الدلائل في إثبات أن صراع الدعوة الإصلاحية مع خصومها عَقَديٌّ لا سياسيٌّ

فيصل بن قزار الجاسم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب قد امتُحنت بمعارضة شديدة، لا سيما في بداياتها، على مختلف الأصعدة، وفي جميع الجبهات؛ الداخلية والخارجية، ومن مختلف الطبقات: الأمراء والعلماء والعامة، وعلى مختلف المستويات؛ الدولية والقروية والبدوية.

ومع كلّ هذا الصراع، وعلى شدة الخصومة، فقد كتب الله للدعوة الانتشار والقبول، حتى صارت العاقبة لها، رغم الجهود العظيمة التي بُذلت لقمعها وطمسها ووأدها، لكنّ الأمر على ما قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}، وعلى ما في قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.

وقد حاول بعض المعارضين المعاصرين ومن انخدع بهم من بعض محبّي الدعوة عموماً، تصويرَ الصراع الذي جرى في تلك الفترة على أنه صراعٌ سياسيٌّ اصطبغ بصبغة الدين والعقيدة، وأنّ المقصد الحقيقي من وراء تبني آل سعود للدعوة هو بسط النفوذ، وتوسيع السلطة، والحصول على المكاسب السياسية والمادية، هذا من جهة أصحاب الدعوة الإصلاحية وذوي السلطة فيها.

ومن جهة معارضي الدعوة وخصومها السياسيين، كالعثمانيين والمصريين والأشراف، ورؤساء الأقاليم والقرى والبلدان فقد ادّعي أيضًا أن معارضتهم للدعوة كانت سياسية، ولم يكن الدافع لها دينياً عقدياً، وأنّ الخلاف العقدي والجانب الديني استُغلّ لتبرير الصراع، وتسويغ المعارضة.

وكلّ من عَرَف وخَبَرَ حقيقة ما جرى من الخصومة، ووقف على أحداث الصراع وتفاصيله وجزئياته يعلم قطعاً بطلان هذه الدعوى في الجهتين؛ جهة أصحاب الدعوة، وجهة خصومها، ويوقن بأن الصراع كان عقدياً دينياً بالدرجة الأولى، وإن اصطبغ في بعض أحداثه بالصبغة السياسية، وأنّ حقيقة الخصومة كانت على ما جاءت به الدعوة الإصلاحية من التوحيد والعقيدة، المستلزم للحكم على المعارضين بالضلال قبل مجيء هذه الدعوة، وهو ما دفع كثيراً منهم إلى إنكارها والامتناع من قبولها والانصياع لها، استكباراً أو جهلاً أو حسداً وبغياً أو خوفاً من فوات مصالح دنيوية.

وهذه سُنّة ماضية، وسكة مسلوكة قديماً وحديثاً، كما في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وفي قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، وفي قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}، وغير ذلك من الآيات.

وانظر إلى ما ادّعاه فرعون في دعوة موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}.

وفي هذه الحلقة سنذكر الدلائل المبيِّنة والمؤكِّدة على أنّ الصراع كان صراعاً عقدياً دينياً، وأنّ الخلاف العقدي كان المحرّك الرئيس للمعارضة والخصومة وما تبعها من القتال، وأنّ المصالح السياسية في بعض الصراع كانت دافعاً ثانوياً لا أصلياً.

الأوجه الدالة على أن الصراع كان صراعاً دينياً لا سياسياً:

الوجه الأول: تكفيرُ المعارضين للإمام محمد بن عبد الوهاب واستحلالُ دمه ودم أتباعه

من الأوجه الدالة على أن الصراع عقديٌّ دينيٌّ: تكفيرُ الخصوم والمعارضين للشيخ ووصفُه بالضلال، واستحلالُ دمه ودم أتباعه، وقد سبق في الحلقة الخامسة نقلُ نصوصهم في تكفير الإمام وأتباعه، كما قضى به علماء مكة، وعلماء نجد في وقت الشيخ، وما أفتى به مفتي الدولة العثمانية، وغيرهم.

وقد أُطلق هذا التكفير والتضليل والدعوة لا تزال في مهدها قبل اقترانها بقوة السلطان، وكانت هذه الأحكام التي أطلقها الخصوم الدينيون المنتسبون للعلم المحرّكَ الرئيسَ للرؤساء والأمراء والوجهاء لمعارضة الدعوة ومحاربتها، يوضحه الوجه الثاني.

