مزاعم المستشرقين في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب..عرض ونقد

إنَّ اهتمام المستشرقين بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يندرج ضمنَ اهتمامهم بدراسة الإسلام والمسلمين والبلاد الإسلامية، والذي يقتضي تتبّع ما يجري في العالم الإسلامي ورصده وتحليله. ومن القضايا التي عني بها الاستشراق الدعوات الإصلاحية، وأبرزها دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التي تعرضت لكثير من سوء الفهم وخصوصا من قبل بعض المستشرقين، والذي كان له الأثر في نشر المفاهيم المغلوطة عنها في الغرب، وتأثّر بعض أبناء المسلمين بها([1]).

في هذه الورقة سنذكر الأسباب التي أدَّت إلى وقوع المستشرقين في هذه الأخطاء حول دعوته رحمه الله وتفنيدها؛ حتى يتسنّى للقارئ معرفة موضع الوهم الذي وقعوا فيه وأسبابه؛ للعلاج والإصلاح، وهي كالآتي:

أولًا: استخدام المستشرقين مصطلح (الوهابية) للدلالة على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

استخدم المستشرقون السابقون مصطلح (الوهابية) أو مصطلح (الوهابي) أو (الوهابيون) في مؤلفاتهم ومقالاتهم للدلالة على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن انتمى إليها، بل إن بعضهم جعله في عنوان كتابه، مثل: بوركهارت، وبرايدجس وكوبر، أو في عنوان مقالته، مثل: ولفرد بلنت، ومارجليوث، وصمويل زويمر، وتوماس باتريك هيوس، وصمويلي، وجورج رنتز، مع اعتراف بعضهم بأن هذه التسمية أطلقت عليها من أعدائها، وأن المصطلح ليس بمستخدم عند أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفي ذلك يقول مارجليوث: “إن التسمية بـ (الوهابية) أطلقت من قبل المعارضين في فترة حياة مؤسسها، وقد استخدم الأوروبيون هذه التسمية، ولم تستعمل من قبل أتباعها في الجزيرة العربية، بل كانوا يسمون أنفسهم بالموحدين”([2]).

أما توماس باتريك هيوس فقد ذكر أن (الوهابية) فرقة إصلاحية مسلمة أسّسها محمد بن عبد الوهاب، وأن أعداءهم لا يريدون تسميتهم بالمحمديين “Muhammadans”، ولذا ميزوهم باسم أبي الشيخ، وسموهم بالوهابيين([3]).

المناقشة:

أما عن استعمالهم فإن من مقاصدهم الازدراء، فقد قال جورج رنتز وهو يفصل في شرح المصطلح مشيرًا إلى من أطلقه ودلالته والموقف منه وسبب استخدامه لهذا المصطلح، وذلك من خلال ما سطره في مقالتيه: “الوهابيون”، و”الوهابية والمملكة العربية السعودية”. يقول: “أما الكتاب الغربيون فأخذوا مصطلح (الوهابي) واستخدموه في الأغلب على أنه مصطلح ازدرائي. أما أنا فأستخدمه في البحث من أجل الإيضاح، ولكن المصطلح لا يحمل أي معنى عدائي”([4]).

ولا شك أن ازدراء الشيء ينتج عنه نظرة خاطئة، فعين السخط مبدية للمساوئ، غاضة الطّرف عن المحاسن، كأعمى واقف يرمق حسناء!

ثانيًا: الجهل بالشريعة ومحاسنها:

من يقرأ في عبارات أولئك الرّحّالة يستشعر من ألفاظهم أنهم يعتقدون بتشدّد الوهابيّين، ومن تأمل فيما كتبوه علِم أنهم قصدوا من التشدّد: تطبيق أحكام الشريعة الغرّاء، فالأمّة قد كانت في سبات، ولكن سنة الله في خلقه أنه لا تزال طائفة من أمة المصطفى على الحقّ ظاهرين على من ناوأهم. ودونك نماذج من أقوالهم:

المستشرق “بوركهارت” يصفهم مقارنة بالأتراك: “الفرق الوحيد بين الوهّابيين والأتراك هو أن الوهّابيين تشدّدوا في تطبيق الشرائع الإسلاميّة بينما سها عنها الآخرون”([5]).

