أئمة الدعوة النجدية وفرية إبطالهم العملَ بالكتب الفقهية
مشاري الشتري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فحين النظر في المغالطات التي يلقيها بعض المفتونين المتمسِّحين بجاه المذاهب ربَّما اغتر بعض ضَعَفة المحصِّلين بما يُلْقُونه، لا سيَّما إذا امتاز بعض أولئك بالقدرة الفائقة على هدر الأوقات بمضغ الأكاذيب وتكرارها، وكثيرٌ من الأكاذيب تكتسب صدقَها بكثرة طَرْقِها واللهج بها.
ولستُ ممن يحب مقاولةَ من يَفْتَنُّ في إهدارِ وقته وشَغْلِ الناس بذلك الإهدار، لكني أحبُّ أن أتخذ من تلك الأكاذيب والفِرَى سلالمَ لبثِّ الصدق في الناس، فأسعى في ذلك ما استطعتُ إلى ذلك سبيلًا، طلبًا للنفع العام، وتمرينًا للقلم وحفظًا له من السقام.
هذا، ومن رحمة الله بالدعوة النجدية أنْ سُلِّطَتْ عليها بعض الأباطيل على حين فترةٍ من اشتغال طلبة العلم بتراث أئمة الدعوة ورجالاتها، فكانت تلك الأباطيل حاثَّةً طلبةَ العلم على معاودة النظر في كتب أئمة الدعوة والنهل من بحار علومهم.
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ
لولا اشتعال النار فيما جاورتْ *** ما كان يُعرَفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ
ومن تلك الأباطيل والفِرى: الزعمُ بأن أئمة الدعوة النجدية أبطلوا العملَ بالكتب الفقهية!
ومثل هذه الفرية تدل على إفلاس قائلها، حيث لم يجد ما يطعن به على الدعوة سوى فريةٍ يشيع في تراثهم نقضُها.
وإني قبل أن أرى بعض شواهد مَن افترى تلك الفرية كنت أتفكَّر وأناجي ذاكرتي لعلِّي أجدُ أحدًا من المنتسبين للدعوة قد قال بمثل هذا، فلعلهم اتكأوا عليه في بَثِّ ذلك، فيكون غلطُ المدَّعي حينئذٍ في تعميم ذلك، فأناقش الفرية من هذه الجهة، لكني لم أجد مجيبًا من ذاكرتي يؤكد لي ذلك.
وعزمتُ على تقصِّي الأمر مع ظهور الحق بداهةً، لكثرة استشهاد أئمة الدعوة والمنتسبين لها بالكتب الفقهية والعناية بها إقراءً وتدريسًا وقضاءً ونسخًا وتوصيةً.
ثم إني كُفِيتُ مؤونة ذلك لمَّا أظهر بعضُهم الشواهد المدَّعاة، فلما رأيتُها دهشت، ونالني من العجب ما سترى باعثَه.
وأنا الآن أسوق تلك الشواهد لينظرَ القارئ الكريم في حقيقة الأمر، ويحمد الله من بعدُ على ما آتاه من عقلٍ وبصيرة يرى بهما الأمور كما هي.
وملخَّصُ الأمر أن أحدهم قد بذل غايةَ جهده في تثبيت هذه الفرية فأتى بشاهدين، لإمامين من أئمة الدعوة النجدية، وهما: الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وابنه الإمام سليمان بن عبد الله بن محمد.
وأنا أعرض الشاهدين كما حكاهما، ثم أعلق بعد كلٍّ منهما بما يمنُّ الله تعالى به.
أولًا: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
استند المدَّعي في تثبيت إبطال الشيخ عبدِ الله العملَ بالكتب الفقهية على قوله الآتي:
(وأما قولكم: إن أهل هذا الدين، بلغنا أنهم يعتمدون على مذاهب الأئمة الأربعة، وأنكروا علم أهل البيت، وأقوالهم ومذاهبهم = فالذي نحن عليه: اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على تفسير الأئمة لكتاب الله وسنة رسوله، لأنهم أعلم بكتاب الله منا.
فإذا اختلفوا في مسائل الفروع عرضنا أقوالهم ورددناها إلى كتاب الله وسنة رسوله، فما كان أقرب إلى ذلك اتبعناه، كما أمرنا الله بذلك في قوله: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا». والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، وكذلك الرسول ﷺ، فالرد إليه في حياته، وبعد موته إلى ما صح من سنته، كما فسره بذلك المفسرون من السلف والخلف) الدرر السنية (4: 25-26).
