فمن باب أولى أن تكون باقي الجزيرة أوّل من فتحت للدعوة صدرها.

ففي اليمن ظهر مجموعة علماء تأثروا بالدعوة، ودعوا الناس إلى مثل مبادئها، وصار لهم أتباع، ووقعت بينهم وبين خصومهم من العلماء الآخرين مناقشات ومنازعات كلامية، ولكن لم تتعدّ حركتهم تلك الحرب الكلامية.

ومن أشهر هؤلاء العلماء الشيخ الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت 1182هـ) الذي دعا أهل اليمن إلى التوحيد وإخلاصه لله تعالى، والبعد عن التوسل بقبور الصالحين المنتشرة في اليمن في ذلك الوقت، أما تأثره بالدعوة فيمكن أن نلمس ذلك من تلك القصيدة الشعرية التي بعث بها إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية، يمدح فيها دعوته ويشيد بأهميتها، يقول في مطلعها:

سلامي على نجد ومن حل في نجد                       وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

وكذلك الشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت 1255هـ) الذي دعا بما يشبه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث دعا إلى التوحيد والاجتهاد ومحاربة البدع والتقليد الأعمى، وألف في ذلك رسالة أسماها” “القول المفيد في حكم التقليد”. وقد تأثر الشوكاني -مثل الشيخ محمد بن عبد الوهاب- بابن تيمية، ويظهر تأثره بالدعوة السلفية من أنه حينما بلغت الشوكاني وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رثاه بقصيدة مطلعها:

مصاب دها قلبي فأذكى غلائلي                وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي

ولهذين العالمين -الصنعاني والشوكاني- منزلتهما العظيمة عند الشعب اليمني حتى الآن، فإذا أضفنا إلى جهود هذين العالِمَين وغيرهما في اليمن إرسال الدعاة والمرشدين للدعوة من الدرعية، ثم توسّع النفوذ السعودي من الناحية السياسية في شمال اليمن حتى وصلت الجيوش السعودية بنفوذها إلى الحديدة عام 1220هـ -في عهد سعود الكبير- عرفنا أثر هذه العوامل كلها في نشر الدعوة السلفية بأنحاء مختلفة من اليمن.

وبعد هذين العَلَمَين يأتي دور بارز للقبيلة الحضرمية اليافعية التي نصرت الدعوة من بداية ظهورها، فقد اتَّصلت بعض الأسر الحضرمية اليافعية بالأسرة الحاكمة في نجد في دورها الأول.

الشيخ عبد الحميد اليافعي:

ففي عام 1205هـ اتَّصل الشيخ عبد الحميد بن قاسم بن علي جابر اليافعي بالإمام عبد العزيز بن محمد آل سعود في الدرعية، وعقد معه حلفًا يقوم بموجبه الشيخ عبد الحميد المذكور بنشر الدعوة في حضرموت، وزوَّده الإمام بمجموعة من الكتب، وبايعهم على نشر هذه الدعوة والذود عنها بكل قوة، ثم انطلقت بعد ذلك إلى المناطق المجاورة، وجعل من منطقته قاعدةً لانطلاقة الدعوة الجديدة، وتأثَّر بالدعوة ابن غرامة حاكم تريم، وقام بدوره بنشر الدعوة، وحصَّل كميةً كبيرة من الكتب، كما تأثَّر بها بعض رجال آل جابر -قبيلة حضرمية مساكنها منطقة ساه ووادي ابن علي، وهم غير آل علي جابر-، وكانت هذه الصلة مستمرة، ولا زالت، خاصة مع آل علي جابر القبيلة اليافعية.

وهذا التحالف يسَّر للنجديين التوغُّل إلى حضرموت بثلاث حملات استطلاعية عسكريّة وهي:

الحملة الأولى: سنة 1221هـ، في عهد السلطان جعفر بن علي بن عمر بن بدر الكثيري، جاء الوهابيون عن طريق العَبْر إلى وادي حضرموت، في حملة استطلاعية عسكرية، وبلغوا إلى شِبام، ثم عادوا أدراجهم إلى نجران.