وقد أثّرت هذه النافذة التي يطلّون من خلالها على دعوة الشيخ وآثاره، فصاروا يصفون دعوته بأوصاف فيها جفاء وغلظة منها:

1- ما يتعلّق بالزّكاة، قال المستشرق “بوركهارت”: “الضريبة أو كما يسميها (الوهابيون): الزكاة، وإيتاء الزكاة ركن أساس من أركان الإسلام، وقد نظم محمد صلى الله عليه وسلم مقاديرها، وراعاها (الوهابيون) بدقة، والزكاة معترف بها لدى الأتراك أيضًا، لكن توزيعها متروك لضمير كل إنسان، في حين إن (الوهابيين) مجبرون على أدائها إلى زعيمهم لتوزيعها. وقد حدد الشرع الإسلامي بدقة أنصبة زكاة المال، ولم يحدث (الوهابيون) أي تغيير فيها”([6]). ويقول لي ديفيد كوبر: “وكذلك تشددوا في جمع الزكاة، فاعتبروها واجبة لا على الظاهر من الدخل فحسب، بل وعلى الخفي منه أيضًا كالربح في التجارة”([7]).

2- ما يتعلّق بلباسهم ومعاشهم، فقد قال المستشرق “مارجليوث”: “إن الوهابيين حرموا التزيين والزخرفة سواء من الذّهب والفضّة والأحجار الكريمة”([8]). ويرى “باول شمتز” أنه بموقف الإمام من هذه الأمور يكون قد حارب كثيرًا من ألوان الحياة التي تتعارض مع الحياة الطبيعيّة للإنسان([9]).

ويقول المستشرق “وليمز” عن الوهابيّة: “ومهما يكن الخلاف المذهبي بين الوهّابيين وغيرهم من المسلمين فإننا نجلّ الوهابيين، فإنهم يدققون في عبادتهم، فيحفظون القرآن والحديث، ويأتمرون بما جاء في الشريعة الغرّاء، وينهون عمّا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلّم، فيحرّمون على أنفسهم لبس الحرير والتحلي بالذهب وشرب الخمر وتدخين التبغ، ويحاربون السحر والميسر وغيرها من الأرجاس”([10]).

يلاحظ أنه جعل تحريمهم لبس الحرير والتحلي بالذّهب ليس مما جاءت به الشريعة، وإنما يحرمون على أنفسهم.

3- ما يتعلّق بأعيادهم فيقول وليمز: “المسلمون يعيدون سبعة أعياد، بينما لا يعيّد الوهّابيّون غير عيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى”([11]).

4- ما يتعلّق بشرب القهوة، فيقول لويس شيخو: “ويمنع -أي: الشيخ محمد بن عبد الوهّاب- عن شرب القهوة والتبغ فضلًا عن المسكرات”. وكذلك يقول المستشرق “جولد تسيهر”: “فيرى أن الشيخ يتشدّد في قمع كل بدعة حتى ينهى عن تناول القهوة”([12]).

5- ما يتعلّق بعبادة الأولياء وتقديسهم فيقول “روثفن”: “أما في الواقع فإن خطتهم العسكريّة اشتملت على محاربة عبادة الأولياء، وهي من الأمور المباحة التي لم يمنعها الرسول بصورة ظاهرة”([13]). وسخر “جولد تسهير” في هذا الصدد من أتباع الدّعوة السلفيّة وقال: “إنهم جديرون باسم: هدّامو المعابد في بلاد العرب”([14]).

فكانت هذه أخطاء متراكمة تصبّ في قالب التشدّد والجفاء، ولعلها كانت من أكبر أسباب وقوعهم فيها هي نظرتهم لحركة الشيخ محمد عبد الوهّاب بأنها من حركة الخوارج.