ألستَ تعجبُ من اتخاذ هذا النص شاهدًا دالًّا على إبطال العمل بالكتب الفقهية؟
ثم ألستَ تعذرني إذا علمتَ كم هي حيرتي وأنا أتطلَّب سبيل الرد على هذا الشاهد؟
وكنت أتمنى أن أجد في الشاهد شبهةً على ذلك لأجد ما أعالجه وأدفعه، لكن النصَّ ظاهرٌ بيِّنٌ فيما يريده الشيخ، وهو أن مأخذ الحجة ما جاء في كتاب الله تعالى وما جاء في سنة نبيه ﷺ، وأن أقوال الفقهاء تعرض على ذلك، ولا يُقدَّمُ رأيُ أحدٍ على الكتاب والسنة، فهذا الكلام من الشيخ تقريرٌ لمنهج النظر في مسائل الفروع حال اختلاف الأئمة فيها.
وهذا ليس لسانَ الإمام عبد الله فحسب، بل هو لسان الأئمة كافةً، يعرف ذلك صغار طلبة العلم قبل كبارهم، فأين في ذلك إبطال الشيخ العمل بالكتب الفقهية؟! إلا إن كان المدَّعي يريد بيان أن أئمة الدعوة يريدون إبطال تقديم العمل بالكتب الفقهية على الكتاب والسنة، فيقال له: نعم، ولكن هذا قول كل مسلمٍ، وإلا فهل يقول مسلمٌ بتقديم الكتب الفقهية على الكتاب والسنة؟! وهذا لا يقوله حتى هذا المفترالمدَّعي، لكن ما حيلتنا ونحن نرى نصَّ الإمام عبد الله ظاهرًا في المراد، ثم نراه بعد ذلك يحرفه عما هو ظاهر بين فيه؟
وأصل مقالة الشيخ هذه قاله رسالة بعثها الشيخ إلى أحدِهم، وقد تضمنت هذه الرسالة نفسها نقلا عن الكتب الفقهية على سبيل الاستشهاد، كالإقناع وشرحه (4: 23)، والمغني (4: 23-24)، والإفصاح والرعاية والإنصاف (4: 24)، وهذه النقول وردت في الصفحات الثلاث التي سبقت الصفحة التي نقل منها المدَّعي عن الإمام عبد الله، فاعجَبْ لذلك، ولكن الشأن كما قال نبينا ﷺ: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتَ).
وقد قال المدَّعي قبل إيراده هذا الشاهد:
(قلنا أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائمة على أمور منها إبطال العمل بالكتب الفقهية وذكرت وذكر غيري شواهد هذا من تراث الدعوة. تفضلوا هذا الموضع ينشر لأول مرة في تويتر، جواب للشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب على سؤال ورد من اليمن، مع بيانه للدكتور صلاح).
قلتُ: أما النقل فتبين لك ما فيه، وأما ما أشار إليه من بيان الدكتور صلاح فآتي به لتدرك حجم المأزق العقلي في فهم الكلام على وجهه.
قال د. صلاح بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ في كتابه (المنهج الفقهي لأئمة الدعوة السلفية في نجد) بعد أن ذكر مضامين رسالة الإمام عبد الله، وتحديدًا ذكر الشيخ عبد الله لأصول الإمام أحمد والتي نقلها عن ابن القيم وقوله بعد ذلك: «هذا ما أشرنا إليهمن قولنا مذهبنا مذهب الإمام أحمد». قال د. صلاح (ص363).
(وهذا التوضيح من الشيخ عبد الله فيه رد على من ظن أن انتسابهم إلى مذهب أحمد هو التقليد للمذهب الحنبلي، حسب ما قرره محققو المذهب ورجحوه، فبيَّن أن حقيقة انتسابهم إلى المذهب الحنبلي هو انتسب إلى أصول الإمام أحمد التي سار عليها في ترجيحه واختياراته، والتي هي أصول علماء أهل السنة والجماعة أجمعين. ويشهد لقول الشيخ عبد الله اختياراتُهم الفقهية وفتاواهم ورسائلهم، فقد خالفوا المذهب في مجموعة من المسائل، واختلفوا هم في بعض المسائل، وقد تحرروا من الخوف من لمز ونبز وتشنيع المقلدين الذين جعلوا من خالف مذهب إمامه في مسألة في مسألة ومسائل بمنزلة من خرج عن إجماع الأمة ...).
ووضع المدَّعي خطا تحت النصوص التالية: (هو انتساب إلى أصول الغمام أحمد التي سار عليها في ترجيحه واختياراته)، (فقد خالفوا المذهب في مجموعة من المسائل)، (من لمز ونبز وتشنيع المقلدين).
