اتفاق عقيدة علماء نجد وعلماء مكة
فوزي بن عبد الصمد فطاني
الاجتماع خير ما نادت به أصوات العقلاء؛ إذ به يهزم الأعداء، وتسود الأمة، وبدونه يذهب ريحها، ويتفرق شملها. وخير الاجتماع ما كان اجتماعًا على الحق؛ وأعظم الحق: معرفة الرب وتوحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
وقد كان في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب محاولة لجمع كلمة المسلمين على الحق ورأب الصدع؛ بالرجوع إلى منهج السلف الصالح، وبَذَل الشيخ في سبيل ذلك جهودًا يعجز عن وصفها البيان، فكانت غرة في جبين الزمان.
ولما كانت مكة المكرمة مهبط الوحي، ومهوى أفئدة المسلمين، يثوبون إليها عامًا بعد عام كانت مكانتها في نفس الشيخ أعمق، فهي محط أنظار العالم أجمع، وملتقى العلماء من أرجاء المعمورة، وقد أدرك الشيخ أهمية التواصل مع علمائها، ومدى تأثيرهم على دعوته سلبًا أو إيجابًا؛ لذا كان يرسل من حين لآخر من علماء نجد من يقوم بمهمة إيصال الصورة الصحيحة للدعوة الإصلاحية، وبيان ما فيها من الحق.
وقد شهد التاريخ مواقف كثيرة لعلماء الدعوة النجدية وتواصلهم المستمر مع علماء مكة المشرفة للتباحث حول قضايا العقيدة، وعلى مرور ثلاثة قرون؛ بدءًا من الدولة السعودية الأولى وانتهاء بدخول الملك عبد العزيز مكة، وانضوائها تحت حكمه وسلطانه.
* ففي عام ١١٨٤هـ أرسل الشيخ محمدُ بن عبد الوهاب والإمامُ عبد العزيز بن محمد بن سعود الشيخَ عبد العزيز الحصين إلى والي مكة الشريفِ أحمد بن سعيد -بطلب منه-، وكتبا إلى الوالي المذكور رسالة موحدة مفادها: أنه ممتثل الطلب، وسيرسل إليه طالب علم؛ ليجتمع بعلماء مكة، فإن اجتمعوا فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة. كما بيَّن في الرسالة أن الله قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته فكيف بنا يا أمته؟! فلا بد من الإيمان به ولا بد من نصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر. وأحق الناس بذلك وأولاهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم.
فلما وصل الشيخ عبد العزيز الحصيّن نزل على الشريف واجتمع مع بعض علماء مكة عنده، وتفاوضوا في ثلاث مسائل:
الأولى: ما نُسب إلى علماء نجد في مسألة التّكفير بالعموم.
الثانية: هدم القباب التي على القبور.
الثالثة: دعاء أموات الصّالحين للشّفاعة.
فذكر لهم الشيخ عبد العزيز أنّ نسبة التكفير بالعموم إلى علماء نجد زور وبهتان. وأمّا هدم القباب التي على القبور فهو الحقّ والصّواب، وليس لدى العلماء فيه شكّ. وأمّا دعاء أموات الصالحين وطلب الشّفاعة منهم والاستغاثة بهم في النّوازل فقد قرّر أئمة العلماء أنّه من الشرك الذي فعله القدماء، ولا يدّعي جوازه إلا مُلْحِد أو جاهل. فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أن الأمر على ما ذكر، واقتنعوا واعترفوا أنّ هذا دين الله، وهو مذهب الإمام المعظّم.
وانصرف عنهم الشيخ عبد العزيز مبجّلًا معزّزًا.
* وفي عام 1204هـ أرسل شريف مكة غالب بن مساعد كتابًا إلى الأمير عبد العزيز بأنه يريد رجلًا عارفًا من أهل الدّين يعرّفه حقيقة هذا الأمر ليكون فيه على بصيرة، فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصيّن، وكتب معه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة لعلماء مكة، في رد ما أشيع عنه أنه يسب الصالحين، وأنه على غير جادة العلماء، ويدَّعي الاجتهاد. وكان مخالفوه قد رفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب، وذكروا عنه أشياء يستحي العاقل من ذكرها.