المناقشة:

1- أما ما يتعلّق بالزّكاة:

قول المستشرقين مارجليوث ولي ديفيد كوبر حول التشدّد في أخذ الزكاة من المال غير ظاهر، وذلك لأن الزكاة تجب في الأموال الظاهرة والأموال غير الظاهرة كعروض التجارة، ولكنَّ هَذَيْن المستشرقَيْن اعتمَدا على مؤلّف كتاب (لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب)؛ مما أوقعهما في هذا الخطأ. يقول الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ في تعليقه على كتاب (لمع الشهاب): “وقوله: (وكان يوجب على الناس دفع زكاة أموالهم الباطنية…) إلخ، ويأمر بالتجسس. الجواب: أن يقال كما قال أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر الجيزي أو محمد بن عبد الرحمن أبو بكر بن قريعة -على رواية-:

لي حيلة في من ينمّ * وليس في الكذّاب حيلة

من كان يخلق ما يقول * فحيلتي فيه قليلة

وعلى سبيل الافتراض والتنزّل مع هذا المفتري، فعلماء أهل السنة والجماعة ذكروا في جملة ما يعتقدونه أن الصدقات تدفع إلى الأمراء عدلوا فيها أو جاروا، ولم يفرّقوا بين الأموال الظاهرة كالحبوب والثمار والسائمة، ولا بين الأموال الباطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة، وقد كانت زكاة الأموال الباطنة تحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الخلفاء الراشدين من بعده”([15]).

2- أما ما يتعلّق بلباسهم ومعاشهم:

فإن ما زعمه المستشرق مارجليوث أن الإمام وأتباعه حرموا التزيين والزخرفة سواء من الذّهب أو الفضّة أو الأحجار الكريمة، فهذا الإطلاق كما ذكرنا فيه نظر، فالمسألة فيها تفصيل وليس على هذا الإطلاق، فاللباس فمنه:

– ما هو واجب، وهو ما يستر العورة وما يقي الحرّ والبرد.

– ومنه ما هو مندوب، وهو ما فيه جمال وزينة.

– ومن اللباس ما هو محرّم كلباس الحرير والذهب للرّجال، كما صرّحت بذلك الأدلّة من الكتاب والسنّة، بينما أباحه للنساء، ويجوز للرجال أن يلبسوا الخاتم المصنوع من الفضّة، وهناك من اللّباس ما يحرم كلباس الشهرة، والاختيال، ولبس الرجال ما يختصّ بالمرأة من ملابس، ولبس النّساء ما يختص بالرّجال من ملابس، وكل ما فيه إسراف.

ومن خلال هذا العرض الموجز لمسألة اللبس يتبيّن خطأ ما وقع فيه هؤلاء المستشرقون من هذا التعميم الذي نسبوه للشيخ.

وهناك دليل تاريخيّ يفنّد ما ادعاه المستشرقون في مسألة اللباس والزينة، فقد أشار المؤرّخ ابن بشر إلى الحالة التي كانت عليها الدرعيّة في زمن سعود وما فيه أهلها من الأموال وكثرة الرّجال، والسلاح المحلّى بالذهب والفضّة، والملابس الفاخرة وغير ذلك([16]).

3- أما ما يتعلّق بأعيادهم:

فما ادّعاه ولميز من اتّخاذ المسلمين لسبعة أعياد بينما يعيّد الوهابيّون عيدين فقط! هذا الادّعاء يدل على جهل فاضح بشريعة الإسلام، وبما قرّره الإسلام من شعائر تعبديّة، لا تحتمل الإضافة كما قال الله تعالى: {الْيَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فما أضافه بعض المسلمين في القرون المتأخرة يعدّ من الأمور البدعيّة الدخيلة على الإسلام، والتي ترفضها الشريعة الإسلاميّة، والمسلمون مأمورون باتباع هدي القرآن والسنّة المطهّرة في اتّخاذ هذين العيدين اللّذين وهبهما الله لهذه الأمّة، وأن يحذروا من ابتداع أعياد أخرى لم تثبت من كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا ما التزم به الإمام محمد بن عبد الوهّاب وأتباعه، فهل يعابون في ذلك بعد أن أخذوا بهدي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلّم وسنة الخلفاء الرّاشدين؟!