الحملة الثانية: سنة 1224هـ، وهي حملة ابن قَمْلا، في عهد السلطان علي بن بدر بن علي بن جعفر الكثيري، التي جاءت إلى حضرموت، ونزلت بخَشَامر مسكن آل علي جابر، وكانت انطلاقة الجيش من ذلك المكان([45])، وفي هذه المرة راسلوا الكثير من القبائل الحضرمية، فناصرتهم جماعات كبيرة من قبائل نهد وآل كثير ويافع، منهم الأمير ابن غرامة البُعسي صاحب تريم والنفر الناقِمون على خرافات الصوفية في حضرموت.

ويرى البعض أن هناك سببين لهذه الحملة:

الأول: الاستنجاد بالوهابيين بسبب ظلم العلويين لعلي بن أحمد الكاف، حيث لم ينصره أحد منهم، فاستنجدَ بالوهابيين، وقيل: الذي استنجد هو المنصب الحداد، عندما عارضه البعض في وضع التابوت على قبر جده.

والثاني: هو بسبب تقصير الفقهاء وسكوتهم عن المظالم التي تفشَّت، ولم يسمعوا لعلوي بن محمد المشهور، فابتلوا بهذا، وهو ما يسمونه بـ: (نصفة علوي المشهور).

وقد مكث الوهابيون في حضرموت زهاءَ أربعين يومًا، وحاولوا الامتدادَ إلى الساحل، فيَذكر بعض المؤرخين أن فرقةً من الجيش الوهابي توجَّهت إلى الشِّحْر، وأقامت هذه الفرقة العسكرية معسكرًا لها في منطقة الخور، ولكنهم -كما يروى- لم يهدموا شيئًا من القباب في الشِّحْر، وكان ذلك في عهد السلطان الأمير ناجي بن علي بن بريك الذي التقى بابن قملا، وناصره على الذود عن حياض الشريعة المطهرة، فكان يأخذ العهد على كل من يدخل الشحر بالالتزام بالصلاة.

الحملة الثالثة: سنة 1226هـ، وهي حملة بحرية كانت عن طريق الباطنة شرق مدينة الشِّحْر، وأدت المهمة نفسها التي أدتها الحملة الثانية، وعادت دون أن يتعرض لها أحد.

الابن يحيى بن عبد الحميد بن علي جابر يجدّد العهد:

وفي عام 1227هـ زار الابن يحيى بن عبد الحميد بن علي جابر الأرض السعودية، والتقى الإمام سعود بن عبد العزيز -الملقب بسعود الكبير- ليجدد معه ما قد أبرمه أبوه عام 1205هـ من معاهدات، وذلك بعد اثنين وعشرين عامًا من اللقاء الأول، وقد جاء اللقاء الثاني ليزيد من أواصر التواصل، ويقوي العلاقات بهدف نشر الدعوة السلفية، إذ كان الوقت حينها مهيَّأ في حضرموت لمزيد من الانتشار.

وفي القرن الرابع عشر الهجري حجّ الشيخ عبد الله حبيب بن علي جابر، وزار الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود بعد استيلائه على الحجاز بعامين، ومعه الوثائق المتعلقة بالمراسلات ووثيقة الحلف، فكرمه الملك عبد العزيز وأكرمه، وأرسله سفيرًا إلى السلطان القعيطي يطلب منه إقامة الشريعة والاحتكام على كتاب الله وسنة رسوله، فأجاب السلطان القعيطي: “أمامك المحاكم الشرعية في كل مكان، ودولتنا وجدت لإقامة الشريعة”، وكتب بذلك إلى الملك عبد العزيز، وسرّ سرورًا كثيرًا بذلك.

سادسًا: الدعوات الإصلاحية في إندونيسيا:

في إندونيسيا لم يكن انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية شاملًا لبلاد إندونيسيا كلها، ولكن ذلك اقتصر على أكبر جزرها وهي جزيرة سومطرة -جنوب الملايو-، ولعل لوجود المعوّقات الطبيعية في الجزر الإندونيسية الباقية دورها الكبير في ذلك.

يرجع تاريخ دخول الدعوة السلفية فيها إلى أوائل القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي، حينما عاد ثلاثة من أهل الجزيرة إلى جزيرتهم عام 1218هـ/ 1803م، وقد أدوا فريضة الحج في مكة المكرمة.