* وفي عام 1211 هـ، أرسل أمير مكة الشريف غالب بن مساعد إلى الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، يطلب منه أن يرسل إليه رجلًا من أهل العلم يبحث مع علماء مكة المشرفة، فبعث إليه الإمام عبد العزيز الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان الحنبلي في ركب، فلما وصل الشيخ حمد بن ناصر مع رفقائه إلى مكة وقضوا عمرتهم جمع الشريف علماء مكة، ثم جرت المناظرة في جلسات عديدة، وحضر هذه المناظرة من أهالي الحجاز الخلق الكثير والجم الغفير. ومما جرى في جلسات المناظرة أن علماء مكة من الحنفية والمالكية والشافعية سألوا الشيخ حمد بن ناصر عن مسائل عديدة، فأجابهم عن ثلاث مسائل.
والمسائل الثلاث التي وقع الجواب عنها هي:
المسألة الأولى: ما قولكم فيمن دعا نبيًّا أو وليًّا واستغاث بهم في تفريج الكربات؟
المسألة الثانية: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يُصَلِّ، ولم يُزَكِّ، هل يكون مؤمنًا؟
المسألة الثالثة: هل يجوز البناء على القبور؟.
فوقعت المناظرة، واحتد النقاش، وبدت ملامح التوفيق وقوة الحجة والبرهان في الظهور والبيان لمن تمسك بما كان عليه السلف الأعلام، حيث ظهر الشيخ حمد بن ناصر على المناظرين بذلك، ثم ختم كلامه بقوله: “وليكن هذا آخر الكلام على هذه المسائل الثلاث، فإن وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب، وإن زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم من الكتاب والسنة؛ فإنهما الحاكمان بين الناس فيما تنازعوا فيه؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
وقد ذكرنا لكم الأدلة من الكتاب والسنة وكلام الأئمة، فإن لم تسلموا لهذه الأدلة فاذكروا لنا جوابها من الكتاب والسنة وكلام الأئمة، فإذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل إن شاء الله”.
* وفي عام 1218هـ دخل الإمام سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- مكة، وبسط نفوذ الدولة السعودية عليها. وعرض الأمير على العلماء ما يطلبه من الناس ويقاتلهم عليه وهو: إخلاص التوحيد لله تعالى وحده؛ وعرّفهم أنه لم يكن بينه وبينهم خلاف له وقعٌ، إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه باقي أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه.
فوافقوه على استحسان ما هو عليه جملة وتفصيلًا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق -لا سيما العلماء-، ويقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم: “لدينا أدلة ما نحن عليه”، ويطلب منهم المناصحة، والمذاكرة، وبيان الحق.
كما قام الأمير بإزالة جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع ودفع الضر بسببه، من البنايات على القبور وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد الله على ذلك.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحباني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له. فأخبرناه بأنا مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف؛ التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال طريقة الخلف أعلم”، وأطال في بيان العقيدة السلفية، ومن طالع هذه الرسالة (التي كتبها الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عَلِمَ مذهب أبيه الذي يدعو الناس إليه.
قال محمد كرد علي -رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق-: “ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل على أنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه، وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل، وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين”.
وقال خير الدين الزركلي: “وكان مع الأمير سعود ابن الإمام عبد العزيز يوم دخول مكة في المرة الأولى (1218هـ)، وسأل بعض الناس عن عقيدتهم؛ فكتب رسالة اشتملت على معاني دعوة أبيه، ودحض بها ما كان يرميهم به خصومهم”.
ومما جاء في هذه الرسالة:
“- ونحن أيضًا: في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلَّدَ أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لعدم ضبط مذاهب الغير؛ كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
– ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة في غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة؛ فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.
– ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر؛ كإمام الصلاة؛ فنأمر الحنفي والمالكي -مثلًا- بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين؛ لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة؛ فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين. فإذا قوي الدليل أرشدناهم للنص وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادرًا جدًّا.
– ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه.
– ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجَلِّها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم.
– وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمُناوي على الجامع الصغير.
– ونحرص على كتب الحديث، خصوصًا الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون: أصولًا، وفروعًا، وقواعد، وسيرًا، ونحوًا، وصرفًا، وجميع علوم الأمة.
– ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.
– وأما ما يكذب به علينا -سترًا للحق، وتلبيسًا على الخلق- بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رِمّة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب؛ لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق: أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه…؛ فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولًا كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئًا من ذلك، أو نسبه إلينا؛ فقد كذب علينا وافترى”.
وبهذا يتبين لنا: أن منهج علماء الدعوة النجدية في الإصلاح كان قائمًا على العلم وتعظيم الدليل، واتباع المنهج القويم؛ منهج السلف الصالحين، ولم تكن هذه الشذرات سوى نماذج من رسائل أئمة الدعوة النجدية في الدولة السعودية الأولى.