4- وأما ما يتعلّق بهدم قبور الأولياء:

فإن الخطأ في ذلك واضح جدًّا، فليس من الإسلام في شيء الدعوةُ إلى تقديس الأولياء أو عبادتهم، بل على العكس من ذلك، فقد حرّمه الإسلام وعدّه من الشرك العظيم. ولما كان الدعاء من أخص أنواع العبادة أمر الله تعالى أن يدعى هو، ولا يدعى معه أحد سواه، فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

5- وأما ما يتعلّق بشرب القهوة:

فالقول بتحريم القهوة التي نسبها المستشرق شيخو وجولد تسيهر إلى الإمام محمد بن عبد الوهّاب أجاب عن هذا الزعم الشيوخ عبد اللطيف بن حسن آل شيخ، فبيّن أنه لم يثبت تحريمها عن أفاضل أهل العلم، فضلًا عن الإمام محمّد بن عبد الوهّاب. وقد فصّل في الرد على العلل التي ذكرها بعضهم عند تحريمها.

كما أوضح د. العجلاني أن أئمة الدعوة السلفيّة لم يحرموا القهوة، وإنما حرمها جماعة من الجهميّة في عمان([17]). وفوق ما ذكرنا هناك أقوال لبعض المستشرقين تثبت أن دعاة الحركة السلفيّة لم يحرموا القهوة، منها ما قاله بوركهارت: “ويقال: إنهم حرموا شرب القهوة، ولكن ذلك غير صحيح؛ إذْ إنهم دائمًا يشربونها بقدر كبير”([18]).

ويؤكّد ذلك المستشرق زنتز بقوله: “ولم تكن القهوة معروفة للأجيال الأولى من المسلمين؛ لذا فقد سمح بها نظرًا لأن استخدامها لم يكن ضارًّا من الناحية الدينية”([19]).

ثالثًا: أنها دعوة التزمّت والتعصّب:

الفرق بين التعصّب والتشدد أن التعصّب يكون أصله في الرأي، والتشدّد يكون في الفعل، وقد يتعدّى التشدّد في تأثيره إلى الآخرين، ويقصد به المستشرقون تطبيق الأحكام على الآخرين، فقد يكون الشخص متمسّكًا برأيه تعصّبًا له دون أن يلزم به الآخرين، فإذا ألزم به أصبح متشدّدًا([20])، فهذا تمهيد للتفريق بينهما.

وأمّا عن أقوالهم فهي كثيرة، منها:

ما يقول المستشرق باركلي رونکيير وهو يصف رحلته: (انضم إلينا مطوع كان شابّا شديد التزمّت من الوهابيين؛ كان يضع نفسه أمام القافلة نصف ساعة قبل وقت كل صلاة، ثم يضع إبهاميه في أذنيه ويؤذّن للصلاة بصوت قويّ، لكن الرجال يبتسمون فقط بينما يستمرون في سيرهم، وعندما ينتهي من الأذان يكتشف أنه أضاع جهده بين صخور الصحراء، فيعدو سريعا خلفنا وهو يصرخ بكلمات غاضبة)([21]).

ويقول المستشرق بيتر برینت واصفًا أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (عندها التفت إلى تلك القوة الجديدة التي ظهرت في تلك البلاد حيث كان من المفروض أن تكون خاضعة له وتحت نفوذه، وما تلك القوة إلا قوة الوهابيين المتعصبين الذين مدوا ووسعوا نفوذهم المباشر من نجد إلى الحجاز)([22]).

ويقول لوريمر: (فالوهابيون من جانبهم كانوا متعصبين أشد التعصب)([23]).

ويصف لوريمر أتباع الدعوة بضيق الأفق والجمود فيقول: (ومن ناحية أخرى يجب القول بأن معظم الوهابيين ممن لم يتفهموا الأمور في مبادئها العامة والشاملة كانوا يتصرفون بشكل يتسم دائما بضيق الأفق والجمود)([24]).

أما لوثروب ستودارد الأمريكي فيقول: (فهم على إيغالهم في الاعتصام بالفروض الدينية وقواعد الآداب كانوا على ضعف شديد في المدارك وبعد في التعصب، فلذلك كان من حسن حظ الإسلام أنهم باعوا بخسران سلطتهم السياسية، فقصروا مساعيهم ودعوتهم على التعاليم الدينية والأدبية فحسب)([25]).