الوجه الثاني: أن المعارضة بدأت قبل نشأة الدولة في الدرعية

مخالفة المعارضين وخصومتهم لدعوة الشيخ بدأت قبل نشأة الدولة، بل قبل البدء بتطبيق مبادئها والذي كان مبدؤه في العيينة، فقد بدأ الشيخ دعوته في حريملاء التي قَدِمَ إليها قادماً من البصرة والإحساء ملتحقاً بوالده الذي انتقل إليها سنة 1139هـ، وكان قدوم الإمام محمد بن عبد الوهاب على والده ما بين عامي 1143-1147هـ حسب ما ذكره المؤرخون، وقد تعرّض الشيخ في حريملاء لبعض الإيذاء بسبب دعوته حتى همَّ بعض سفهائها بإيذائه.

قال مقبل الذكير: (سليمان بن محمد بن سحيم الخصم الديني الألد للشيخ محمد، وهو أكبر من قاوم دعوة الشيخ لمّا كان في حريملاء وفي العيينة). [«العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية»، خزانة التواريخ النجدية ٧/١٢٢]

وبعضُ الرسائل التي بعثها الشيخ جواباً على بعض معارضيه كانت في فترة وجوده في حريملاء، وأما أكثرها فكان في الفترة التي عاشها في العيينة والتي انتقل إليها بعد وفاة والده سنة 1153ه، وقبل انتقاله إلى الدرعية سنة 1157ه.

ومعلوم أن بقاء الشيخ في حريملاء وما لقيته دعوته وقتها من المعارضة، لم يكن بسبب مصالح سياسية، إذ لم يكن الشيخ وقتها مدعوماً من أمراء حريملاء حتى يُدّعى هذه الدعوى، بل كان حاله فيها كحال غيره من سكانها.

الوجه الثالث: المعارضة السياسية لدعوة الشيخ كانت قبل انتقاله إلى الدرعية

إنّ المعارضة السياسية لدعوة الشيخ من أمراء النواحي والأقاليم كمعارضة زعيم بني خالد في الإحساء كانت قبل انتقال الشيخ إلى الدرعية، أي قبل تكوين الدولة، ولذلك كتب زعيم بني خالد إلى أمير العيينة عثمان بن معمّر يأمره بقتل الشيخ أو طرده ويتوعده إن لم يفعل، ومعلوم أنه لم يكن ثمة تهديدٌ عسكري يخشاه زعيم بني خالد حتى يدفعه إلى هذه المعارضة إلا ما كان عليه الشيخ من الدعوة إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وابن معمّر أمير العيينة لم يكن بقوة زعيم بني خالد أمير الإحساء، ولا قريباً منه، حتى يخشى نفوذه.

قال ابن غنام: (ثم إن الشيخ لمّا أعياهم ردُّ ما قاله من تلك المسائل الجليلة عدلوا إلى ردّها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم الظالم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والحسا، وكان قبّحه الله مُغرماً بالزنا، مجاهراً به، غير مختفٍ به، وحكاياته في ذلك مشهورة، وقصصه فيه غير محصورة، فأغروه به، وصاحوا عنده، وقالوا: إن هذا يريد أن يُخرجكم من ملككم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويحسم مادة الأمكاس والعشور. فلما خوّفوه بزوال محبوبه، وتفويت مطلوبه، كتب إلى عثمان المذكور يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه، وألزم عليه في ذلك غاية الإلزام، وشدّد عليه في حصول القصد والمرام، وصرّح في المكتوب بأنك إن لم تفعل المطلوب فمالُك عندنا مستباح، وليس علينا في ذلك من جناح). [«روضة الأفكار والأفهام» 2/3]

وقال ابن بشر: (فلما اشتهر أمره -أي: الشيخ- في الآفاق بذلك بلغ أمره سليمان بن محمد رئيس الإحساء وبني خالد، وقيل له: إن في بلد العيينة عالماً فعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً يتهدّده فيه إن لم يقتل الشيخ أو يخرجه من بلده… فأرسل -أي: ابن معمّر- إلى الشيخ ثانياً، وقال: إن سليمان أمَرَنا بقتلك، ولا نقدر إغضابه ولا مخالفة أمره، لأنه لا طاقة لنا بحربه…).  [«عنوان المجد» 1/39]

وهذا يؤكد أن الذي دفع أمير الإحساء إلى تهديد ابن معمّر وأَمْرِه بقتل الشيخ هو ما عليه الشيخ من الدعوة إلى التوحيد، وما قام به من الأمر والنهي، وإقامة الحدود، وإبطال المكوس، مما يخالف ما عليه عامّة رؤساء نجد وأمرائها.

