واقع نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
قد يتساءل بعضهم قائلاً: ما جدوى الحديث عن هذه القضية الجزئية؟! وما موجب الكتابة عن حال قلب الجزيرة قبل ظهور الدعوة الإصلاحية؟!
والجواب عن ذلك: لما كان الحكم على الشيء فرعاً عن تصوره، فإن تصور الواقع النجدي قبل الدعوة الوهابية، والكشف عن أحوال نجد الدينية ينبني عليه الموقف الصحيح من تلك الأوضاع، ويحقق الحكم الشرعي الملائم لتلك الوقائع والأحوال، لاسيما وأنه قد نبتت مقالة معاصرة تتهم مؤرخي نجد - كابن غنام وابن بشر - بالمبالغة والتهويل في توصيف الانحراف الديني في نجد، وأن باعث هذه المبالغة هو الحماس للدعوة الإصلاحية..
ومهما يكن فإن التقليل من شناعة الانحراف الديني في نجد، قد أفضى إلى لمز هذه الدعوة، والتهوين من آثارها ومنافعها، كما آل ببعضهم إلى تزكية واقع نجد قبل الدعوة، والاعتذار لهذه الموبقات والطوام الحاصلة في نجد! حتى اتهموا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالمبالغة في التكفير والقتال.
ويمكن أن يقال - ابتداءً - إن جمهور الباحثين متفقون على ندرة المعلومات المدونة عن تاريخ نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومع ذلك الشح إلا أن في «السوابق» لابن بشر أخباراً مهمة وجيزة عن أحوال نجد آنذاك، وأن نجداً محل فتن وحروب بين القبائل والبلدان، وخوف في الأوطان، ونقص في المعايش والأرزاق، وقد أوجز المؤرخ ابن بشر هذه الأوضاع بقوله: «وأما السنون التي سبقت قيامهم، فغلب فيها الضلال والجهل والظلم، وفتن كقطع الليل المظلم، وقتال بين أهل كل بلد عدواناً وحمية جاهلية، وتحالف وتفازع وعصبية، وكل بلد فيها رئيس فأكثر لا يزال يقع بينهم الشرّ، تارةً يتقاتلون، وتارةً يتسالمون، فلا يسافر ذو الحاجة فرسخاً أو ميلاً إلا كان أن يرجع مسلوباً أو قتيلاً».
والذي يهمنا في هذه المقالة أن نورد خلاصة وجيزة عن الواقع الديني في نجد قبل الدعوة وفق ما يلي:
- تحدث الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عن هذا الوضع المتردي في كثير من رسائله، وكشف عن تلك الأحوال القاتمة والجاثمة على بلدان نجد، وساق شواهد واقعة في تلك الديار، كما في حديثه عن غلوهم في أدعياء الولاية، وافتتانهم بالطواغيت، مثل: تاج، وشمسان وأولاده، ويوسف، وإدريس، وحطاب، وحسين، وعثمان، وعباس، وأبي حديدة. كما جاء مبسوطاً في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وحكى أيضاً ما عليه أعراب نجد من التكذيب بالبعث والنشور، وإنكار الشرائع! وأن أولئك البوادي يزعمون أن القرآن عند الحضر، وأنهم لا يرغبون في القرآن ويأنفون من التحاكم إليه، ويفضّلون حكم الطاغوت على حكم الله تعالى.
بل جزم الشيخ الإمام أن علماء نجد - آنذاك - لا يعرفون معنى لا إله إلا الله. فإذا كان علماؤهم لا يفقهون كلمة التوحيد فما بالك بالعامة والدهماء؟!
ونصير إلى الإمام عبد العزيز الأول (ت 1218هـ) حيث عاين هذا الواقع القاتم، فحكى أحوالهم قبل هذه الدعوة، فقال: «إنّا والناس فيما مضى، على دين واحد، ونذبح لغيره، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف غيره، ونقرّ بالشرائع، من صلاة وزكاة وصوم وحج، والذي يعمل بهذا عندنا قليل»..
وأما الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فقد أفصح عن غلبة الشرك على جميع بلدان نجد قبل ظهور هذه الدعوة، حيث قال: «وكان قبل ذلك في كل أرض وبلد من أرض نجد أوثان وأشجار تعبد من دون الله، ويُنذر لها ويذبح لها القربان، ويعظمونها أعظم من تعظيم الله، كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه في الجبيلة، وكشجرة في قريوة بالدرعية، وشجرة أخرى لأهل الطرفين، وقبر يقال له قبر المغربي».
ثم إن المؤرخ ابن غنام لما أظهر واقع نجد قبل الدعوة، إنما ساقه بدلائل ظاهرة، وشواهد محسوسة، كاتخاذ القبور مساجد، والغلو فيها، وعبادتها من دون الله، مثل قبر زيد بن الخطاب، وضرار بن الأزور، والتعلّق بالأشجار والتبرك بها كشجرة الفحّال وشجرة الذيب وشجرة أبي دجانة، والتبرك بغار بنت الأمير بالدرعية.