أما جان جاك فقد افترى عليهم بوصفهم بالتعصب والرجعية فقال: (إن نهضة الإخوان الأخيرة هذه بالغة الخطورة؛ لأن هؤلاء المحاربين الوهابيين المتعصبين قد عارضوا دائمًا بشدة إدخال التكنيك الغربي إلى المملكة، وكل تقدّم يبدو في نظرهم مفسدًا؛ لذلك كان على الملك أن يحافظ باستمرار على التوازن الدقيق بين مطالب رعاياه الرجعيين المخلصين وبين آمال أولئك الذين يناصرون التقدم)([26]).

المناقشة:

سنعرض أقوال الشيخ تجاه ما يدّعونه في رأيهم من التعصّب، والتقليد:

يقول: (ينبغي للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم ويوقّرهم ولو أخطؤوا، ولكن لا يتّخذهم أربابًا من دون الله، فهذا طريق الضالين، أما طرح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم)([27]).

ويقول كذلك: (إذا اختلف كلام أحمد وكلام الأصحاب فنقول في محل النزاع التّرادّ إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلّم، لا إلى كلام أحمد ولا إلى كلام الأصحاب، ولا إلى الراجح من ذلك، بل قد يكون الراجح والمرجوح من الروايتين والقولين خطأ قطعًا)([28]).

ويقول أيضًا: (ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وقول جمهورها)([29]).

اعترافات بعض بني جلدتهم:

ومع ذلك فلا غرابة أن نجد من المستشرقين من نطق بالحقيقة، فقد اعترف المستشرق الألماني شاخت بذلك في دائرة المعارف الإسلامية فقال: (وينكر الوهابية -وأولهم إمامهم ابن عبد الوهاب- التقليد)([30]).

وهذه الباحثة الأمريكية نت تقول: (لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب متعصبًا، لقد كان متوازنًا ومنطقيًّا في مناقشاته وكان عالِمًا كبيرًا)([31]).

رابعًا: نظرتهم بأن حركة الشيخ في الحقيقة خروج على الإمام:

يقول إليكسي متهمًا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بالخروج على الدولة العثمانية: (إن تمرد الوهابيين على الإسلام العثماني کما بیّنت الأحداث قد تجاوز كثيرًا الإطار الدیني واتسم بطابع سیاسي وعسکري، لقد كان ذلك صداما بين نظام الدولة العربي في الجزيرة وبين الإمبراطورية العثمانية، وصارت راية للحركة الوطنية العربية ضد النفوذ العثماني في الجزيرة)([32]).

وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: موقف الشيخ وأتباعه من دعوى الخروج على الإمام:

قال الشيخ رحمه الله: (وأرى أن الجهاد ماض مع كل إمام برًّا كان أو فاجرًا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة… وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه)([33]).

وقال أيضا: (الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدًا حبشيًّا، فبين الله له هذا بيانًا شائعًا كافيا بوجوه من أنواع البيان شرعًا وقدرًا، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدّعي العلم، فكيف العمل به؟!)([34]).

وصرح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله باعتقادهم في هذه المسألة فقال: (ونری وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية)([35]).

المسألة الثانية: نفي الخروج على الدّولة العثمانيّة:

أما قضيّة الخروج على الخلافة العثمانيّة فإن الشيخ محمد بن عبد الوهّاب ينأى بنفسه عن الخروج، كيف لا وهو قد بيّن منهجه في السمع والطّاعة لولي الأمر كما مر آنفًا.

وسبب هذه الشبهة أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهّاب بعد وفاته أخذوا مكّة والمدينة والحجاز من نائب السلطان العثماني الشريف غالب، وصارت ضمن ولايتهم ودولتهم، وجعلوا على مكة الشريف زيدًا.

ويمكن حصر الجواب والرد على هذه الدعوى في النقاط التالية:

أولًا: أن نجدًا موطن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تكن تحت النفوذ والسيطرة العثمانية، يقول الدكتور صالح العبود: (لم تشهد نجد على العموم نفوذًا للدولة العثمانية، فما امتدّ إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها: (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) يعني قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان، ألفها يمين علي أفندي الذي كان أمينًا للدفتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة 1609م، من خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثين إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست منها، ما عدا الأحساء إن اعتبرناه من نجد)([36]).

