منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التأليف (6)

الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر

منهجه في التأليف في الفقه

جرت عادة كثير من العلماء في مختلف العصور أنَّهم يدرسون الفقه على مذهب من مذاهب أهل السنة مع العناية بمعرفة الدليل، ثم لا يزالون يترقَّون في العلم حتى يتمكَّنوا من معرفة الراجح والمرجوح والأخذ بما دلَّ عليه الدليل، وإن كان القول الراجح في غير المذهب الذي درسوه، ولهذا يُنسبُ بعض أهل العلم الذين برَّزوا فيه إلى المذاهب التي نشؤوا عليها واعتنوا بها وإن لم يكونوا مقلِّدين فيها، كابن عبد البر من المالكية، والذهبي وابن كثير من الشافعية، وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة.

وعلى هذا المنوال كان شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد نشأ على دراسة المذهب الحنبلي، ولكنه يأخذ بالقول الذي دلَّ الدليل عليه ولو كان في غير المذهب الحنبلي، كما هو شأن العلماء المحققين، وهذه هي الطريقة المثلى؛ لاشتمالها على توقير العلماء والاستفادة من علمهم والتوسط بين الجفاء والغلو فيهم.

قال ابن القيم في كتاب الروح (ص:395 ـ 396): "فمَن عرض أقوال العلماء على النصوص ووَزَنها بها وخالف منها ما خالف النصَّ لم يهدر أقوالَهم ولم يهضِم جانبَهم، بل اقتدى بهم، فإنَّهم كلَّهم أَمَروا بذلك، فمُتَّبعُهم حقًّا مَن امتثل ما أوصوا به لا مَن خالفهم؛ فخلافهم في القول الذي جاء النصُّ بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أَمَروا ودَعوا إليها من تقديم النصِّ على أقوالهم، من هنا يتبيَّن الفرقُ بين تقليد العالِم في كلِّ ما قال، وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه ويقلده به، ولذلك سمِّي تقليداً، بخلاف مَن استعان بفهمه، واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإنَّه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمَن استدلَّ بالنجم على القبلة فإنَّه إذا شاهدها لَم يبق لاستدلاله بالنجم معنى، قال الشافعي: (أجمع الناسُ على أنَّ مَن استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدَعَها لقول أحد".

ومن أشهر ما ألَّفه الشيخ في الفقه كتاب آداب المشي إلى الصلاة، الذي يشتمل على فقه الصلاة والزكاة والصيام، وقد اشتهر بهذا الاسم الذي هو اسم أول باب فيه، وهو من تسمية الشيء ببعضه، ولم يُورد قبله ما يتعلَّق بأحكام الطهارة اكتفاءً برسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها.

قال الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ـ رحمه الله ـ في أول تعليقه على كتاب آداب المشي إلى الصلاة: "لم يذكر المصنف ـ رحمه الله ـ كتاب أحكام الوضوء وشروط الصلاة قبل باب آداب المشي إلى الصلاة؛ اكتفاء برسالة شروط الصلاة المتضمِّنة لذلك كلِّه، وقد جرت العادة بقراءتها قبل هذا الكتاب، فكأنَّها جزء منه".

وبالمقارنة بين كتاب آداب المشي إلى الصلاة وكتاب كشاف القناع عن متن الإقناع في عدة مواضع، تبيَّن أنَّ كثيراً مِمَّا في هذا الكتاب مطابقٌ لِمَا جاء فيه.

ومن منهجه في تأليف هذا الكتاب ما يلي:

1 ـ أنَّه يذكر المسائل الفقهية فيه بعبارات واضحة، مثل قوله في أوَّل باب الجنائز: "يجوز التداوي اتفاقاً، ولا يُنافي التوكل، ويُكره الكيُّ، وتُستحبُّ الحمية، ويحرم بمحرَّم أكلاً وشرباً، وصوت ملهاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تداووا بحرام)، وتحرم التميمة، وهي عَوذة أو خَرَزَة تعلَّق، ويُسنَّ الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له وعيادة المريض، ولا بأس أن يُخبرَ المريضُ بما يجدُ من غير شكوى بعد أن يَحمدَ اللهَ، ويجب الصبر، والشكوى إلى الله لا تنافيه، بل هي مطلوبة، ويحسن الظن بالله وجوباً، ولا يتمنَّى الموت لضرٍّ نزل به، ويدعو العائد للمريض بالشفاء".

أنَّه يذكر كثيراً الحكم مقروناً بدليله، مثل قوله في باب الجنائز: "ويُسارَع في قضاء دَيْنه وإبراء ذمَّته من نذر أو كفارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضى عنه)، حسنه الترمذي".
وأحياناً يذكر الحكمَ ويشير إلى الدليل، ولا يذكره اختصاراً، مثل قوله في الجنائز: "ولا يمشي بالنعل في المقبرة للحديث، قال أحمد: وإسناده جيد".

3 ـ أنَّه أحياناً يشير إلى الاختلاف في المسألة ويصير إلى ترجيح ما هو أحوط، مثل قوله في باب صلاة الجماعة: "وتجزئ تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع؛ لفعل زيد بن ثابت وابن عمر، ولا يُعرف لهما مخالفٌ من الصحابة، وإتيانه بهما أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه".

4 ـ أنَّه يشرح بعض الكلمات في الأدعية، مثل: التحيات لله والصلوات والطيبات، ومثل: سبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك".

5 ـ بعد أن أورد السلام على أصحاب القبور، استطرد بذكر جملة من آداب السلام والاستئذان والعطاس والتثاؤب.

وأمَّا كتاب أحكام تمنِّي الموت، فلا تصحُّ نسبته إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهو مشتمل على أمور مخالفة لدعوة الشيخ المبنية على نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، ولهذا فرح به بعضُ المخالفين لهذه الدعوة، وفيهم من عُني بطباعته وتوزيعه، وقد أوضح عدم صحَّة نسبة الكتاب إلى الشيخ ـ رحمه الله ـ الشيخ صالح الفوزان في رسالة بعنوان: "إبطال نسبة كتاب أحكام تمني الموت إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب".
نشر :