وكانت هذه فرصة لأن يشاهدوا عن كَثَب الآثار الإيجابية لدخول الدعوة السلفية دينيًّا وسياسيًّا في الحجاز، فاتَّصلوا بعلمائها، واطَّلعوا على مبادئِها حتى اقتنعوا بها، ثم عادوا إلى جزيرتهم سومطرة وقد تأثَّروا تأثّرًا عميقًا بالدعوة.

وما إن وصل هؤلاء الرجال إلى جزيرتهم حتى أخذوا بالدعوة هناك إلى التوحيد، وحاربوا البدع والخرافات في بلادهم، حتى صار لهم قوة كبيرة من الأتباع، اعتمَدوا عليهم في محاربة خصومهم من غير المسلمين وهم البتك، عند ذلك رأت حكومة الاستعمار الهولندي في إندونيسيا أن في هذه الحركة خطرًا كبيرًا عليها وعلى نفوذها السياسيّ والدينيّ الصليبيّ في البلاد، فبدأت في عام 1821م بمناهضة هذه الدعوة بشدة، واستمرت المناوشات والحروب بين أتباع الدعوة وبين المستعمرين الهولنديين قرابة ستة عشر عاما، انتهت بالقضاء على نفوذ أتباع الدعوة السلفية في الجزيرة.

وعلى الرغم من قضاء حكومة الاستعمار الهولندي على حركة الدعوة في سومطرة إلا أن أتباعها ظلوا متمسكين بها، واستطاعوا نشرها بالطرق السلمية، ولاقوا في ذلك نجاحًا كبيرًا.

ويجب أن لا ننسى أثرَ انتشار مجلة (المنار) هناك -التي أسسها الشيخ رشيد رضا في مصر- في انتشار الدعوة السلفية في إندونيسيا بشكل أكبر من ذي قبل.

ومما هو جدير بالذكر أن اتصالَ مسلمي تلك الجزيرة وما جاورها بأصحاب الدعوة السلفية في الجزيرة العربية لم ينقطع بعد ذلك، فعندما دخلتِ الحجاز في حكم الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله عام 1344هـ وفد عدد كبير من طلاب العلم المسلمين من سومطرة وجاوة وجزائر الهند الشرقية إلى مكة والمدينة، ودرسوا مبادئ الدعوة السلفية على شيوخ الدعوة، ثم عاد أكثرهم إلى بلادهم داعين للدعوة السلفية وناشرين لها، وكان لذلك دوره الكبير في تصحيح عقيدة المسلمين هناك من البدع والخرافات المنتشرة بينهم، وفي نشر دين الإسلام في تلك المناطق التي لم يصلها الإسلام بعد.

وممن عاد إلى إندونيسيا متأثرًا بالدعوة السلفية الكياهي الحاج أحمد دحلان الذي جلس يتعلم في مكة ثلاثة أعوام، ثم عاد وأسس الجمعية المحمدية في عام 1330هـ بمدينه جوكجاكرتا جاوه الوسطى، أسَّسها على ضوء تعاليم الكتاب والسنة لما رأى تخبط الناس في الخرافات والبدع، متأثرًا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وهي من نشط الجمعيات الإسلامية في العمل الدعويّ، تعتمد في عملها على قطاع التعليم وإنشاء المدارس والجامعات وبناء المستشفيات والعيادات الصحية، حيث لا تكاد تجد مدينةً إلا وفيها مدارسها.

وأنشأ جماعة من آل باعلوي وغيرهم جمعية تدعى “جمعية خير” في جاكرتا، ولعلها أول الجمعيات العربية، وفي سنة 1905م أنشأت هذه الجمعية مدرسةً وهي الأولى من نوعها، ولو أن التعليم فيها لا يتجاوز الكتابة والقراءة ودراسة مبادئ اللغة العربية والدين، وكانت الخرافات منتشرة انتشارًا هائلًا.