إيراد وجوابه:

فإن قيل: إنّ معارضة أمير الإحساء كانت سياسية بالدرجة الأولى خوفاً على سلطانه من تنامي قوة ابن معمّر في العيينة.

فالجواب من وجهين:

الأول: عدم التسليم بذلك، فإن ظاهر ما ذكره المؤرخون أن الذي أغرى أمير الإحساء وحرّضه على تهديد ابن معمّر هو ما قام به الشيخ من الدعوة والأمر والنهي، ولذلك قال ابن بشر: (وقيل له: إن في بلد العيينة عالماً فعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فأرسل سليمان إلى عثمان كتاباً يتهدّده فيه).، وقال ابن غنّام: (فلما خوفوه بزوال محبوبه، وتفويت مطلوبه، كتب إلى عثمان المذكور يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه).

قلت: وهذا ظاهر في أنّ ما نُقل إلى أمير الإحساء من أقوال الشيخ وأفعاله، وخوفه من فوات محبوبه من المحرَّمات والمكوس هو ما أغضبه وحَمَله على الكتابة والتهديد.

الوجه الثاني أن يُقال: لو سلّمنا بأنّ الدافع الحقيقي وراء موقف أميرِ الإحساء من الشيخ سياسيٌّ لا دينيّ، فإنّ الذي صرّح به أمير الإحساء متذرّعاً به وعازياً كونه سبب غضبه وتهديده لابن معمّر هو ما قام به الشيخ من الدعوة والأمر والنهي، لا الخوف من تنامي قوة العيينة، ولا شك أن العبرة إنما هي بما يصرّح به الإنسان ويقوله ويُظهره لا بما يُضمره ويُسِرُّه، فمن أعلن معارضة دعوة التوحيد، وأظهر كراهة الأمر والنهي، وأنكر إقامة الحدود واستقبحها، وأظهر ذلك بلسانه، فهو محكومٌ بكفره وردّته، مع قطع النظر عمّا في قلبه وما يضمره في نفسه، وهذا هو أصل معارضة الأمم لأنبيائهم، فإنّ الأنبياء لم يُعارَضوا ويُكذَّبوا جهلاً بدعوتهم، أو لعدم وضوح حججهم وبراهينهم، وإنما كُذِّبوا وعورِضوا استكباراً وعلواً، فَجَحَدت أقوامهم ما جاءوا به من الحق، وأنكروا بألسنتهم ما هم موقنون به في قلوبهم، كما قال تعالى في قوم فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، وكما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.

وهذا أصلٌ من أصول الحكم على الأعيان، وهو أن الأحكام في الدنيا تُجرى على ما ظهر من الأقوال والأفعال، لا على ما بطن واستتر.

فإذا كان هذا هو حكم من عارض دعوة التوحيد وأحكام والشريعة بلسانه فقط دون فعله وقلبه، فكيف بمن عارضها بلسانه وفِعله، بأن استفرغ وسعه وبذل جهده في حَربِ دعوة التوحيد، وسَعَى في طمسها ووأدها في مهدها خشية انتشارها، واستغل نفوذه وسلطانه في التنفير عنها، وتهديدِ من دخل فيها وآمن بها واتبعها، فهل يشك مسلمٌ بكُفرِ من كان هذا حاله وردّته؟!

الوجه الرابع: تهديد بعض أمراء القبائل البدوية لكل من آوى الشيخ من البلدان

مما يؤكد أن المعارضة كانت دينية لا سياسية: ما ذكره صاحب «لمع الشهاب» من تهديد أمير قبيلة عنزة لابن معمر، وتهديده.

