منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التأليف (4)

الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر

منهجه في تفسير القرآن الكريم

ليس للشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ تفسير كامل للقرآن الكريم، وإنما وُجد له تفسير لبعض سُوَر القرآن، منها ما يكون تفسيراً لسورة كلِّها، مثل سورة الفاتحة وسورة الجن والفلق والناس، أو تفسيراً لبعض الآيات من السُّوَر، وهي إمَّا كثيرة مثل سورة يوسف، وإمَّا قليلة لا تتجاوز آية أو ثلاث آيات مثل سورة يونس وسورة المؤمنون.

ومنهجه في الغالب مبنيٌّ على الاستنباط من الآية أو الآيات وذِكْر المسائل المستنبطة متسلسلة، مثل أول آية فسَّرها من سورة البقرة، وهي قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، فقد استنبط منها إحدى وخمسين مسألة، وهو دالٌّ على قوَّة فهم الشيخ ودقَّة استنباطه وعنايته بالفقه في الدِّين، فقد ثبت في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين".

ومن الآيات ما يذكر المسائل المستنبطة منها بغير سرد، بل يقول: فيها كذا وفيها كذا، كما في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، والآيات الثلاث التي بعدها، وأحياناً يأتي بتفسير الكلمات والجمل من السورة، كما في سورة الجن، وأحياناً يأتي بتفسير قصة من قصص الأنبياء في سورة، ثم يأتي بالكلام على القصة في سور أخرى، كما فعل في أول تفسير سورة القصص، فإنَّه تكلَّم على قصة موسى وهارون في هذه السورة، ثم ذكر بعدها الكلام على قصتهما في سور القرآن الأخرى.
وهذا مثال من أمثلة تفسير الشيخ واستنباطه المسائل من الآيات، قال ـ رحمه الله ـ في تفسير الآيات الثلاث من سورة المؤمنون: "قوله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} الآيتين، فيه مسائل:

الأولى: أنَّ الله أمر الرسلَ بهذا مع اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، فيدلُّ على أنَّه من عظيم الأمور.

الثانية: أنَّ الرسلَ إذا أُمروا بذلك، فغيرهم أولى بالحاجة إلى ذلك، فأفاد أنَّ هذا يحتاج إليه أعلم الناس حاجة شديدة.

الثالثة: إذا فُرض هذا على الرسل مع اختلاف الأزمنة والأمكنة، فكيف بأمَّة واحدة، نبيُّها واحد، وكتابها واحد؟!

الرابعة: أنَّ الخطاب للرسل عام للأمم، بدليل قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ}.

الخامسة: الأمر بالأكل من الطيبات، ففيه ردٌّ على الغلاة الذين يمتنعون عنها، وفيه ردٌّ على الجفاة الذين لا يقتصرون عليها.

السادسة: الأمر بإصلاح العمل مع الأكل من الطيبات، ففيه ردٌّ على ثلاث طوائف:
أولهم: الآكلون الطيبات بلا شكر، والشكر هو العمل المرضي.
وثانيهم: من يعمل العمل غير الخالص، مثل المرائي وقاصد الدنيا.
وثالثهم: الذي يعمل مخلصاً لكنه على غير الأمر.

السابعة: المسألة العظيمة التي سيق الكلام لأجلها، وهي فرض الاجتماع في المذهب وتحريم الافتراق، فإذا فرضه على الأنبياء مع اختلاف الأزمنة والأمكنة فكيف بأمَّة واحدة، ونبيُّها واحد، وكتابها ودينها واحد؟!

الثامنة: ذكره سبحانه فعلهم الذي صدر عنهم بعد ما عرفوا الوصية العظيمة بالاجتماع والنهي عن الافتراق، وأنَّهم تقطَّعوا أمرهم بينهم زبراً، كلُّ حزب بما لديهم فرحون، فذكر أنَّهم قابلوا الوصيَّةَ بعدما سمعوها بما يُضادُّها غاية المضادة، وهو أنَّهم تركوا الاجتماع وتفرَّقوا، ثم بعد ذلك كلُّ فرقة صنَّفت لها كتباً غير كتب الآخرين، ثمَّ كلُّ فرقة فرحت بما تركت من الهدى، وفرحت بما ابتدعته من الضلال، كما قال الشاعر:
حلفَتْ لنا أن لا تخون عهودها فكأنَّها حلَفتْ لنا أن لا تفي
انتهى كلامه رحمه الله.

وهذا البيت جرى مجرى المثل، ومثله قول الشاعر:
مواعيد عرقوب كانت لها مثلاً وما مواعيده إلاَّ الأباطيل

وهذا المنهج الذي سلكه الشيخ ـ رحمه الله ـ غالباً في التفسير ـ وهو سرد المسائل المستنبطة من كلِّ آية أو آيات ـ هو المنهج الذي سلكه في كتاب التوحيد، حيث يورد في آخر كلِّ باب المسائل المستنبطة من الآيات والأحاديث والآثار الواردة فيه، كما مرَّت الإشارة إلى ذلك عند ذكر منهجه في ذلك الكتاب العظيم.

وقد طُبع تفسير الشيخ ـ رحمه الله ـ لسور وآيات من القرآن الكريم ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، التي جُمعت وطُبعت بعناية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وذلك في مجلد تبلغ صفحاته تسعاً وثمانين وثلاثمائة صفحة.
نشر :