سيرة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى

الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى:
هو الإمام العلامة الأوحد، الثقة الثبت, التقي الورع المجاهد المحتسب, ذو الهمة العالية والشجاعة المتناهبة, الذي خلف والده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مؤازرة الإمام(1) عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخلفه في بث العلم والقيام بدعوة التوحيد ونشرها، والدفاع عنها بالقلم واللسان، والحجة والبيان، عالم نجد بعد أبيه ومفتيها، من له الفتاوى السديدة والأجوبة العديدة، والردود العظيمة من ضربت إليه أكباد الإبل من سائر بلدان نجد وتوالت عليه الأسئلة من جميع قرى نجد ومدنها الشيخ عبد الله ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
ولد هذا العالم الكبير في الدعية سنة 1165 هـ ونشأ بها في كنف والده نشأة دينية صالحة، وقرأ القرآن حتى حفظة ثم شرع في القراءة على والده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب فتفقه في المذاهب الإسلامية، ومهر في علمي الفروع والأصول، وكان مع هذا عالما بارزا في علم التفسير والعقائد وأصول الدين، عارفا بالحديث ومعانيه، وبالفقه وأصوله وعلم النحو واللغة.

وله اليد الطولي في جميع العلوم والفنون، كرس جهده وأوقف حياته على تحصيل العلم وتعليمه ونشره تدريسا وتأليفا، فأخذ عنه العلم خلق كثير من فطاحلة علماء تجد وجهابذتهم، نذكر منهم في هذه الترجمة الموجزة أبناءه الثلاثة: الشيخ الإمام سليمان والشيخ عبد الرحمن والشيخ علي، وابن أخيه الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن الوهاب والشيخ علي ابن أخيه الشيخ حسين ابن شيخ الإسلام محمد بن الوهاب، والشيخ محمد بن سلطان والشيخ عثمان بن عبد الجبار بن شبانة، والقاضي عبد العزيز بن حمد بن إبراهيم الوهيبي التميمي، والشيخ أحمد الوهيبي نزيل الأحساء، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر صاحب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب، والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ جمعان بن ناصر، ومسفر بن عبد الرحمن بن جعيلان نزيل فرية العرين من عسير بوادي أبها (2) والشيخ إبراهيم بن سيف ومحمد بن الشيخ عبد الله بن أحمد بن عبد القادر الأحسائي.
وكان إلي جانب قيامه بتعليم العلم وبثه ونشر مذهب السلف ودعوة التوحيد والإسلام، مرجع قضاة المملكة السعودية في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وابنه الإمام سعود وابنه الإمام عبد الله، فكان في ذلك الوقت بمثابة رئيس قضاة ومفت وقد ألف مؤلفات كثيرة، منها جواب أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والزيدية، رد به _ رحمه الله _ على بعض علماء الزيدية فيما أعترض على دعوة التوحيد السلفية، وألف مختصر السيرة النبوية في مجلد ضخم، والكلمات النافعة في المكفرات والواقعة، طبعت مرارا، وآخرها بالمطبعة السلفية بمصر، وألف منسكا صغيرا للحج، وكتب رسائل وفتاوى كثيرة، لو أفردت على حدة وجمعت لبلغت مجلدا ضخما كبيرا، ولكنها.

طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والنجدية التي طبعت سابقا بمصر وأخيرا بمطبعة أم القرى وكلا الطبعتين المذكورتين الملك المغفور له عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود _ رحمه الله _ تعالى.
وكان له دروس خاصة يحضرها الإمام سعود عبد العزيز وابنه الإمام عبد الله بن سعود في الدرعية، وقد صحب الأمير (3) سعود بن الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود، بن محمد بن مقرن في دخوله مكة المكرمة في حياة والده الإمام عبد العزيز _ رحمه الله _ وذلك في يوم السبت ثامن شهر محرم الحرام 1218 سنة ألف ومائتين وثماني عشرة من الهجرة.