حيث قال: (وشاع أمره في نجد، فسمع بذلك سليمان بن شامس العنزي، وكان كبير قومه البداة، وكانوا ينزلون طرف العارض، فأرسل إلى كبار اليمامة من تميم وغيرهم أن هذا أمرٌ حدث عندكم، وقد أخرجه فلان العالم منكم –يقصد الشيخ- فإياكم ومتابعته، ولا تجعلوا له مسكناً ولا مأوى في اليمامة، فإن بلغني عنكم إبرارُه وإكرامُه لأركبن عليكم برجال وفرسان، ولأجول عليكم بعنزة كلها).  [«لمع الشهاب» ص69]

قلت: ومعلوم أن أمراء القبائل البدوية ليس لهم ملكٌ يخشون زواله بدعوة الشيخ، ولا لهم أرض يخافون دخولها تحت نفوذ دولة الدعوة، إذ الإمارة فيهم وراثية لا يُمكن انتزاعها بقوة خارجية، كما أنهم بدوٌ رُحّل يَتْبَعون مواضع القَطْر ومنابت الزرع، فأرضُهم كلُّ مورد ماءٍ ومنبت زرعٍ، متى شعروا بتهديدٍ في أرض رحلوا عنها.

وهذا يؤكد أن خصومة هذا الأمير البدوي للشيخ وإنكاره دعوته لم تكن خوفاً على إمرته، ولا خشيةً من زوال أرضه، بل كانت على ما دعا إليه الشيخ من التوحيد، وما قام به من الأمر والنهي وإقامة الحدود.

الوجه الخامس: موقف أشراف مكة من الدعوة قبل قوة الدولة في الدرعية

مما يؤكد أن المعارضة التي لقيتها دعوة الشيخ كانت دينية عقدية لا سياسية: الموقف الذي اتخذه أشراف مكة من الدعوة، فإنهم قابلوها بالتضليل والتكفير، ومكاتبةِ الباب العالي وإغراء السلطان العثماني على غزو نجد لوأد الدولة الناشئة، فالشريف مسعود بن سعيد، وكان قد تولى شرافة مكة ما بين عامي 1146هـ و1172ه، قد كاتب الحكومة العثمانية سنة 1162ه يُحرّضها على غزو الدرعية ووأد الدعوة، في وقت لم يكن ثمة تهديدٌ يخافه أشراف مكة على ملكهم، قريباً كان أو بعيداً، فإن الدولة في الدرعية كانت في تلك الفترة فتية في أول نشوئها، ولم يمتد نفوذها ويعظم سلطانها إلا بعد تلك السنة بمدة طويلة.

قال إسماعيل حقي جارشلي: (لقد أرسل الشريف مسعود عريضة إلى الحكومة في 1162ه/1749م أشار فيها إلى وجود شخص من أهالي العيينة، وهي إحدى قرى نجد، يُدعى محمد بن عبد الوهاب يصدر اجتهادات، وقد ردّت الحكومة على عريضة الشريف بكتاب جوابي في سنة 1163ه طلبت فيه إقناعَ هذا الشخص، وأمرت واليَ ولاية حبش ومتصرفَ جدة وشيخَ الحرم المكي عثمان باشا بأن يعمل بنشاط مع أمير مكة المكرمة بهذا الخصوص).

ثم أورد المؤلف في الحاشية الفرمان السلطاني: (أمرٌ إلى أمير مكة المكرمة حالياً الشريف مسعود دام سعد… لقد ظهر شخص سيئ المذهب «bed mezheb» في العيينة، وهي إحدى قرى نجد في جهة الشرق، وقام بإصدار اجتهاداتٍ باطلةً ومخالفةً للمذاهب الأربعة، ونشرِ الضلالة والترغيبِ بها، وبناء على إعلامكم إيانا واقتراحِكم السابق، فإن عليكم المبادرةَ إلى زجر وتهديد المفسدِ المذكور وأتباعِه بمقتضى الشرع المطهر، وإمالتِهم إلى طريق الصواب، أما إذا أصروا على معلنتِهم فإن عليكم إقامةَ وتنفيذَ الحدودَ الإلهيةَ الواجبةَ شرعاً، وقد أصدرت إليكم يا شريف مكة المشارَ إليه أمري هذا خطاباً، ولما كنتم قد أبلغتم الدولةَ العلية في كتبكم الواردة إلى دار السعادة (إسطنبول) بحاجتكم إلى الإمدادات والمعونات بسبب تمكن الملحد من كسب سكان المناطق إلى جانبه بكل الحيل، بحيث لم يعد ممكناً التقربُ من تلك الأطراف، فإن التقاعس بخصوص هذا الشخص المذكور (محمد بن عبد الوهاب) سيؤدي إلى ظهور حاجةٍ إلى قوات أكثرَ عدداً لمحاربة الشخص المذكور، لقد صدر أمر السلطاني بخصوص سيركِم ضد الشخص المذكور واستئصاله، وأن إيذاءهم بسيف الشريعة وتطهيرَ الأراضي المقدسة (منهم) يعتبر عقوبةً «سياست» لهم وواجباً يفرضه الدين، ولأجل تسديد مصاريف رواتب ومؤن العسكر الذين ستقومون بتسجيلهم لهذه المهمة فقد أنعمت عليكم بمبلغ 25 كيس رومي من الأقجات من إرسالية مصر لسنة 1163ه… [أرشيف رئاسة الوزراء – وثائق الداخلية تصنيف جودت – الرقم 6716 أواسط شوال 1164ه]. [«أشراف مكة المكرمة وأمراؤها في العهد العثماني» ص179-180]