وهنا أترك الحكم للقارئ الكريم، ولينظر أين في كلام الإمام ثم بيان الدكتور ما يدل على إبطال العمل بالكتب الفقهية ؟!
ثمَّ .. هل أنا بحاجةٍ بعد ذلك إلى جرد ما كتبه الإمام عبد الله بن محمد لتثبيت وهاء هذه الفرية؟
لا أظن ذلك، لكني آتي القارئ بنص واحد في رسالة معدودةٍ من عيون رسائله، وهي رسالةٌ منهجية أبان فيه الإمام عبد الله منهج الدعوة في كثير من الأمور، فهو بذلك يقرر منهاجا عامًّا، فلكلِّ ما ورد في هذه الرسالة وزنُه اللائق به، ومما قاله فيما يتعلق بما نحن فيه قوله:
(ونحن أيضا في الفروع، على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة، دون غيرهم، لعدم ضبط مذاهب الغير، الرافضة، والزيدية، والإمامة، ونحوهم، ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة، بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة.
ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحد لدينا يدعيها، إلا أننا في بعض المسائل، إذا صح لنا نص جلي، من كتاب، أو سنة غير منسوخ، ولا مخصص، ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة: أخذنا به، وتركنا المذهب، كإرث الجد والأخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث، وإن خالف مذهب الحنابلة.
ولا نفتش على أحد في مذهبه، ولا نعترض عليه، إلا إذا اطلعنا على نص جلي، مخالف لمذهب أحد الأئمة، وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر، كإمام الصلاة، فنأمر الحنفي، والمالكي مثلا، بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة، فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا) الدرر السنية (1: 227).
بعد ذلك حدثني عن الفِرَى وأعاجيبها.
وقد قال الإمام عبد الله في الرسالة نفسها: (فمن أراد تحقيقَ ما نحن عليه فلْيَقْدَم علينا في الدرعية، فسيرى ما يسر خاطره ويقر ناظره).
وأنا أقول: من أراد تحقيق ما كان عليه هذا الإمام وسائر أئمة الدعوة فلْيَقْدَم على كتبهم ومصنفاتهم ورسائلهم ومخاطباتهم، فسيرى ما يسر خاطره ويقر ناظره.
ثانيًا: الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
استند المدَّعي في تثبيت إبطال الشيخِ العملَ بالكتب الفقهية على قوله الآتي في شرحه لكتاب جده «كتاب التوحيد»:
(قوله: «وعبادة الأحبار هي العلم والفقه» أي: هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك سواء وافق حكم الله أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يريدون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلدوه، ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب).
وأقول هنا ما قلته في الشاهد الأول: ألستَ تعجبُ من اتخاذ هذا النص شاهدًا دالًّا على إبطال العمل بالكتب الفقهية، ثم ألستَ تعذرني إذا رأيتني محتارًا في سبيل الرد على هذا الشاهد؟!
قال المدَّعي: (الشيخ سليمان بن عبد الله ت1233هـ حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ذكر في شرحه على كتاب جده أن من عبادة الرهبان كتب الفقه، ثم يأتي بعد هذا مجادل وبصفاقة وجه وينفي إبطالهم للكتب الفقهية).
والآن عليَّ أن أنقح مناط "صفاقة الوجه" وللقارئ بعد ذلك تحقيق المناط بحسب ما يراه.
هنا يتحدث الإمام سليمان في ذات الموضوع التي تحدث عنه والده في الشاهد الأول، وهو ما يتعلق بتقديم الكتب الفقهية على الكتاب والسنة، وأن ذلك من جنس عبادة الأحبار، والذي قال الله تعالى عنه: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله». وتفسير النبي ﷺ عبادتهم بطاعتهم، وبوب عليه الإمام محمد بقوله: (باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله).
فإذًا يتحدث الشيخ سليمان عن جزئية معينة، وهي التقدم بين يدي الله ورسوله، وكما عَبَّرَ في ضمن شرحه لهذا الباب فهو يتحدث عمن (تجده جامدًا على أحد هذه المذاهب، ويرى الخروج عنها من العظائم).
ثم يزيد الشيخ ذلك بيانًا فيوضح أن المحظور هو الاستغناء بكتب الفقه والإعراض عن الكتاب والسنة، فيقول: (إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة، نعم، ويُنكَرُ الإعراضُ عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبالُ على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة).
ثم -ويا للعجب- يصرح الإمام سليمان بجواز العمل بالكتب الفقهية والاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة فيقول في ذات الباب:
(فإن قلت: فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟
قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما»).