وكتب حال دخوله مكة المكرمة مع الأمير سعود رسالة وإجابة منه لمن سأله عما يعتقدونه ويدينون الله به، ونحن نوردها بكاملها في هذا الموضع من الترجمة لعظيم فائدتها ولاشتمالها على معاني دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودحضها كذب أعداء الإسلام ودعاة الأباطيل من أنصار الشرك وأعداء التوحيد.
قال_ رحمه الله _ ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد (4) لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين..

أما بعد فإنا معاشر غزو الموحدين لما من الله علينا _ وله الحمد _ بدخول مكة المشرفة، نصف النهار يوم السبت ثامن شهر محرم الحرام سنة 1318 هـ بعد أن طالب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود حماه الله الأمان. وقد كانوا تواطؤا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله والإقامة في الحرم، لصدروه عن البيت، فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم فتفرقوا شذر مذر، كل واحد يعد الإياب غنيمة له، وبذل حينئذ الأمير الأمان لمن بالحرم الشريف، ودخلنا شعارنا التلبية آمنين محلقين رؤوسنا مقصرين غير خائفين من أحد من المخلوقين، بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم، وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون، لم يعضدوا شجرا ولم ينفروا به صيدا ولم يريقوا دما الأدم الهدي، أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام، على الوجه المشروع، ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحوة الأحد وعرض الأمير _ عافاه الله _ على العلماء ما نطلب من الناس ويدعوهم إليه، وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وحده، وعرفهم أنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى ومعرفة أنواع العبادة وأن الدعاء من جملتها تحقيق معني الشرك، الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلي ذلك التوحيد، وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المكر الذي لم يبق عندهم إلا اسم، وانمحى أثره ورسمه، فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق لاسيما العلماء ويقرر لهم حال اجتماعهم _ وحال انفرادهم _ لدينا ما نحن عليه، ويطلب منهم المناصحة والمذاكرة وبيان الحق وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال.


اجتماعهم، بأنا قابلون ما أوضحوا برهانه من برهانه من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح كالحلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وعن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم، إلي آخر القرن الثالث، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير كم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وعرفناهم أنا دائر ون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا فلم ينقموا علينا أمرا.
فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات أن بقي لديهم شبهة فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنة، حتى أذعنوا، ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب، فيما قاتلنا الناس عليه أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه وحلفوا لنا الإيمان المعقدة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وحزم ضمائرهم، انه لم ببق لديهم شك فيمن قال: يا رسول الله. أو قال: يا ابن عباس. أو عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين طاليا بذلك دفع شر أو جلب خير من كل ما لا بقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، من شفاء المريض والنصر على العدو، والحفظ من المكروه ونحو ذلك، انه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله وان كان يعقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء، متشفعا بهم ومتقربا لهم بقضاء حاجته من الله، بسرهم وبشفاعتهم له فيها أيام البرزخ، وأن ما وضح من البناء على قبور الصالحين صار في هذه الأزمان أصناما تقصد الطلب الحاجات ويتضرع عيدها ويهتف بأهلها في الشدائد كما كانت تفعله الجاهلية الأولى.
وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي وحسين المغربي وعقيل بن يحيى العلوي، فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يعبد فالحمد لله ذلك، ثم رفعت المكوس (5) وكسرت آلات التنباك ونودي بتحريمه، وأحرقت أما كن الحشاشين والمشهورين بالفجور ونودي بالمواظبة على الصلاة في الجماعة، وعدم التفرق في ذلك بأن يجتمعوا في كل صلاة على أمام واحد، يكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم.
واجتمعت الكلمة حينئذ وعبد الله وحده وحصلت الألفة وسقطت الكلفة وأمر (6) عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم، ولا هتك عرض، ولا مشقة على أحد، والحمد لله رب العالمين.
ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد رحمه الله في التوحيد المتضمنة للبراهين وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات، والأحاديث المتواترة مما يثلج الصدور، واقتصر من ذلك على رسالة مختصرة للعوام تنشر في مجالسهم وبدرس في محافلهم ويبين لهم العلماء معانيها ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة ويتضح لهم الشرك، فينفروا عنه وهم على بصيرة آمنين.
وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غاب ما صار، حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي، ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له فأخبر ناه بان مذهبنا في أصول الذين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم خلافا لمن قال طريقة الخلف أعلم، وهي أنا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل علمها إلي الله مع اعتقاد حقائقها.

فان مالكا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالي، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد. فان العبد لا يقدر على خلق أفعاله بل له كسب، رتب عليه الثواب فضلا، والعقاب عدلا لا يجب على الله لعبده شيء، وانه يراه المؤمنون في الآخرة بلا كيف ولا إحاطة.
ونحن أيضا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة (7) دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، كالرافضة، والزيدية، والأمامية ونحوهم. لا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة، ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا نجبرهم على تقليد أحد منا يدعيها، إلا أنا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه, وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كامام الصلاة، فنأمر الحنفي والمالكي مثلا بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال ولا جلوس بين السجدتين لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض ولا مناقضة لعدم الاجتهاد.
وقد سبق جمع العلماء انه لا يمكن الوثوق المذاهب الأربعة باختيارات لهم في بعض ولا المسائل، مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه، أنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة، ومن أجلها لدينا تفسير بن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذلك البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني، والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصا الأمهات الست وشروحها. ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولا وفروعا، وقواعد وسير ونحو وصرف، وجميع علوم الأمة ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلا إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين (8) وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق فإنه قد حرمه جمع من العلماء على أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل (9) إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا اتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو من إتلاف كتب بعض أهل الطائف، إنما صدر عن بعض الجهلة، وقد زجروا وغيرهم عن مثل ذلك، ومما نحن عليه، أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان وغير المقاتلة.
وأما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق إفهامنا من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ وأنا نضع من رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره. وعصا أحدنا أنفع له منه وليس شفاعة وزيارته غير مندوبة وأنه كان لا يعرف معنى لا إله الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} مع كون الآية مدنية.
وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء فنتلف مؤلفات أهل الذاهب، لكون فيها.

الحق والباطل، وأنا مجسمة وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا، ومن بعد الستمائة الأ من هو على ما نحن عليه, ومن فروع ذلك: أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه، أنه كان مشركا وأن أبوية ماتا على الشرك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقا، وان من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات، حتى الديون، وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراف زوجته الشابة، لتنكح شابا إذا ترافعوا إلينا فلا وجه لذلك.
فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر (10) أولا: كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} فمن روي عنا شيئا من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيرا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
فأنا نعتقد أن من فعل أنواعا من الكبائر، كقتل المسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام إذا مات موحدا تجميع أنواع العبادة، والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب وانه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد(11) والصلاة فيه، وإذا قصد مع الزيارة فلا بأس.
ومن أنفق نفيس أوقاته بالصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام الواردة عنه فاز بسعادة الدارين، وكفي همه وغمه، كما جاء في الحديث عنه، ولا ننكر كرامات الأولياء، ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات ن بل يطلب من يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث "دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه" الحديث. وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليا بسؤال الاستغفار والدعاء له ففعلا.
وتثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضا، ونسألها من المالك لها، والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها، كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعا إلي الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لأمتهم، فلا يقال: يا رسول الله، أو: يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها. كأدركني، أو غشني، أو اشفني أو انصرني على عدوي، أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف، أن ذلك شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله صلى عليه وسلم.
فان قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟
قلت: ننظر إلي حال المقسم أن قصد به التعظيم، كتعظيم الله أو اشد، كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا، إذا استحلف بشيخه أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه، لا يرضى أن يحلف إذا كان كاذبا أو شاكا، وإذا استحلف بالله فقط رصي فهو كافر من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعا، وإن لم يقصد الحالف التعظيم بل سبق لسانه إليه، فهدا ليس بشرك اكبر فينهي عنه ويؤمر صاحبه بالاستغفار من تلك الهفوة.