قلت: وهذا ظاهرٌ في أنّ الدافع إلى تكليف السلطان العثماني شريف مكة بقتال الدرعية ووأد الدعوة، إنما هو الجانب الدينيّ الشرعي الذي دعا إليه الشيخ وأقامه، وليس الجانبَ السياسي.

يؤكده: أنّ الدولة العثمانية لم يمتد لها نفوذٌ في نجد قبل ذلك بحيث تخشى زواله بظهور دعوة الشيخ وتنامي قوة الدرعية حتى تأمر شريف مكة بغزوها.

وعدمُ امتداد نفوذ الدولة العثمانية إلى نجد ليس لعجزها عن ذلك، وإنما لعدم رغبتها فيه، إذ لا مصلحة تعود على الدولة العثمانية في اجتياز تلك الصحاري الكبيرة حيث لا ماء ولا زرع، ولا منفعة في السيطرة عليها، ولذلك أَهملت الدولة العثمانية تلك الأراضي واكتفت ببسط نفوذها على المناطق الساحلية المهمة من الجزيرة والحرمين وطرق القوافل.

قال الوكيل السياسي البريطاني ديكسون (١٢٩٨-١٣٧٨هـ): (ولكنّ الأتراك لم يستطيعوا في وقت من الأوقات ادعاء ملكية تلك الأراضي من الجزيرة العربية الواقعة وراء المنطقة المحيطة بالبحر الأحمر مباشرة، وفي القرن التالي دَفَعَتهم الحركات الوطنية من هناك فلم تتعدّ سيطرتهم على الجزيرة العربية طرق الحج من دمشق والقاهرة). [«الكويت وجاراتها» 1/108]

وقال الباحث لي ديفد كوبر: (في بداية القرن الثامن عشر الميلادي كان السلطان العثماني لا يزال في نظر الناس خادم الحرمين الشريفين، ولكنّ نفوذه لم يمتد إلى داخل شبه الجزيرة العربية، فظلّت نجد عبارة عن مشيخات صغيرة متناحرة).  [«الحركة الوهابية في عيون الرحالة الأجانب» ص35]

وعلى هذا، فعندما تأمر الدولة العثمانية شريف مكة باجتياح نجد وغزو الدرعية، وهي لم تكن في وقت من الأوقات مواقع نفوذ للأتراك، يُعلم أنه لا سبب يدعو إلى ذلك إلا الخلاف الديني العقدي، وهو عين ما صرّح به السلطان في فرمانه.

الوجه السادس: منعُ الحج عن أهل نجد من دلائل كون الصراع دينياً لا سياسياً

مما يؤكد أن الخصومة دينية لا سياسية: منعُ أشرافُ مكة أهلَ نجد من الحج ومن دخول مكة منذ سنة 1162ه في عهد الشريف مسعود بن سعيد.

قال ابن بشر في أحداث سنة 1162هـ: (وفيها حَبَسَ مسعود بن سعيد شريف مكة حاجّ نجد، ومات منهم في الحبس عدّة).  [«عنوان المجد» 1/59]

وقد استمر هذا المنع إلى سنة 1218هـ بعد دخول الإمام سعود بن عبد العزيز مكة وخروج الشريف غالب منها.

مع العلم بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود حاولا إقناع الأشراف بالسماح لأهل نجد بالحج أكثر من مرة، ولو بِدَفْعِ مبالغ مالية سنوية، لكنّ الأشراف امتنعوا.