فهنا يبين الإمام "لكل ذي عقلٍ" جهة الاستفادة من الكتب الفقهية، ويقرر أنها سبيل لفهم الكتاب والسنة، وعلى ذلك أهل العلم كافة، ويقرر حرمة تقديمها على الكتاب والسنة، وعلى هذا أهل العلم كافة، فأين هذا البيان الواضح الجلي، والسياق المرشد العلي، من الفهم السقيم المدَّعي، وهل أدركتَ أخي القارئ مَن الأحقُّ الآن بأن يوصف بما ذكره المدَّعي من صفاقة الوجه؟!
ثمَّ .. هل أنا بحاجةٍ بعد ذلك إلى جرد ما كتبه الإمام سليمان لتثبيت وهاء هذه الفرية؟
لا أظن ذلك، لكني أكتفي بشاهدٍ على ذلك، وذلك بالإشارة إلى عناية الشيخ سليمان بكتاب «المقنع» للإمام الموفق ابن قدامة، فقد نسخه الشيخ سليمان بيده -وطبعته الدارة كما هو- وهو من أشهر منسوخاته بخطه الحسن الرائق، كما صنف عليه حاشيةً مستقاةً من «الشرح الكبير» و «المبدع» و «الإنصاف» وغيرها، وأثبتَ نسبتها له جمع من العلماء والمحققين، كالإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ (فتاواه 2: 18)، والشيخ عبد الرحمن آل الشيخ (مشاهير علماء نجد: 30) وغيرهما (انظر: ترجمته الحافلة التي رقمها الشيخ عبد الله الشمراني: 231 وما بعدها).
وهو في هذه العناية -مع صغر سنه ومقتله شابًّا رضي الله عنه وتقبله في الشهداء- جارٍ على سنن والده كما رأيتَ قبلُ، وكذا سنن جدِّه الذي بثَّ في الناس كتب الفقه وقرَّبها إليهم، فاختصر الشرح الكبير والإنصاف، واستلَّ من كتب الفقه كالإقناع وشرحه زُبَدًا من العبادات لمبتدئ الطلبة في رسالة صغيرة محكمة (آداب المشي إلى الصلاة) وغير ذلك من الشواهد، ولو استعرضنا جهود أئمة الدعوة في هذا الباب من إمامها الأول إلى كبقة الإمام محمد بن إبراهيم وطبقة تلاميذه لرأى الناظر ما يسرُّه.
ولا يظننَّ ظانٌّ أن التأكيد على موقف الشيخ عبد الله وابنه سليمان يعني اختصاص ذلك بهما، ولكن المدَّعي لما ساقهما شاهدين فجرى الرد عليه بحسب ما جاء به.
وإلا فما قالاه هو قول إمام هذه الدعوة وأتباعه، وتقصِّي ذلك يطيل المقالة بما يثقل القارئ، ولكني أكتفي من ذلك ببعض تقريراتٍ لإمام هذه الدعوة، وبها تدرك أن الكلَّ يصدر من مشكاة واحدة.
فمثلًا، ما مضى من كلام الشيخ سليمان فيما يتعلق بمنهج النظر في الكتاب والسنة والنظر في كتب الفقهاء، وجهةِ كلٍّ منهما، هو ما قرره من قبلُ جده الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقال في كلام جامعٍ:
(ينبغي للمؤمن أن يجعل همَّه ومقصدَه معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم ويوقرهم ولو أخطأوا، ولكن لا يتخذهم أربابا من دون الله، هذا طريق المنعم عليهم، أما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم) الدرر السنية (4: 10)، مجموع الرسائل والمسائل (1: 12).
فذكر الإمامُ أن الاحتكام حال الخلاف يكون إلى الكتاب والسنة، ثم نبَّه على ضرورة احترام أهل العلم ولو أخطأوا، وذكر أن من اطرح كلامهم ولم يوقرهم فقد سلك طريق المغضوب عليهم .. أفيقال بعد ذلك أن طريقة الإمام وأتباعه اطراح كتب الفقه؟!
وكلام الإمام في عمله بكلام الفقهاء ما لم يخالفوا النصَّ كثيرٌ منتشرٌ، ومنه قوله في ضمن رسالةٍ له:
(وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد، فنحن مقلدون الكتاب والسنة، وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد، من أقوال الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل، رحمهم الله تعالى) الدرر السنية (1: 97).
وقال في ذات الرسالة:
(وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها، وما لا يوافق النص لا نعمل به) الدرر السنية (1: 100).