* وتجري عجلة التاريخ لتقف على عتبة عام 1343هـ، ففي شهر ربيع الأول من هذا العام كتب الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود والشيخ محمد بن عثمان الشاوي رسالة، وعرضوها على علماء مكة، فكتبوا عليها بالموافقة، ووضعوا أسماءهم فيها.
وقد احتوت رسالة الشيخين على عدة أمور، منها: الحث على فعل الخيرات وترك المنكرات، وأن الموجب لتحرير هذا الكتاب هو النصيحة والشفقة، والمعذرة إلى الله في الإبلاغ، وأن الله أمر عباده بعبادته، وأن العبادة خالص حق رب العالمين، لا يجوز صرفها إلى غيره، لا ملك مقرّب ولا نبي مرسل، فضلًا عن غيرهما من الأولياء والأشجار والأحجار.
ومن أشكل عليه شيء من ذلك فليسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وليراجع تفاسير الكتاب العزيز؛ كتفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، وغير ذلك من تفاسير أهل السنة، وليراجع كلام المحققين؛ كالأئمة الأربعة فمن بعدهم من علماء السُّنَّة، وليراجع تصانيف شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنه إن كان منصفًا طالبًا للحق رأى ما يثلج الصدور ويزيل الإشكال من الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية، والحق ضالة المؤمن، ثم بعد ذلك الاهتمام بشأن الصلوات في أوقاتها في الجماعات، والمحافظة على شرائطها والطمأنينة فيها.
وأعظم المنكرات الشرك ووسائله وذرائعه الموصلة إليه؛ كالبناء على القبور وإسراجها واتخاذها عيدًا، وتحرّي الصلاة عندها. وكذلك ارتكاب ما حرمه الله من الزنا، والسرقة، وشرب المسكرات على اختلاف أنواعها، وخيانة الأمانة، وأكل أموال الناس بالباطل؛ كالمعاملة الربوية والغش، وبخس المكاييل والموازين، وكذلك شهادة الزور، واليمين الغموس التي يقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
وهذا رد علماء مكة على هذه الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده:
أما بعد: فقد اطلعنا نحن الواضعون أسماءنا فيه أدناه على هذه الرسالة المنسوبة لحضرة الشيخ عبد الرحمن بن داود وحضرة الشيخ محمد بن عثمان الشاوي، فوجدناها مشتملة على الحق والصواب، واعتقادنا أن دعاء الأموات وطلب الحوائج منهم بقول: يا فلان أغثني أو أنقذني، وأنا في حسبتك، أو طلب جلب نفع منهم أو دفع ضر، أن هذا شرك وكفر يحل الدم والمال، وكذلك جميع ما فيها من إخلاص أنواع العبادة لله تعالى، وتحريم البناء على القبور وإسراجها وما يتبع جميع ذلك هو عين الحق والصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تحريرًا في اليوم الحادي والعشرين شهر ربيع الثاني من عامنا هذا عام الثالث والأربعين والثلاث مائة والألف.
* وفي ليلة الجمعة 8 جمادى الأولى سنة 1343هـ وصل السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل بجيوشه إلى مكة، وفي اليوم التالي خرج أعيان مكة من الأشراف والعلماء والتجار والمطوفين وغيرهم في الأبطح للقاء السلطان.
ثم تحدث معهم الإمام عن أمور كثيرة تخص إدارة الدولة، وتطرق لموضوع العقائد، وما أشاع الناس عنهم من الباطل، وكانت قد دنت ساعة العصر، فأذّن الشيخ عبد الله بن حسن بوقت الصلاة، وطلب تأجيل البحث لاجتماع آخر، فقال الشيخ حبيب الله الشنقيطي: إذا أردنا المناظرة في بعض المسائل مع علماء نجد، فيقتضي أن يعرف كل واحد طبيعة الآخر، حتى إذا أقيمت عليه الحجة يذعن لها ولا يزعل، فقال الإمام: ما دام المرجع كتاب الله فلا نزعل في شيء.
ثم انفضّ الاجتماع على أن يجتمع نخبة علماء نجد مع نخبة علماء مكة للتفاهم والتعارف.
ولما أراد الإمام السير للحرم قال له الشيخ حبيب الله الشنقيطي: إن أمور البدع في الدين كنا نحذر الناس منها في دروسنا، ولكن الأمر ليس بيدنا لنزجرهم عنها، فقال له الإمام: إننا خُدّام لطلبة العلم، وكل ما أفتونا به أنفذناه على وجهه، فهم المسؤولون والمبيّنون، ونحن المنفّذون، وبذلك انفرط عقد الاجتماع، وذهب الناس إلى صلاتهم.