أما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه بينك محمد صلي الله عليه وسلم، أو تحق نبيك، أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهدا من أقسام البدعة المذمومة ولم يرد بذلك نص، كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الأذان.
وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على الدرعية في مثل ذلك, وعن جواز نكاح الفاطمية بغير الفاطمي، وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم لا شك في طلب حبهم ومودتهم، لما ورد فيه من كتاب وسنة، فيجب محبتهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم والإجلال، ولسائر العلماء مثل ذلك كالجلوس في صدر المجالس والبداية بهم في التكريم، والتقديم في الطريق إلي موضع التكريم ونحو ذلك إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن، أو العلم وما أعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم، على من هو أمثل منه، حتى انه إذا لم يقبل يده كل ما صافحه عاتبه وضارمه، أو ضاربه أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص ولا دل عليه دليل، بل منكر يجب إزالته، ولو قبل يد أحدهم لقدوم من سفر أو لشيخة علم، أو في بعض أو قات أو لطول غيبة، فلا بأس به إلا أنه لما ألف من الجاهلية الأخرى: أن التقبيل صار علما لمن يعتقد فيه أو في أسلافه أو عادة المتكبرين من غيرهم نهينا عنه مطلقا، لاسيما لمن ذكر حسما الذرائع الشرك ما أمكن، وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسما لتلك المادة، وتنفيرا عن الإشراك بالله ما أمكن، لقبح شأنه، وأنه لا يغفر، وهو أقبح من نسبة الولد لله تعالى، إذ الولد كمال في حق المخلوق وإما الشرك فنقص حتى في حق المخلوق لقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} الآية. وأما نكاح الفاطمية بغير الفاطمي فجائز إجماعا بل ولا كراهة في ذلك، وقد زوج على عمر بن الخطاب وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بيت الحسين بن علي بأربعة ليس فيهم فاطمي بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من دون إنكار إلا أنالا نجير أحدا على تزويج موليته ما له تطلب هي أو تمتنع من غير الكفء، والعرب أكفاء بعضهم لبعض.
فما أعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بسبب ذلك فساد كبير كما ورد، بل يجوز الإنكار لغير الكفء وقد تزوج زيد _ وهو من الموالي _ زينب أم المؤمنين وهي قرشية، والمسألة معروفة النقول عند أهل المذهب. انتهى.
فان قال قائل منفر عن قبول الحق والإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم في أن من قال: يا رسول الله، أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدر الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة، ولاسيما المتأخرين ولتصريح علمائهم المعتبرين، أن ذلك مندوب وشنوا الغارة على من خالف في ذلك.
قلت: لا يلزم ذلك لان لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر، ومثل ذلك لا يلزم أن نكون مجسمة وان قلنا بجهة العلو كما ورد الحديث بذلك، ونحن نقول فمن مات {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق ووضحت له المحجة وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبرا معاندا كأغلب من نجاهدهم اليوم يصرون على ذلك الإشراك ويمتنعون من فعل الواجبات ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات.
وغير الغالب إنما نجاهد هـ لنصرته لمن هذه حاله ورضاه به ولتكثيره سواد من ذكر والتغليب معه فله حينئذ حكمه في حل جهاده.
وتعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم عصمتهم من الخطأ والإجماع في ذلك ممنوع قطعا ومن شن الغارة فقد غلط، ولا بدع أن يغلط، فقد غلط من هو خير منه كمثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما نبهته المرأة رجع في مسألة المهر وفي غير ذلك في سيرته بل غلط الصحابة وهم جمع ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، سار فيهم نوره فقالوا: أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فان قلت: هذا فيمن ذهل، فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة وأطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصرا على ذلك حتى مات.
قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن ذكر ولا نقول أنه كافر ولا كما تعدم أنه مخطئ وإن استمر على خطئه لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمان المؤلفين المذكورتين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن أطلع عليه أعرض عنه قبل أن يتمكن في قلبه، لم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك إلا من شاء الله منهم.