ويقول أمين سعيد في هذا الشأن: (ولقد حاولنا كثيرًا في خلال دراستنا لتاريخ الدولتين الأموية والعباسية وتاريخ الأيوبيين والماليك في مصر ثم تاريخ العثمانيين الذين جاؤوا بعدهم وورثوهم أن نعثر على اسم وال أو حاكم أرسله هؤلاء أو أولئك أو أحدهم إلى نجد أو إحدى مقاطعاتها الوسطى، أو الشمالية أو الغربية أو الجنوبية، فلم نقع على شيء، مما يدل على مزيد من الإهمال تحمل تبعته هذه الدول.. على أن الذي استنتجناه في النهاية هو أنهم تركوا أمر مقاطعات نجد الوسطى والغربية إلى الأشراف الهاشميين حكّام الحجاز الذين جروا على أن يشرفوا على قبائلها إشرافا جزئيا)([37]).

ويقول المستشرق جاكلين بيرين في ذلك: (ولكن شبه الجزيرة العربية ظلت ممتنعة على الفتح التركي بفضل صحرائها التي هلكت فيها عطشًا الجيوش التي وجهها السلطان سلمان سنة 1550م)([38]).

ثانيًا: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يكن له موقف عدائي ضد الدولة العثمانية، بل كان موقفه موقف الناصح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، دون أن يتعداه إلى الصدام المسلح، بل كان يتجنبه ويتحاشاه، كما هو واضح في موقفه من الأشراف الذين يحكمون الحجاز باسم دولة الخلافة.

يقول النشمي ما ملخصه: (فكانت سياسة الشيخ وموقفه تجاه بلاد الحجاز أنه لم يؤثر عنه طوال حياته تحريض أو استعداء أو دعوة لحربها أو الاستيلاء عليها؛ لشعوره أن ذلك الفعل قد يفسر على أنه خروج على دولة الخلافة. لم تحرك دولة الخلافة ساكنا، ولم تبدر منها أية مبادرة امتعاض، أو خلاف يذكر رغم توالي أربعة من سلاطين آل عثان في حياة الشيخ)([39]).

ثالثًا: أن قرار الحرب الذي اتخذته السلطنة العثمانية ضد الحركة الوهابية بني على أساس خاطئ وفهم مغلوط تكوَّن من خلال الرسائل التي بعث بها أعداء الحركة إلى السلطان، وقد عقد اجتماع في الآستانة لتحديد الموقف الواجب نحو الوهابية، هذا الموقف تذكره وثيقة رقم ۳۷۹۰، وهي عبارة عن تقرير أعدّه رئيس الوزراء عن هذا الاجتماع، خرجوا منه بقرار الحرب على الحركة وإرسال الجيوش للقضاء عليها([40]).

رابعًا: أن الشيخ محمدًا رحمه الله لم يتقصد الخروج على الخلافة، ولا معارضتها، بل كان يرى أن ما يقوم به من الدعوة أمر واجب شرعًا، لا علاقة له برضا الخلافة، وأنه لم يفتئت على الخلافة في ذلك. وأن أمير بلدة العيينة وحاكمها ابن معمر ثم ابن سعود في الدرعية كان يعاونه ويؤيده وهو واليه وأميره المباشر، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أن الإمام يعتقد بأصول أهل السنة والجماعة في وجوب طاعة الإمام بالمعروف، ولا يجوز الخروج عليه برًّا كان أو فاجرًا)([41]).

خامسًا: يقول الإستانبولي: (والغريب المضحك والمبكي معًا أن تتَّهَم حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها من عوامل هدم الخلافة العثمانية، مع العلم أن هذه الحركة قامت حوالي عام ۱۸۱۱م، والخلافة هدمت حوالي ۱۹۲۲م).

