منهج علماء الدعوة النجدية السلفية في الفقه والفتوى

 الشيخ محمد آل إسماعيل


لقد شاع لدى فئة من الشباب المتحمسين لهذه العقيدة وفقهم الله أن علماء نجد الأعلام لا ينتمون إلى مذهب من المذاهب الأربعة المشهورة المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وأنهم يجتهدون ويأخذون من الكتاب والسنة مباشرة، وأنهم لا يقرأون كتب الفقه، وأنهم لا يعولون على فهم السلف الصالح أقول: بل وصل الحال ببعض المعاصرين أن ألف كتباً في ذلك.

أقول: ما درى هؤلاء أن هذه فرية نسبها خصوم الدعوة لهم وأن علماء الدعوة تصدوا لها قولاً وفعلاً، وأن علماء الدعوة لا يرضون أن ينسب هذا إليهم وأنه ليس مدحاً لهم بل ذم وشين.

وهؤلاء المتحمسون وفقهم الله لم يتتلمذوا على علماء الدعوة أو أنهم ممن يأخذ علمه من الكتاب لا من الرجال ولكنهم لما حرص علماء الدعوة على الأخذ بالدليل ظنوا أنهم لا يقرأون الفقه وأنهم ذموها.

أقول: لو كلفوا أنفسهم وقرأوا مجموعة الرسائل والمسائل النجدية أو قرأوا في الدرر السنية في الأجوبة النجدية لرأوا أن فتاواهم مبنية على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل على قاعدة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، بل زارني كثير من الشباب المتحمسين وفقهم الله يرون أنهم مجتهدون وأن عندهم القدرة على الاستنباط ولسان حالهم ومقالهم يقول: (نحن رجال وهم رجال).
فأقول: ولله الحمد والمنة إن علماء الدعوة النجدية السلفية منهجهم في الفقه والفتوى منهج أسلافهم فهم حنابلة المذهب تتلمذوا على كتب الحنابلة بل جد شيخ الإسلام الشيخ سليمان بن علي بن مشرف مفتي نجد، وأسرته أسرة علمية حنبلية حتى أخواله آل عزاز فقهاء حنابلة إلاّ أن علماء الدعوة النجدية السلفية حنابلة يقرأون كتب الحنابلة المعتمدة على قاعدة «إذا صح الحديث فهو مذهبي»، وعلماء المذاهب الأربعة المحققون متفقون على هذا النهج كما قال أحد المحققين:
العلم قال الله قال رسوله                  قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة           بين الرسول وبين رأي فقيه

فهذا هو منهج الأئمة الأربعة بما فيهم الإمام أبو حنيفة رضي الله عنهم الذي ينسب إلى الرأي فإنه يقدم الحديث الضعيف على رأي الرجال كما حكى ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين وكتب الفقه المعتمدة مبنية على الكتاب والسنة، والاجتهاد لا بد منه فيختلف العلماء المجتهدون لاختلاف أفهامهم ومداركهم كما ذكر ذلك من كتب في علم الخلاف ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته النفيسة «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» والمصيب من المجتهدين له أجران والمخطىء له أجر.

أقول: لما ظهرت دعوة الإسلام الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب لمحاربة البدع، واعتنى بتحقيق مسائل الفقه وهو مسلك كل من جاء بعده من علماء الدعوة النجدية السلفية فيقرأون في كتب المذاهب وإذا استبان لهم الدليل أخذوا به وهذا هو منهج المحققين من علماء المذاهب الأربعة، ولا يخفى أنّ الإمام أحمد هو صاحب المسند فهو صاحب حديث مع كونه فقيها.

فلما سلك علماء الدعوة هذا المسلك والكتب التي يقرأونها الروض المربع شرح زاد المستقنع وشرح المنتهى وكشاف القناع والمبدع شرح المقنع والإنصاف وقواعد ابن رجب والفروع لابن المفلح والشرح الكبير على المقنع والمغني وغيرها من أمهات كتب المذهب التي تحكي القولين والثلاثة وتذكر الأدلة وتذكر أقوال المتوسطين والمتقدمين ثم يطالعون تحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتحقيقات تلميذه ابن القيم مع قراءة بلوغ المرام ومنتهى الأخبار في أحاديث الأحكام مع الرجوع إلى أمهات الحديث، فلما سلكوا هذا المسلك شنع عليهم خصومهم وقالوا عنهم بأنهم يدعون الاجتهاد وأنهم لا يعولون على كتب المذهب وأنهم يحرقون كتب الفقه وأنهم يدعون الأخذ من الكتاب والسنة مباشرة وأشاعوا عنهم أشياء كثيرة وذلك من أجل تنفير الناس عنهم. وكان للسياسة العثمانية دور في هذا فلما أشيع عنهم ما أشيع لم يسكتوا بل دافعوا وكشفوا زيف أهل التزييف ولما ألف الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله مختصر الإنصاف والشرح الكبير ثم أشاع الخصوم ما أشاعوا كذبهم رحمه الله بتأليف كتاب «آداب المشي إلى الصلاة» والذي اختصره من كتاب الإقناع وشرحه وقرره على الطلبة.