وهذه الجمعية هي التي لها فضل عظيم على الإندونيسيين عمومًا، وعلى الجالية العربية خاصة، حيث إنها هي السبب في انتشار الدعوة الإصلاحية بعد استقدامها الشيخ أحمد السوركتي من مكة، وصار مديرًا لمدرستها في جاكرتا عام 1330هـ، وناظرًا لبقية مدارسها إلى عام 1332هـ حيث قدم استقالته لظروف أحاطت به.

جهود الشيخ أحمد السوركتي في نشر السنة ومحاربة البدعة في إندونيسيا:

جمعية الإصلاح والإرشاد الإسلامية:

أنشأها على منهج أهل السنة والجماعة، حيث ورد في القانون الأساسي للجمعية العبارة التالية: “المذهب الرسمي لجميع مدارس هذه الجمعية هو مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه، وفي العقائد مذهب أهل السنة والجماعة”.

وافتتح فروع الجمعية ومدارسها في جميع أنحاء إندونيسيا، ويتنقل بينها من تدريس وإدارة واستشارة إلى أن توفي رحمه الله.

مجلة الذخيرة الإسلامية:

مجلة شهرية أنشأها السوركتي، وكان أول إصدار لها 1 المحرم 1342هـ، وكان غرض الشيخ من إصدار المجلة كما قال: “والغرض الوحيد من هذه المجلة المدافعة عن الدين بما نستطيعه… وفي العزم أن نبني خطة الدفاع على أربعة أصول:

الأول: بيان حقيقة ما ينسب إلى الدين ويروى عن الشارع من غير طرق اليقين.

الثاني: رد الشبه الواردة من المعاندين ببراهين العقل والنقل الصحيحة، بأوجه تؤدي إلى إقناع من يريد الحق وتقنعه الحجة دون المتعنِّتين.

الثالث: بيان محاسن الإسلام وأوجه ملاءمته لكل أمة في كل زمان ومكان، بالأدلة الواضحة المعقولة المقبولة لدى ذوي الطباع السليمة الخالية من الهوى والتعصب، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.

الرابع: حثّ المسلمين على التمسّك بوسائل الرقيّ والأسباب الشريعة، ليدخلوا في صفوف العاملين، ولئلا يكون حجة على الإسلام”.

تأليف الكتب والرسائل:

بالإضافة إلى كتاباته في المجلة كانت للشيخ إسهامات في التأليف في الدعوة إلى السنة وتصحيح معتقدات الناس، فألَّف في الفقه والآداب والعقيدة والمناهج والأدب، ومن مؤلفاته: صورة الجواب، وتوجيه الإخوان إلى آداب القرآن، والمسائل الثلاث، والوصية العامرية، والآداب القرآنية، وأمهات الأخلاق، وإتحاف العباد في تفنيد مزاعم الحداد.

وعلى سبيل الإجمال والاختصار يمكن تصنيف أعمال الشيخ أحمد السوركتي على النحو التالي:

1- التدريس في مدارس الإرشاد بجاكرتا، وفتح المدارس التخصصية لإعداد المعلمين.

2- عقد الرحلات إلى فروع الإرشاد لنظارة مدارس الإرشاد، وعقد الدورة التدريبية المكثفة لمعلميها واختبار تلاميذها.

3- استقبال الوفود والضيوف من كل فئة من الناس في سبيل الإجابة على أسئلتهم وحل مشكلاتهم.

4- إلقاء المحاضرات والدروس العلمية.

5- المشورة لجمعية الإرشاد في مجال التعليم.

6- تأليف الكتب والرسائل.

ومن جهوده الإصلاحية: قضاء جمعية الإرشاد على الهيمنة التي كان يمارسها العلويون، حتى قام جماعة من العلويين بإنشاء وحدة علوية سموها: “الرابط العلوية” لتوحيد جبهة آل باعلوي؛ ليتمكنوا من مقاومة تيار نهضة الإرشاد.