وكان من توصيات هذا الاجتماع: أن يجتمع نخبة علماء نجد مع نخبة علماء مكة للتفاهم حول بعض المسائل وللتعارف.
* ففي صباح يوم الاثنين 12 جمادى الأولى سنة 1343هـ اجتمع علماء نجد مع علماء مكة ليشرح كل فريق ما عنده من العقائد لأخيه، فدار البحث بينهم في المسائل الأصولية من العقائد والمسائل الفرعية، وبعد تمام البحث اتفقوا على نشر البيان الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
من علماء حرم الله الشريف وأئمته: الشيخ حبيب الله الشنقيطي، والشيخ عمر باجنيد أبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ حسين بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ عبد الله حمدوه، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن صديق جان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي، إلى من يراهم من علماء الحكومات الإسلامية وملوكهم وأمرائهم:
أما بعد: فقد اجتمعنا نحن المذكورون مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الوهاب بن زاحم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين، فجرى بيننا وبين المذكورين والمحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة في مسائل أصولية،
منها: أن من أقرّ بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتى بمكفّر -ينقض إسلامه- قولي أو فعلي أو اعتقادي أنه يكون كافرًا بذلك، يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قتل.
ومنها: من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر، أو يقرّبونه إلى الله زلفى، أنه كافر، يحلّ دمه وماله، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أن ذلك شرك، فإن الشفاعة ملك لله، ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وهو لا يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله؛ كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]، وهو لا يرضى إلا التوحيد والإخلاص.
ومنها: تحريم البناء على القبور وإسراجها وتحري الصلاة عندها، أن ذلك بدعة محرمة في الشريعة.
ومنها: أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه، فهو مبتدع مرتكب حرامًا.
ومنها: أنه لا يجوز الحلف بغير الله، لا الكعبة، ولا الأمانة، ولا النبي، ولا غير ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)).
فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين، ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا -معشر علماء الحرم الشريف- وبين إخواننا علماء نجد، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وفي عام 1344هـ أصدر علماء مكة نداءً عامًّا، بعد أن عقدوا مع علماء نجد عدة اجتماعات بحثوا فيها عن العقائد الدينية التي جاء بها الإسلام، ومما اتفقوا عليه:
1- أن الله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته.
2- أن عبادة غير الله شرك أكبر.
3- الشفاعة ملك لله وحده، ولا تكون إلا لمن أذن الله له.
4- زيارة المقابر على ثلاثة أنواع: شرعية، وبدعية، وشركية.
5- الحلف بغير الله منهي عنه.
6- الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بمجرد المعصية.
7- إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، والسمع والطاعة لهم في غير معصية -عدلوا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة، والمحافظة على الجماعة، والتبرؤ إلى الله من طريق الخوارج والمعتزلة، الذين يرون الخروج على الأئمة بمجرد الجور والمعصية.
وألقى في أحد تلك الاجتماعات الشيخ عبد الله بن بليهد -رئيس القضاء في مكة المكرمة- خطابًا بليغًا، بيَّن فيه العقائد التي يعتقد بها علماء السلف في أبواب متنوعة، ومن الموضوعات العقدية التي تطرق إليها في خطابه: أنواع التوحيد، وأنواع الشفاعة، وأنواع زيارة القبور، والعبادات التي لا تصلح إلا لله، وحقيقة الشرك، ومقام النبوة والأولياء والصالحين، وبيَّن أنه لغلبة الجهل وخفاء العلم وبُعد العهد بإرشاد النبوة التبس الأمر على أكثر الناس، وخفي عليهم ما هو في غاية الوضوح؛ لضعف البصائر وغلبة العوائد.
ووافق عليه الحاضرون من علماء مكة؛ لأنهم لم يجدوا فيه قولا يخالف ما جاء به الكتاب الكريم، ولا السنة الصحيحة، ولا ما كان عليه السلف الصالح.
ثم جمعت هذه اللقاءات في رسالة صغيرة طبعت بعنوان: “البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد”.
وبعد هذا التطواف في الأحداث العلمية العقدية التي دارت بين علماء نجد وعلماء مكة خلال ثلاثة قرون، نخلص إلى أن العقيدة السلفية كانت حاضرة في كل هذه المناظرات والنقاشات؛ إذ كان الانتصار للدليل السمة البارزة فيها، وأن العلماء اتفقوا على مسائل كثيرة من هذه العقائد، وأن الحق ظاهر لا يخفى على من ابتغاه، والحمد لله على هداه.
نشر :
إضافة تعليق جديد