وغير ذلك من النصوص كثير، والشيخ يصرح في مواضع بأنه على مذهب الإمام أحمد، وإن خرج عنه لدليل، وما معنى اتباعه لمذهب الإمام أحمد إذا كان يبطل العمل بكتب الفقه؟!
وقد تولى الشيخ التصريح بذلك لئلا يُكذَبَ عليه، وقد كُذِبَ عليه، فقال في رسالة له بعثها إلى أهل مكة وكأنه يبصر الغيب من سِتر رقيق:
(أنا أخبركم بما نحن عليه بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب، فنحن ولله الحمد متبعون لا مبتدعون، على مذهب الإمام أحمد) عنوان المجد (1: 171)، الدرر السنية (1: 57).
وهذه الرسالة قد كتبها الشيخ سنة (1204هـ) أي قبل وفاته بسنتين، وبه تعرف فضل هذا النص واختصاصه.
ثم إني أختم بأمرٍ، وهو أن هذه الفرية التي سبقتْ قد قيلت قديمًا، بل في حياة الشيخ، كلُّ ذلك ابتغاءَ خلق المضادة بين الشيخ وسائر الفقهاء، صدًّا للناس عن سبيل دعوته، وليس يرضى أعداء الشيخ منه بشيءٍ ولو صنع ما صنع، وقد كان الشيخ صنف مختصرًا للإنصاف والشرح الكبير، وأمر بالقراءة فيه، وهذا شاهدٌ على عناية الشيخ بكتب الفقهاء وبثه ذلك في الناس، ولكن أعداءه اختلقوا فريةً مفادها أنه لم يختر الإنصاف والشرح الكبير إلا طعنًا في كتب المتأخرين كالمنتهى والإقناع، فما كان من الشيخ إلا أن رد عليهم عمليًّا، فاختصر بعض أبوابٍ من الإقناع وأمر الناس بقراءتها، يحكي ذلك ابن بشر في تاريخ فيقول وهو يذكر شيئا من مؤلفات الإمام:
(واختصر من الشرح الكبير والإنصاف مجلدًا لبيان الخلاف، وأمر بالقراءة فيه، فلما سمع بذلك المنتسبون للعلم من أهل نجد كذبوا عليه أنه طعن في كتب المذهب كـ «الإقناع» و «المنتهى» التي على قول واحد، فأخذ من شرح الإقناعِ نبذةً في أحكام الصلاة والزكاة والصيام من باب آداب المشي إلى الصلاة إلى باب ما يفسد الصوم، وأمر بالقراءة فيها وتعليم العامة ما يلزمهم معرفته من أحكام صلاتهم وصيامهم، وتكذيبًا لأولئك فيما قالوه) عنوان المجد (1: 185).
بعد ما مضى، أعتذر للقارئ الكريم من إضاعتي وقته في إيضاح الواضحات.
وأنتَ .. قلِّبْ طرفك منعمًا النظر في مصنفات وتراث أئمة هذه الدعوة المباركة، لتقف على حقيقة عملهم وإفادتهم من كتب فقهاء الإسلام، ولكنَّ المخذولَ من أضلَّه الله عن الواضحات، وسلطه على أئمة الدين بالكذب والتزوير.
وأيُّ حاجةٍ تبعث المرء على مثل هذا الافتراء إلا إذا كان الغلُّ قد استحوذ على قلبه تجاه أئمة الدعوة ورجالاتها، فليحمدِ اللهَ العبدُ على ما وهبه الله من العافية وسلامة الصدر.
وأيُّ حاجةٍ إلى تكلُّف الشواهدِ على ذلك وحالُ أئمة الدعوة فيما يتعلق بجهةِ الفِريَة واضحٌ لكل ذي عينين، ولو أن تراثَهم مخبوءٌ في مدافن الأمكنة ومدوناتِهم مطويَّةٌ في غابر الأزمنة لكان في افتراء المفترين بعضُ شبهةٍ، ولكن أنَّى لهم ذلك وإرثُ الدعوة دانٍ لكلِّ أحدٍ.
قال شيخ العربية محمود شاكر: (قليلٌ من الحياء يصلح العقل) .. فما الحيلة فيمن فاته حتى هذا القليل؟!
ولكنها مع ذلك فرصةٌ لمراجعة كتب أئمة الدعوة والوقوف على عيون معارفها والإفادة من علوم أئمتها، نفعنا الله بهم وجمعنا بهم في مستقر رحمته.
قال ربنا جل في علاه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله عز وجل صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا).
نشر :