هذا وقد رأى معاوية وأصحابه رضي الله عنهم، منابذة أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله منهم عنه، بل وقتاله ومناجزته الحرب، وهم في ذلك مخطئون بالإجماع، واستمروا في ذلك الخطأ حتى ماتوا، ولم يشتهر عن أحد من السلف تكفير أحد منهم إجماعا، بل ولا تفسيقه بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد، وإن كانوا مخطئين، كما ذلك مشهور عند أهل السنة.
ونحن كذلك لا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه وعلم ورعه وزهده، وحسنت سير ته وبلغ من نصحه للأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها، وان كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها، كابن حجر الهيتمي فانا نعرف كلامه في "الدر المنظم" ولا ننكر سعة علمه، ولهذا نعتني بكتبه "كشرح الأربعين "و "الزواجر "وغيرهما، ونعتمد على نقله إذا نقل لأنه من جملة علماء المسلمين.
هذا ما نحن عليه مخاطبين به له عقل أو علم، وهو متصف بالإنصاف، خال من الميل إلي التعصب والاعتساف، ينظر إلي ما يقال لا إلي من قال، وأما من شانه لزوم مألوفه وعادته، سواء كان حقا أو غير حق ن فقد قال الله تعالى فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، لا نخاطبه وأمثاله إلا بالسيف حتى يستقيم أوده ويصح معوجه، وجنود التوحيد بحمد الله ومنصورة وراياتهم بالسعد والإقبال مشهورة {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . وقال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
هذا ومما نحن عليه أن البدعة _ وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة _ مذمومة مطلقا خلافا لمن قال حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام، إلا أن أمكن الجمع بأن بقال: الحسنة ما عليه السلف الصالح، شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة، ويكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة: ما عدا ذلك شاملة للمحرمة، والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع فمن البدع المذمومة التي ننهي عنها رفع الصوت في موضع الأذان بغير الأذان سواء كانت آية أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو ذكرا أو غير ذلك بعد أذان أو في ليلة جمعة أو رمضان أو العيدين، فكل ذلك بدعة مذمومة وقد أبطلنا ما كان مألوفا بمكة من التذكير والترحيم ونحوه، واعترف علماء المذاهب انه بدعة.
ومنها: قراءة الحديث عن أبي هريرة بين يدي خطبة الجمعة، فقد صرح شارح الجامع الصغير انه بدعة .
 ومنها: الاجتماع في وقت مخصوص على من يقرأ سيرة المولد الشريف اعتقادا انه قربة مطلوبة، دون علم السير، فان ذلك لم يرد.
ومنها: اتخاذ المسابح، فآنا ننهى عن التظاهر باتخاذها.
ومنها: الاجتماع على راتب المشايخ ورفع الصوت وقراءة الفواتح والتوسل بهم في المهمات، كراتب السمان وراتب الحداد ونحوهما، بل قد يستمل ما ذكر على شرك أكبر، فيقاتلون على ذلك، فان سلموا من أرشدوا إلي أنه على هذه الصورة المألوفة غير سنة بل بدعة، فان أبوا عزرهم الحاكم بما يراه رادعا، وأما أحزاب العلماء المنتخبة من الكتاب والسنة، فلا مانع من قراءتها والمواظبة عليها، فان الأذكار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار وتلاوة القرآن ونحو ذلك مطلوب شاعا، والمعتني بها مأجور فكلما أكثر منه العبد كان أوفر ثوابا لكن على الوجه المشروع من دون تقطيع ولا تغيير ولا تحريف ن وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وقد ذكره النووي في جمعه كتاب الأذكار، فعلى الحريص على ذلك به ففيه الكفاية للموفق.
ومنها: ما أعتيد في بعض البلاد من قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بقصائد بالحان، وتخلط بالصلاة عليه، وبالأذكار والقراءة ويكون بعد الصلاة التراويح، ويعتقدونه على هذه الهيئة من القرب، بل تتوهم العامة أن ذلك من السنن المأثورة، فينهى عن ذلك وأما صلاة التراويح فسنة لا بأس بالجماعة فيها والمواظبة عليها.
ومنها: ما أعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان، وهذه من البدع المنكرة إجماعا، فيزجرون من ذلك أشد الزجر.
ومنها: رفع الصوت بالذكر عند حمل الميت وعند رش القبر بالماء وغير ذلك، مما لم يرد عمن سلف، وقد ألف الشيخ الطرطوشي المغربي كتابا نفيسا سماه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"واختصره أبو شامة المغربي، فعلي المعتني بدينه بتحصيله، وإنما ننهى عن البدع المتخذة دينا وقربة، وأما ما لا يتخذ دينا ولا قربة، كالقهوة وإنشاد قصائد الغزل ومدح الملوك، فلا ننهى عنه ما لم يختلط بغيره، أما ذكر أو اعتكاف في مسجد ويعتقد أنه قربة، لأن حسان رد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقال قد أنشدته بين يدي من هو خير منك، فقبل عمر، ويحل كل لعب مباح لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أقر الحبشة على اللعب في يوم العيد، في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويحل الرجز والحداء في نحو العمارة، والتدريب على الحرب بأنواعه، وما يورث الحماسة فيه، كطبل الحرب دون آلات الملاهي، فإنها محرمة، والفرق ظاهر ولا بأس بدف العرس وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة، ليعلم يهود أن في ديننا فسحة"
هذا، وعندنا أن الإمام ابن القيم إماما حق من أهل السنة وكتبهم عبدنا من أعز الكتب إلا أنا غير مقلدين لهم في كل مسألة، فان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومعلوم مخالفتنا لابن القيم وشيخه في عدة مسائل. منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس، فأنا نقول به تبعا للأئمة الأربعة، ونرى الوقف صحيحا والنذر جائزا ويجب الوفاء به في غير المعصية ومن البدع المنهي عنها قراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس، والإطراء في مدحهم والتوسل بهم، على الوجه المعتاد في كثير من البلاد، وبعد مجامع العبادات معتقدين أن ذلك من أكمل القرب، وهو ربما جر إلي الشرك من حيث لا يشعر الإنسان، فان الإنسان يحصل منه الشرك من دون شعور به لخفائه، ولولا ذلك لما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم منه بقوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم أنك أنت علام الغيوم" وينبغي المحافظة على هذه الكلمات والتحرز من الشرك ما أمكن فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا دخل في الإسلام من لا يعرف الجاهلية أو كما قال، وذلك انه يفعل الشرك ويعتقد انه قربة، نعوذ بالله من الخالان وزوال الإيمان.
هذا ما حضر في حال المراجعة مع المذكور مدة تردده وهو يطالبني كل حين بنقل ذلك وتحريره، فلما ألح نقلت له هذا من دون مراجعة كتاب، وأنا في غاية الاشتغال بما هو أهم من الغزو، عمن أراد تحقيق ما نحن عليه فليقدم علينا الدرعية فسيرى ما يسر خاطره ويقر ناظره من الدروس في فنون العلم وخصوصا التفسير والحديث ويرى ما يسر بحمد الله وعونه من إقامة شعائر الدين والرفق بالضعفاء والوفود والمساكين، ولا ننكر الطريقة الصوفية وتنزيه الباطن من رذائل المعاصي المتعلقة بالقلب والجوارح، مهما استقام صاحبها على القانون الشرعي والمنهج القويم المرعي، إلا أنا لا نتكلف له تأويلا في كلامه ولا في أفعاله ولا نعول ونستعين ونستنصر ونتوكل في جميع أمورنا إلا على الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. قال ذلك بن عبد الوهاب عفا الله عنه والمسلمين.
انتهت هذه الرسالة الجليلة المتضمنة لبيان معاني دعوة الإصلاح وشرحها وقد رأيت له _ رحمه الله تعالى _ تصديقا على وقف كائن بمكة المكرمة للشيخ عبد الكبير زيني متوكل، قال في تصديقه.
عليه ما نصه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين.أما بعد
فقد نظرت في هذا الوقف فرأيته وقفا صحيحا لازما لا يجوز تغييره ولا تبديله لاشتماله على شروط الوقف الصحيحة قاله عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبدا لوهاب "الختم" ثم ختمه بختمه غير أنه مع الأسف لم يؤرخه اكتفاء بتاريخ ورقة الوقف المصدق عليه، وقد أخذت لهذا التصديق صورة فوتوغرافية وأثبتها هنا.
وكان رحمه الله مع هذا شجاعا مقداما، وقف في باب البجيري المغروف بالدرعية وشهر سيفه وقاتل قتال الأبطال قائلا كلمته الخالدة: بطن الأرض على عز، خير من ظهرها على ذل، حتى العساكر وزحزحهم عن مواقفهم، وذلك في آخر حرب الباشا الدرعية، وقد سلم الله الشيخ ونقله إبراهيم بن محمد علي باشا إلي مصر بعد ما استولى على الدرعية وذلك سنة 1242 هـ ونقل معه ابنه عبد الرحمن وبقي بمصر محدود الإقامة حتى توفي (12) بمصر سنة 1242 هـ.
وقد أنجب ثلاثة أبناء علماء هم: الشيخ سليمان الذي قتله إبراهيم باشا في الدرعية شهيدا، وعلى قتل فيما بعد على يد بعض عساكر الترك بنجد، وعبد الرحمن2 ونقل معه إلي مصر صغيرا وتعلم بها ودرس برواق الحنابلة وتوفي بها سنة1273 هـ رحم الله الشيخ عبد الله وجزاه عن الإسلام خير الجزاء وصلى الله على محمد وآله وسلم1
__________
__________




_________
1 بعد مضي سبع وعشرين سنة من ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود توفي المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1206هـ فخلفه في مؤازرة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفي القيام بدعوة التوحيد ونشرها المترجم له ابنه الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

2 أصله من وادي الدواسر ونزح منها إلي عسير ونزل قرية العرين بفتح العين وكسر الراء. توفي بها.

3 لقد تخل عن مكة بعدما دخلها بشهر ولم بدخلها بعد إلا سنة 1220 هـ وذلك بعد وفاة والده واستقرت ولايته عليها وعلى جميع الحجاز إلي سنة 1228 هـ عندما ظهر عليه طوسون بن محمد علي باشا وحصل ما حصل من الوقائع والحروب المذكورة في محلها من التواريخ.
4 قال محمد كرد علي في كتابه القديم والحديث الطبعة الأولي سنة 1343 هـ ص166 سطر 6 عن هذه الرسالة ما نصه "ورسالة عبد بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل على أنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين وتلك الرسالة منقولة في إتحاف النبلاء من شاء الإطلاع عليها فلير جع إليها" انتهى.

5 أي الضرائب والرسوم ومعنى رفعت أزيلت وألغيت.
6 أمر عليهم عبد المعين بن مساعد.
7 قال بعض العلماء انه يمكن الوثوق بأقوال غير الأئمة الأربعة لأن لا توجد كتب مدونة لنقل مذهبهم وإن وجدت فلا يمكن الوثوق بها لأنها لم تنقل إلينا بطريق موثوق به ولم يتلقها الناس عن الشيوخ فهي كتب منقطعة الأستاذ وأيضا فان لا بد من معرفة شروط الأحكام وقيودها ومعرقة أن قائليها لم يرجعوا عنها. وهذا غير ميسور في أقوال غير الأئمة الأربعة.

8 روض الرياحين ألفه أحد الغلاة عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي نزيل مكة توفي سنة 898.
9 هي دلائل الخيرات مملوءة بالغلو في الرسول صلي الله صلي وسلم ومؤلفها رجل يقال له محمد بن سليمان بن عبد الرحمن الجزولي المغربي نسبة إلي جزولة أو كسولة من بطون البربر الشاذلي طريقة.
10 من ذكر أولا يريد به حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم اللحياني.
11 لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا بشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد" الحديث.
12 لقد سها مؤلف تاريخ آل سعود حينما ذكر في ترجمته للشيخ عبد الله المذكور من تاريخه صحيفة 194، وذلك عندما ذكر بطولته وشجاعته التي ذكرناها فذكر بقوله وأخيرا استشهد بالقرب من الدرعية سنة 1244 هـ وهذا خطأ، والصحيح هو ما ذكرناه أن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد نقل إلي مصر وبقي بها توفي بمصر سنة 1242 هـ.
2 اشتبه على مؤلف تاريخ آل سعود أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الذي درس الحنابلة هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقال في تاريخه المذكور صحيفة 199 بعدما ساق ترجمة مقتضبة للشيخ عبد الرحمن بن حسن ويقول عثمان بن سند الوائلي في تاريخه: مطالع السعود عنه ما نصه: وأما الشيخ عبد الرحمن فقد أدركته في الجامع الأزهر يدرس مذهب الحنابلة وكان شيخ رواق الحنابلة وكان عالما فقيها ذا سمت حسن يظهر عليه التقوى والصلاح ثم يقطع المؤلف كلام ابن سند وفيه ذكر الوفاة ويدرج فيه كلاما من عنده قائلا قدم سنة 1241 هـ على الإمام تركي ولوا ستكمل المؤلف كلام ابن سيد الظهر له جليا أن هذا الشيخ الذي ذكره ابن سند لم يخرج إلي نجد وانه توفي بمصر، فقد صدق عثمان بن سند وأخطأ المؤلف، فان عثمان بن سند أراد عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولم يرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب واليك ما ذكر عثمان بن سند قال في صحيفة 106 من تاريخه المذكور المطبوع السلفية تحقيق محب الدين: واعلم بقي للوهابية بقية بمصر ظلوا فيها برغبتهم لأنه صار لهم فيها أولاد وأملاك بمصر مثل الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي وله وله أولاد منهم: أحمد الازجي وعبد الله كاتب وفي قلعة الوجه ومن الذين بقوا في مصر أحمد ابن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، وأما الشيخ عبد الرحمن المذكور فقد أدركته في الجامع الأزهر يدرس مذهب الحنابلة سنة 1273 هـ برواق الحنابلة وتوفي سنة 1274 هـ وكان عالما فقيها ذا سمت حسن يظهر عليه التقى والصلاح اهـ. فهذا الشيخ الذي ذكره مختصر كتاب ابن سند وذكر أنه درس برواق الحنابلة ومات بمصر وله بها ذرية معروفة إلي اليوم وقد ذكر المؤرخ الشهير عثمان ابن عبد الله بن بشر في الجزء الأول من تاريخه ص 103 عندما ذكرا بناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعدد فضائل كل واحد منهم حتى أتى على ذكر الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد فقال ما نصه: وكان آية في العلم ومعرفة فنونه، ثم قال ابن بشر بعدما ذكر الشيخ عبد الله واثني عليه بأنه آية في العلم وفنونه ما نصه: وكان لعبد الله ابن اسمه عبد الرحمن جلى معه إلي مصر وهو صفير ويذكر لي أنه اليوم في رواق الحنابلة في الجامع الأزهر وعنده طلبة علم وله معرفة نامة. أقول: وقد ترجم للشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله المذكور الشيخ عبد الرزاق البيطار. في كتابه حلية البشر ج2 ص 839.
إذا تقرر هذا عرف أن الذي درس برواق الحنابلة بالجامع الأزهر هو الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فلم يدرس برواق الحنابلة، بل أقام بمصر ثمان سنوات وظهر إلي نجد في زمن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بسنة 1241 هـ وجدد دعوة التوحيد وتوفي بالرياض سنة 1285هـ كما سيأتي بيان ذلك في ذكر ترجمته في هذا الكتاب أن شاء الله تعالى.

نشر :