قال المؤرخ الشيخ عثمان بن بشر معدداً مؤلفات الشيخ الإمام: (واختصر من الشرح الكبير والإنصاف مجلداً لبيان الخلاف وامر بالقراءة فيه).
فلما سمع بذلك المنتسبون للعلم من أهل نجد كذبوا عليه أنه طعن في كتب المذاهب كالإقناع والمنتهى التي على قول واحد فأخذ من شرح الإقناع نبذة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام من باب آداب المشي إلى الصلاة إلى باب ما يفسد الصوم، وأمر بالقراءة فيها وتعلم العامة ما يلزمهم معرفته من أحكام صلاتهم وصيامهم تكذيبا لأولئك فيما قالوه عنه الخ.

فهذا إمام الدعوةرحمه الله رد علمياً على من اتهمه بأنه ضد كتب الفقه وأنه أحرقها ولكن هذه الشائعة طار بها الركبان الى البلدان المجاورة لنجد آنذاك، مما جعل الشيخ العالم العلامة المحقق عبدالله ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله يفند ما اثير حول دعوة ابيه فقال في معرض كلامه: ونحن ايضا في الفروع على مذهب الامام احمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد احد الأئمة الاربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير.. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد والمطلق ولا أحد منا يدعيها. إذا صح لنا نص جلي من الكتاب أو السنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والاخوة فانا نقدم الجد بالإرث وان خالف مذهب الحنابلة، ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا اذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح ذلك بخلاف جهر الشافعي بالبسملة فلا تأمر بالإسرار وشتان ما بين المسألتين فاذا قوى الدليل ارشدناهم بالنص وان خالف المذهب وذلك يكون نادراً جداً، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق وقد سبق جمع من الأئمة الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة الملتزمين تقليد صاحبه انتهى.

مما قاله العالم العلامة الشيخ محمد ابن الشيخ عبداللطيف ابن الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله: (واما مذهبنا فمذهب الإمام احمد بن حنبل امام اهل السنة والجماعة في الفروع والأحكام ولا ندعي الاجتهاد، فاذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها ولا نقدم عليها قول احد كائنا من كان بل نتلقاها بالقبول والتسليم لان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدورنا أجل وأعظم من ان نقدم عليها قول احد، فهذا الذي نعتقده وندين الله به، الخ.

ومما قاله ابنا الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الشيخ حسين والشيخ عبدالله رحمهم الله اثناء معرض كلام طويل: (واذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه فاتبع الدليل وترك مذهبه كان هذا مستحباً بل واجباً عليه اذا تبين له الدليل ولا يكون بذلك مخالفا لإمامه الذي اتبعه فان الأئمة كلهم متفقون على هذا الاصل ابو حنيفة ومالك والشافعي واحمد رضي الله عنهم اجمعين، قال الامام مالك رحمه الله كل يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رحمه الله لأصحابه اذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط، وفي لفظ اذا صح الحديث عندكم فهو مذهبي، وقال الامام احمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون الى رأي سفيان، والله سبحانه يقول: «فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب أليم»، أتدري ما الفتنة؟
الفتنة الشرك لعلة إذا رد بعض قوله ان يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك وقال لبعض اصحابه: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي وتعلموا كما تعلمنا)، وكلام الأئمة في هذا كثير جدا ومبسوط في غير هذا الموضع.

وأما اذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة يخالف القول نص عليه العلماء اصحاب المذاهب، فنرجو انه يجوز له العمل به لان رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا وهم إنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم، ولكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديما وحديثاً، والذي ننكره هو التعصب للمذاهب وترك اتباع الدليل.

وقال أيضاً: أعلم أن مسائل الخلاف بين الأئمة لا إنكار فيها إذا لم يتبين الدليل القاطع، والصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا في اشياء من مسائل الفروع ولم ينكر بعضهم على بعض وكذلك العلماء بعدهم وإن كلا منهم قد قال بما عنده من العلم. الخ.
نشر :