فإن الشيخ وأتباعه لم يسقطوا الدولة العثمانية، بل هي التي أسقطت دولتهم، ودولتها لم تسقط إلا بعد سقوط الدرعية بمئة عام تقريبًا، بعد أن تحالفت وحاربت مع الألمان في الحرب العالمية الأولى، وخسارتهم لمصلحة الإنجليز والفرنسيين وحلفائهم، فتقاسم المنتصرون بينهم بلاد الإسلام والعرب خصوصًا([42]).

سادسًا: فرح الإنجليز والفرنسيون بنجاح محمد علي في هزيمته للدولة السعودية وإيقافه لخطر توسعها وتهدیدها لسلطانهم ومصالحهم، وتهنئتهم له وللدولة العثمانية بذلك النصر، مع عداوتهم للدولة العثمانية، ذلك أنهم عرفوا أن مفسدة الدعوة ودولتها عليهم أعظم من مفسدة الدولة العثمانية، فقد رأوا في هذه الدعوة والدولة خطرًا ينذر بعودة المسلمين إلى دينهم وجهادهم، وقد عانى الإنجليز من أنصار الدعوة القواسم الضرر والأذى الكثير بهجماتهم البحرية المتكررة الشجاعة على أسطول المملكة البريطانية وتهديدهم لسلطانها في منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي، ولم يتجرأ الإنجليز على رأس الخيمة -مركز القواسم- إلا بعد سقوط الدولة السعودية، فقصفوها قصفا عظيمًا، وأسقطوا دولة القواسم([43]).

سابعًا: عندما حدثت المواجهة الفعلية بين دولة الدعوة (الدولة السعودية الأولى) وبين أشراف مكة بعد وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تكن هذه المواجهة بقصد الخروج على الخلافة، إنها كانت لصد عدوان أشراف مكة وغيرهم في هجومهم المسلح مرات عديدة على الدولة السعودية ورعاياها والأقاليم التابعة لها.

ولرفع الظلم الذي تعرض له النجديون من منعهم الحج سنين طويلة، وتعرضهم لصنوف العدوان، وما يستتبع ذلك من إزالة مظاهر الشرك والبدع، ونشر التوحيد والعدل والأمن الذي هو هدف شرعي للدعوة، فزحفت جيوش الدعوة إلى الحجاز حتى دخلت مكة سلمًا بلا حرب.

فكان دخول مكة من قبل الأمير سعود بن عبد العزيز سنة (1218هـ) صلحًا بغير قتال، بل بأمان لأهل مكة وبإقرار شريف مكة عبد المعين على إمارة مكة بعدما هرب منها الشريف غالب إلى جدة، وإقرار قاضيها المعيَّن من الدولة العثمانية، فبعد ذلك ساد التوحيد وانتشرت السنة وحل الأمن والعدل… ولما شعرت الدولة التركية بالخطر على سلطانها حدثت المواجهة مع الأتراك وأتباعهم، وصارت الدولة التركية تحارب الدعوة علنًا في سبيل نصرة البدع والمحدثات والمظاهر الشركية، وقصدت القضاء على التوحيد والسنة، وحشدت كل ما تملك لذلك.

وبعد هذا العرض والبيان نخرج بخلاصة وهي أن الشيخ محمد بن عبد الوهّاب كان من أبعد الناس عن منهج الخوارج.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته في الرؤية الاستشراقية (ص: 8).

([2]) Wahhabiya, D. S. Margoliouth, vol, VIII, P. First Encyclopedia of Islam 1086 1913-1963, Edited By M. Th. Houtsma, A. J. Wensinck. H. A. R. Gibb. W. Heffening And E. LevProvencal, E. J. Brill, Leiden, 1987. And Wahhabiya, D. S. Margoliouth. P. 618. Shorter Encyclopedia Of Islam. Edited By H. A. R. Gibb, And J. H. Kramers, E.. J. Brill, Leiden 1961.

([3]) Dictionary of Islam, by Thomas patrick Hughes, P. 659, premier Book House, Anarkali, Lahore, 1964.

)[4]) Religion in the Middle East three religions in concord and conflict, Vol, 2, P. 270, General Editor A. J. Arberry, Cambridge Univ press, 1969.