ومن جهوده الإصلاحية: دحض ادعاءات القبوريين وإظهار بطلان ما يدعون إليه، فقد كان لهم صولة في إندونيسيا وجولة، لهم مكانة في قلوب الجهال من الناس، وقد قلبوا دين الله رأسًا على عقب، فبذل الشيخ أحمد السوركتي قصارى جهده في ردهم إلى دائرة الإسلام وإلى إخلاص العبادة لله، غير أن أكثرهم أبوا وأعرضوا عنه -وهم العلويون-، فأقاموا الدنيا وأقعدوها حين صدع الشيخ بدعوة الحق… وهذا أحد تلاميذ الشيخ يصف أحوال العلويين قائلًا بعد أن استطرد في ذكر أفاعيل العلويين ضد الشيخ أحمد: “فما هو الداعي إلى كل هذا؟ وما هي الجناية التي جناها السوركتي حتى استحق بها هذا السخط العظيم؟ نعم، كان العلويون يعبدون قبور آبائهم وأجدادهم”.

وقد أثنى على الشيخ السوركتي معاصروه من تلامذته وأقرانه، ومن جاء بعدهم ممن عرف حقيقة دعوته. ومما يدلّ على عظيم الأثر ما قال عنه محمد بن عبد الرحمن بن شهاب -أحد أقطاب باعلوي وأحد أركان الرابطة العلوية بل مؤسّسها الأول- في كتاب أرسله إلى الشيخ أحمد السقاف رئيس مدارس آل باعلوي يومئذ، وهذا نصه: “كنا لا نعتاد غير رؤية أصحاب الأردية الخضراء والسبح الرقطاء، من يخضبون لحاهم، ويطوفون البلاد طولًا وعرضًا للاستجداء والتسوّل، فقد أنعم الله علينا بالشيخ السوركتي، الرجل العالم الصالح، وحصل على يديه نفع كثير وخير جزيل”.

وكان جلاله الملك لا يزال مهتمًّا بجمعية الإرشاد حتى بعد وفاة السوركتي رحمه الله، وفي ذلك دليل على أنَّ العلاقة لم تكن لشخصٍ أو لغرضٍ دنيوي، إنما كانت لله.

سابعًا: الحركات الإصلاحية في الجزائر:

كان من أولويات فرنسا عند استيلاء قواتها على الجزائر سنة ١٢٤٦هـ محو عروبة الجزائر وإسلامها، فشنَّت حربًا لا هوادة فيها على الثقافة العربية الإسلامية في طول البلاد وعرضها، حيث بدأت بالعمل على تهديم صروح الثقافة المزدَهرة في الجزائر منذ القرنين (١٠/ ١١هـ).

في هذه الأجواء المظلمة المكفهرة حيث السلطات الفرنسية سادرة في غيها، تمعن في جرائمها وطغيانها تنكيلًا وأذًى جسديًّا وروحيًّا بالشعب الجزائري الصامد في مواجهة مخططاتها وأساليبها القمعية، ظهر ابن باديس ليبلسِم قلوب الجزائريين وجراحاتهم، ويعيد الأمل إلى نفوسهم بمستقبلهم، ويبدِّد الظلام من حولهم بنور دعوته الإصلاحية النهضويَّة، التي يرى فيها أن الجهود الفردية لا تَدحَر الاحتلال؛ لذلك انطلق من فكرة أنَّ الإصلاح لا يؤتي أُكُله إلّا إذا كان للمسلمين قوةٌ وشوكة، وهذه القوة لا تكون إلا عن طريق جماعة منظَّمة تخطِّط وتفكر وتنفِّذ، فكان أن ولدت من رحم هذه الفكرة سنة ١٣٤٩هـ “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” برئاسة ابن باديس نفسه، باني النهضتين العلميـة والفكريـة بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وكان لسان حالها “جريدة الشهاب”.

كانت دعوة ابن باديس دعوةً دينيةً سلفيةً خالصة، تتميز بالانفتاح والتجديد، وتجافي الجمود والانغلاق، تقاوم الاندماج -فرنسة الجزائر أو ضمّها إلى فرنسا-، وتنادي بالمحافظة على الصبغة العربية الإسلامية للجزائر.