فقد أرسل الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب وفداً إلى مكة برئاسة الشيخ عبد العزيز الحصين سنة 1185هـ لإيضاح حقيقة ما يدعون إليه، وذلك بطلبٍ من الشريف أحمد بن سعيد، فتم اللقاء والتباحث، ولكن مع ظهور حُجّة وفد الدرعية على علماء مكة أصرّ شريف مكة على معارضة الدعوة والاستمرار في منع أهل نجد من القدوم إلى مكة.

وفي سنة ١٢٠٤هـ أُرسل الشيخ عبد العزيز الحصين مرة أخرى إلى مكة بطلبٍ من الشريف غالب، لكن لم يُسفر اللقاء عن شيء، واستمرّ شريف مكة في منع الحج عن أهل نجد.

وفي سنة ١٢١١هـ أُرسل وفدٌ ثالث برئاسة الشيخ حمد بن ناصر بن معمر إلى مكة بطلبٍ من الشريف غالب بن سعيد، وعُقدت عدة لقاءات، وجرى التحاور والتباحث فيها حول أصل الدّين، وانتهت تلك اللقاءات بعِناد علماء مكة وإصرارهم على معارضة الدعوة، وإغراء الشريف غالب على الشيخ وأتباعه.

على أنه قد تخلّل هذه المدة الطويلة (١١٦٢هـ – ١٢١٨هـ) سماحٌ محدودٌ في حجّ أهل نجد، كما جرى سنة 1187هـ، وكذلك في فترة الصلح مع الشريف غالب سنة ١٢١٤هـ حيث حجّ بعض أهل نجد مرتين أو ثلاثة، وكان سبب هذا الصلح: الهزائم المتكررة التي مُني به الشريف غالب على يد الدولة، وذلك قبل انتزاع مكة منه.

وعلى هذا، فمَنعُ أهل نجدٍ من الحج من سنة 1162هـ، أي: قبل تنامي قوة الدولة وامتداد نفوذها، يؤكد أن الخصومة لم تكن سياسية، بل كانت بسبب ما تتبنّاه الدولة من دعوةٍ وعقيدةٍ تخالف ما عليه أشراف مكة وعلماؤها، لا سيما أنّ مَنْعَ الحج كان عامًّا على أهل نجد لم يكن مخصوصاً بأهل الدرعية ومن دخل في دعوتها. فلم يكن للمنع سببٌ إلا اعتقاد الأشراف وعلماء مكة بطلان ما عليه أهل نجد من العقيدة والشريعة، يؤكده: موقف علماء مكة من الدعوة في المناظرات التي عُقدت بين يدي الأشراف، إذ إنها لم تُسفر عن إقرارٍ بصحة أصول الدعوة وصواب مبادئها، بل أصرّوا فيها على الحكم بضلال الشيخ، وكفرِه وكفرِ أتباعه، وكان هذا هو الدافع لأشراف مكة في الاستمرار بمنع أهل نجد من الحج.

قال ابن غنّام في ذِكرِ ما جرى في لقاء الشيخ عبد العزيز الحصيّن مع شريف مكة سنة 1204هـ: (فقَدِمَ عبد العزيز الحصيّن مكة المشرفة فأكرمه غالب وشرّفه، واجتمع به مرات عديدة، وعَرَضَ عليه رسالة الشيخ المفيدة، فعَرَفَ ما بها من الحق والهدى، وما نفته من الباطل والردى، فأذعن بذلك وأقر، ثم بعد مدة أبى وكفر وتمسّك بقديم سنته وأصرّ، وطلب منه عبد العزيز الحصيّن أن يُحضر العلماء معه فيقف على كلامهم ويسمعه ويناظرهم في أصول التوحيد فأبوا عن الحضور). [«روضة الأفكار والأفهام» 2/145]

الوجه السابع: تأكيدُ الشيخ نفسه في أكثر من موضع على أنّ القتال قائمٌ على الدين

قال الشيخ -رحمه الله- في إحدى رسائله بعد مضي سنين طويلة من القتال: (فكيف بجماعات عديدة، بين الطائفتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف؟ حتى إنّ كلاًّ منهم شَهَرَ السيف دون دينه، واستمر الحرب مدة طويلة، وكلٌّ منهم يَدَّعي صحة دينه ويطعن في دين الآخر، نعوذ بالله من سوء الفهم وموت القلوب، أهلُ دينين مختلفين، وطائفتان يقتتلون، كلٌّ منهم على صحة دينه، ومع هذا يُتصّور أنّ الكلَّ دينٌ صحيح يُدخل من دان به الجنة {سبحانك هذا بهتان عظيم} فكيف والناقد بصير). [«مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب» 6/173]

وكلام أئمة دعوته من بعده في تأكيد هذا الأمر كثير.

الوجه الثامن: دعوة الدولة القبائل والقرى إلى التزام أحكام الإسلام قبل غزوها

فإن الدولة لم تكن تغزو بلداً أو قبيلة حتى تدعوهم إلى التوحيد وتَرْكِ الشرك والتزام أحكام الإسلام، فإن قبلوا وأذعنوا كُفّ عنهم، وإن أبوا وأصرّوا على مخالفة ما دُعوا إليه قوتلوا.

وقد نَقَل القنصل الفرنسي في بغداد سنة 1224هـ جون لوي رسّو بعض نصوص رسائل الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود للقبائل، فقال -مع التنبيه على أن هذا النص مترجمٌ من الأصل الفرنسي-: (من عبد العزيز إلى قبيلة… السلام عليكم. أَمَرَكم الله بالتمسك بالقرآن كما هو واضح، فلا تكونوا ضمن الكفرة الذين يُحرّفون الكلام المقدّس عن مواضعه، ويزعمون بأن لله الخالق الأحد شريكاً، وهو أعظم من كل شيء، عودوا إلى أحكامي واهتدوا، أو انتظروا الهلاك بنار النقمة التي أودعتها السماء بين قبضتي لإبادة المشركين). ا.ه. [«الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد»، ترجمة هدى معوض وخالد عبد اللطيف حسن، ص132]

كما أن الفرنسي جان ريمون، وكان ضابط مدفعية لدى والي بغداد في الفترة ما بين عامي 1217-1222هـ، قد ذَكَر طريقة دعوة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود للقرى والقبائل، فقال: (كان عبد العزيز يُرسل للقبائل العربية قبل مهاجمتها رسولاً يحمل القرآن بيد، والسيف بالأخرى، ويحمل تحذيراً موجهاً للقبيلة التي يودّ إخضاعها، وكانت الرسالة مصوغة بعبارات مستوحاة من عقيدة الإصلاح، وإليكم قطعة من تلك الدعوة الموجزة: «السلام على القبيلة الفلانية، إذا استجبتم لدعوتي فأنتم آمنون، وإن ضربتم بها عرض الحائط فإن غضب الله سيحل عليكم»). [«التذكرة في أصل الوهابيين ودولتهم»، ترجمة وتعليق: محمد خير الدين البقاعي، ص54]

وهذا يعني أنه لم يُقاتَل ويُحارَب في تلك الفترة إلا من أبى الاستجابة لدعوة التوحيد والتزام أحكام الشرع، ولا شك أن قتالَ هؤلاء حينئذٍ واجبٌ ومتعينٌ وجهادٌ في سبيل الله، وأما من استجاب لدعوة التوحيد والتزم أحكام الشريعة، وأقام الحدود فقد كُفّ عنه.

قلت: وهذا من الدلائل الظاهرة على أن القتال الواقع آنذاك كان على التزام أحكام الشريعة، والانقياد لدعوة التوحيد، وهذا النوع من القتال لا ريب أنه قتال ديني شرعي وليس قتالاً سياسياً دنيوياً.

الوجه التاسع: الشواهد التاريخية تؤكد على أن الصراع عقائدي لا سياسي

من تأمل الوقائع التاريخية التي جرت فترة قيام الدولة وانتشار الدعوة الإصلاحية، وتفحّص مجريات الأحداث، عَرَف طبيعة الصراع، وأدرك حقيقة الخلاف بين الدعوة ومعارضيها، وأنّ مداره: الأصل التي قامت عليه دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وهو الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتَرْكِ الشرك ومحوِ صوره ومظاهره، والتزام أحكام الشريعة، وإقامة الحدود.

وقد أفاض العلامة المؤرخ أبو بكر بن غنّام في تصوير الوقائع، وسَردِ المجريات، وتعليلِ الأحداث، وذِكْرِ منشأ الخلاف والصراع.

والله أعلم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
نشر :

إضافة تعليق جديد

 تم إضافة التعليق بنجاح   تحديث
خطأ: برجاء إعادة المحاولة