وهذا الشاعر الفلكي راشد الخلاوي - الذي عاش قبل ظهور الدعوة - يصوّر الأحوال الشركية التي استفحلت بنجد، كما في هذه الأبيات:
فإن سلت قومي يا منيع فلا تسل
أحجار وأشجار يعبدون خايبه
عصاة قساة من حديد قلوبهم
فلو أنهم من صمّ الأحجار ذايبه
فلا عندهم إلا إبليس عقيدهم
فالبعض ابن له والبعض شايبه
تخليت عن قومي محا الله دارهم
واهمي عليهم من نوامي نوايبه
تخليت عنهم يومهم غار دينهم
ومن غار عنه الدين غارت مشاربه
أفيقال بعد هذه الدلائل والوقائع أن نجداً في عافية من ظهور الشرك وأن ابن غنام وابن بشر ونحوهما بالغوا في تصوير هذا الانحراف؟!
بل إن خصوم الدعوة النجديين المعاصرين لظهور الدعوة يشهدون بهذا الواقع القاتم، فهذا جاسر الحسيني ممن شَرِق بهذا الدعوة، فترك نجداً وانحاز إلى بغداد، يعترف بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قام بنجد وهم في أسوأ حال من الفساد والظلم والضلال، فجمعهم الله تعالى به بعد التفرق والاختلاف.
ومما يزيد هذه الأوضاع انحداراً أن النَفَس الكلامي البدعي كان حاضراً ومستحوذاً على طوائف من المنتسبين للعلم آنذاك، فأحدهم يقرر مذهب التجهيل في الصفات، وآخرون يجاهرون بالتمشعر، ويشهدون أن القرآن لا حرف ولا صوت، ويكفّرون القائلين بقول السلف الصالح! وطائفة من علماء نجد وطلاب العلم يقررون وجوب النظر[، وطائفة أخرى لا تعرف من التوحيد إلا توحيد المتكلمين - توحيد الربوبية -، ومن ثم فإن من ذبح أو نذر لغير الله فليس شركاً، ما دام أنه يعتقد أن الله خالقه! فضلاً عن أقوام من نجد ينكرون غالب الصفات الإلهية.
والحاصل أن نجداً لم تسلم من شكوك المتكلمة، كما لم تسلم من شطحات الصوفية، ومن الشواهد على ذلك ما جاء في رسالة مهمة سطرها الشيخ عبد الوهاب بن سليمان - والد الشيخ الإمام - والتي كشفت عن مخاريق التصوف في بلدة حرمة، وكثرة الأشخاص الذين يقارفون دجل التصوف من الضرب بالحديد والقفز من السطوح!
كما أن الشيخ تحدث عن متصوفة في معكال يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وطال التصوف فقهاء نجد آنذاك، حتى إن ابن منقور (ت 1125هـ) حكى في «مجموعه» مشروعية التسبيح بالمسبحة محتجاً بأن ذلك صنيع أكابر الصوفية!
وهذا ابن سحيم مطوع الرياض آنذاك، قد شهد الناس أنه يحضر المولد ويقرأ عليهم، ويسمع ما فيه من استغاثات شركية[22].
والوقائع والشواهد على ظهور التصوف ومحدثاته في نجد مبسوطة في موضعها.
وقد يتعلل الراغبون في تزكية واقع نجد قبل الدعوة، بوجود العلماء وطلاب العلم في حواضر العلم بنجد كالعيينة وأشيقر ونحوها، مع أن أولئك المشتغلين بالعلم يجهلون معنى لا إله إلا الله! وفيهم العاجز عن إظهار العلم وتبليغ رسالات الله؛ إذ إن من أظهر هذا الدين ونصره فإنه متعرّض لسطوة الحكام، كما أشار إليه الشيخ في بعض رسائله.
وأخيراً فإن الأماكن الفاضلة لا تقدِّس أحداً، فماذا عما ليس كذلك؟! فالأرض عموماً لا تقدِّس أحداً، وإنما يقدس المرء عمله، ثم إن العبرة بالحال وليس بالمحل، لكن الغارقين في تعظيم نجد وأجدادهم الأقدمين إنما يعولون على مقررات ومقدمات وهمية، دون نقل مصدق ولا بحث محقق، وإنما هي انطباعات نفسانية تستوحش أن تتهم ديار نجد بظهور الشرك والضلال، وتتوجس من التعرض لجناب أجدادهم الغابرين، ومن بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه، والله تعالى يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فإن محل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وكذا العكس. والله المستعان.
نشر :
إضافة تعليق جديد