جهود ابن باديس في إصلاح عقائد الناس ونشر السلفية:

نادي الترقي ملتقًى للمثقفين:

في الحقيقة أن ابن باديس كان يرى في المرحلة الأولى من نشاطه الإصلاحيّ أن يركِّز على النواحي الدينية والثقافية، وأن يخفِي أهدافه السياسية لتحرير الجزائر تحت ستار الحركة الدينية؛ كي يتهرب من غدر الاحتلال الفرنسي الغاشم وبطشه الشديد؛ لذلك نراه -في ظل هذا المناخ المضطرب- يشجِّع لقاءات المثقفين في نادي الترقي الذي تأسَّس في مدينة الجزائر عام ١٣٤٥هـ، فكان بمثابةِ واحد من أهمّ مشاعل النور الذي أضاء الطريق أمام شعب الجزائر العربية للتحرر من نير الاحتلال الفرنسي واسترداد عروبة الجزائر وإسلامها.

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:

هذا في الوقت الذي كان فيه ابن باديس يعدُّ العدة لتأسيس جمعية تضمّ العلماء وترعى النهضة الثقافية والدينية منذ عام ١٣٤٤هـ، وهي الجمعية التي رأت النور سنة ١٣٤٩هـ/ ١٩٣١م. ويبدو أن الحركة الإصلاحية في الجزائر التي قادها ابن باديس نفسه ورفيق دربه البشير الإبراهيمي كانت وثيقةَ الصلة بمؤثرات حركة التجـديد الإسـلامي التي بدأها في الشرق الإسـلامي الشيخ محمـد بن عبد الوهـاب وجـمـال الـديـن الأفـغـاني ومـحـمـد عـبـده ومـحـمـد رشـيـد رضـا وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم من رواد هذه الحركة الإصلاحية النهضوية في العالمين العربي والإسلامي.

ولا ريب أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة ابن باديس عند تأسيسها كانت جمعية دينيةً في الظاهر، تسعى إلى العمل من أجل تنقية الدين من الشوائب التي علقت به والبدع التي التصقت به، فضلًا عن دورها في نشر اللغة العربية وإنشاء مدارس في مختلف أنحاء الجزائر.

إنشاء المدارس والصحف:

أدرك ابن باديس أن عناصر القوة للتأثير في المجتمع الجزائري ونجاح الدعوة للنهضة في مجال الإصلاح الديني والاجتماعي والوطني لا يتحقق إلّا عبر وسيلتين أساسيتين: المدارس والصحف.

أما ما يتصل بالمدارس فسرعان ما انتشرت في مختلف أنحاء الجزائر، فقد بلغ ما فتح الإصلاحيون منها -جمعية علماء المسلمين الجزائريين خاصة- حتى العام ١٣٦٥هـ حوالي ١٥٠ مدرسة موزعة في مختلف أنحاء الجزائر، وقد وصل عدد تلاميذها إلى أكثر من ٤٠ ألف طالب، أي: ثلث عدد التلاميذ المسجلين في ذلك الوقت في المدارس الفرنسية. نجح الإصلاحيون بزعامة ابن باديس استكمال إنشاء المدارس بافتتاح النوادي الفكرية والثقافية في معظم المدن الجزائرية على غرار “دار الحديث” التي تم تأسيسها في تلمسان بتشجيع الإبراهيمي وتبنيه للمشروع سنة ١٣٥٣هـ.

أما فيما يتعلق بنشاط ابن باديس الإصلاحي عن طريق الصحافة، والذي جعله في المرتبة الثانية بعد دور المدرسة فحركة التربية والتعليم العربية الإسلامية، فإنه لا شك كان مؤثرًا وفعالًا على كافة الشأن الجزائري، خاصة جراء دعوته لمقاومة الاستعمار وعملائه، وكان على يقين بالدور الفعال الذي تمارسه الصحافة في توعية الجماهير والتأثير في أصحاب القرار، فكانت صحف “المنتقد” و”الشهاب” و”الإصلاح” و”صدى الصحراء” أولى هذه الصحف الإصلاحية الداعية إلى الله على بصيرة، فكانت هذه المجموعة من الصحف الأسبوعية لجمعية العلماء “السنة المحمدية” و”الشريعة المطهرة” و”الصراط السوي” و”البصائر”، وهي صحف ختمت أيامها كما بدأت في وسط المعركة الحامية الوطيس بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والعدل والظلم، والخير والشر، وهذه الصحف كلها لسان حال جمعية العلماء التي عملت لخير الأمة.

وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة