رسالة الإمام سعود بن عبد العزيز إلى علماء مكة
فوزي بن عبد الصمد
في عام 1218هـ دخل الإمام سعود بن عبد العزيز -رحمه الله- مكة، وبسط نفوذ الدولة السعودية عليها. وعرض الأمير على العلماء ما يطلبه من الناس ويقاتلهم عليه وهو: إخلاص التوحيد لله تعالى وحده؛ وعرّفهم أنه لم يكن بينه وبينهم خلاف له وقعٌ، إلا في أمرين:
أحدهما: إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة، وأن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد وترك الإشراك، قبل أن تفرض عليه باقي أركان الإسلام الأربعة.
والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لم يبق عندهم إلا اسمه، وانمحى أثره ورسمه.
فوافقوه على استحسان ما هو عليه جملة وتفصيلًا، وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة، وقبل منهم، وعفا عنهم كافة، فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة، ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق -لا سيما العلماء-، ويقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم: “لدينا أدلة ما نحن عليه”، ويطلب منهم المناصحة، والمذاكرة، وبيان الحق.
كما قام الأمير بإزالة جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع ودفع الضر بسببه، من البنايات على القبور وغيرها، حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد الله على ذلك.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “وكان فيمن حضر مع علماء مكة، وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحباني، ولم يزل يتردد علينا، ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها، من دون حياء ولا خجل، لعدم سابقة جرم له. فأخبرناه بأنا مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقتنا طريقة السلف؛ التي هي الطريق الأسلم، بل والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال طريقة الخلف أعلم”، وأطال في بيان العقيدة السلفية، ومن طالع هذه الرسالة (التي كتبها الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عَلِمَ مذهب أبيه الذي يدعو الناس إليه.
قال محمد كرد علي -رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق-: “ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل على أنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه، وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل، وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين”.
وقال خير الدين الزركلي: “وكان مع الأمير سعود ابن الإمام عبد العزيز يوم دخول مكة في المرة الأولى (1218هـ)، وسأل بعض الناس عن عقيدتهم؛ فكتب رسالة اشتملت على معاني دعوة أبيه، ودحض بها ما كان يرميهم به خصومهم”.
ومما جاء في هذه الرسالة:
“- ونحن أيضًا: في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلَّدَ أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم؛ لعدم ضبط مذاهب الغير؛ كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
– ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة في غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به وتركنا المذهب، كإرث الجد والإخوة؛ فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.
– ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر؛ كإمام الصلاة؛ فنأمر الحنفي والمالكي -مثلًا- بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين؛ لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة؛ فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين. فإذا قوي الدليل أرشدناهم للنص وإن خالف المذهب، وذلك إنما يكون نادرًا جدًّا.
– ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد المطلق، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل، مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه.
– ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجَلِّها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، والبيضاوي، والخازن، والحداد، والجلالين، وغيرهم.
– وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين: كالعسقلاني، والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم، والمُناوي على الجامع الصغير.
– ونحرص على كتب الحديث، خصوصًا الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون: أصولًا، وفروعًا، وقواعد، وسيرًا، ونحوًا، وصرفًا، وجميع علوم الأمة.
– ومما نحن عليه: أنا لا نرى سبي العرب، ولم نفعله، ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان.
– وأما ما يكذب به علينا -سترًا للحق، وتلبيسًا على الخلق- بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا، من دون مراجعة شرح، ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رِمّة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، ونتلف مؤلفات أهل المذاهب؛ لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق: أهل زماننا ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن عليه…؛ فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولًا كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: سبحانك هذا بهتان عظيم، فمن روى عنا شيئًا من ذلك، أو نسبه إلينا؛ فقد كذب علينا وافترى”.
وبهذا يتبين لنا: أن منهج علماء الدعوة النجدية في الإصلاح كان قائمًا على العلم وتعظيم الدليل، واتباع المنهج القويم؛ منهج السلف الصالحين، ولم تكن هذه الشذرات سوى نماذج من رسائل أئمة الدعوة النجدية في الدولة السعودية الأولى.
نشر :