)[5]) Sir Richard Burton, Personal Narrative of a Pilgrimage to al-Madina and Meccah, New York: Dover Publications, Inc., 1964, 1, p. 318.

([6]) مواد لتاريخ الوهابيين (ص: 58).

([7]) الحركة الوهابية في عيون الرحالة (ص: 52).

([8]) wahhabia.P 661، دراسة المستشرقين للجوانب العقديّة والفكريّة من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 71).

([9]) انظر: لويس شيخو “الحركة الوهّابيّة” المشرق (185، 192، 340)، ماليس روثفن (ص: 76)، دراسة المستشرقين للجوانب العقديّة والفكريّة من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 71).

([10]) إمام التوحيد الشيخ محمد، للقطّان (ص: 94)، موقف المستشرقين من دعوة محمد عبد الوهّاب عرض ونقد، مرسال المحمادي (ص: 147).

)[11]( NOTES, p 226.

([12]) العقيدة والشريعة، جولد تسيهر، ترجمة محمد يوسف موسى وآخرين (ص: 267).

([13]) تاريخ الشعوب الإسلاميّة (ص: 505).

([14]) العقيدة والشريعة (ص: 268)، دراسة المستشرقين للجوانب العقديّة والفكريّة من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 71-72).

([15]) لمع الشهاب (ص: 216)، الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته في الرؤية الاستشراقية (ص: 98-99).

([16]) عنوان المجد (1/ 13، 216)، دراسة المستشرقين للجوانب العقديّة والفكريّة من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 75-76).

([17]) تاريخ البلاد العربية السعوديّة، منير العجلاني (ص: 289).

([18]) مواد لتاريخ الوهابيين (ص: 25).

([19]) THE WAHHABEIS, p278، دراسة المستشرقين للجوانب العقديّة والفكريّة من حركة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 79-80).

([20]) موقف المستشرقين من دعوة محمد عبد الوهّاب عرض ونقد، مرسال المحمادي (ص: 183).

([21]) عبر الأراضي الوهّابيّة على ظهر جمل، باركلي رونكير، ترجمة منصور الخريجي (ص: 177).

([22]) بلاد العرب القاصية (ص: 184-185).

([23]) تاريخ البلاد السعوديّة، لوريمر (ص: 28).

([24]) المرجع السابق (ص: 29).

([25]) حاضر العالم الإسلامي (1/ 264).

([26]) جزيرة العرب، جان جاك (ص: 74)، موقف المستشرقين من دعوة محمد عبد الوهّاب عرض ونقد، مرسال المحمادي (ص: 184-190).

([27]) مجموعة الرسائل والمسائل النجديّة (1/ 12) نقلًا عن كشف الأكاذيب (ص: 87).

([28]) الدرر السنيّة (4/ 8).

([29]) مؤلفات الشيخ (5/ 107).

([30]) مجلّة البحوث الإسلاميّة، العدد: 61، (ص: 371).

([31]) مجلّة الدّعوة، العدد: 1899، (ص: 33).

([32]) تاريخ العربيّة السعوديّة، إليكسي (ص: 110).

([33]) الدرر السنيّة (1/ 32) باختصار.

([34]) مؤلفات الشيخ (1/ 394).

([35]) الهديّة السنيّة (ص: 109)، نقلًا عن دعاوى المناوئين (ص: 234).

([36]) عقيدة محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي، د. صالح بن عبد الله العبود (1/ 27).

([37]) تاريخ الدولة السعوديّة، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز (ص: 23)، نقلا عن دعاوى المناوئين (ص: 236).

([38]) اكتشاف جزيرة العرب: جاكلين بيرين، ترجمة قدري قلعجي (ص: 24).

([39]) مجلّة المجتمع، العدد: 510، بتاريخ 30 صفر 1401هـ.

([40]) إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهّاب (ص: 147).

([41]) إسلاميّة لا وهّابيّة (ص: 299).

([42]) المرجع السابق (ص: 143)، موقف المستشرقين من دعوة محمد عبد الوهّاب عرض ونقد، مرسال المحمادي (ص: 174-181).

([43]) المرجع السابق (ص: 143).

نشر :