محل إشكال عند منتقدي الدعوة النجدية

 إبراهيم الأزرق

إن الحديث عن دعوة الإمام محمد وأتباعها قديم بدأ يوم نشأت الدعوة، وقد سود الشانؤون كتبًا في حرب تلك الدعوة ملئت بالتُّهم والأخبار المَغلوطة، إمَّا لِسوءِ فهم أو فساد قصد.

وهؤلاء تولَّى الرَّدَّ عليهم أقوامٌ قديمًا وحديثًا، وأشبع الكلام معهم في مواطن النزاع بما يكفي.

غير أنَّه بدأ بعض مَن كان يُحسَبُ على تلك الدَّعوة الإصلاحيَّة اليوم التعرُّض لنقْدِها من الدَّاخل، بِحُجَّة أنَّ الدَّعوة النَّجديَّة ليست معصومة، وأنَّ لَها مُخالفات ينبغي أن تُبيَّن وتصحَّح، وأنَّ مُخالفيهم في ذلك لسان حالِهم في الحقيقة يردّد ما قاله الأول: كلُّ ما خالف قول إمامنا فهو منسوخ أو مؤول.

والحقُّ الذي ينبغي أنْ يُقال لهؤلاء - يقوله رجلٌ لَم يكن من أرض نَجدٍ ولا تُخومها-: إن عامة الطلاب المبتدئين ناهيك عن الدعاة والعلماء المُنافحين عن دعوة الشيخ الإمام لا يقولون بالعصمة لأئمَّة الدَّعوة النَّجدية، لا بِلِسان مقالِهم وهذا لا ينسبه إليهم إلاّ من أراد أن يفضح بالكذب نفسَه، ولا بلسان حالِهم عند الإنصاف والتحقيق، بل لا يقولون بقول أتباع المذاهب المعتبرة من لزوم تقليد أئمتهم كما لا يخفى على منصف، بل لا يَخفَى على مُطالع لآراء المشايخ والعلماء في الديار النجدية مُخالفة كبار المنافحين عن الدعوة لبعض أئمة الدعوة في مواطن، وإذا أردت توضيح ذلك فتأمل: أيُّ قول بالعصمة يقال بلسان الحال يمكن أن ينسب إلى معين من الدعاة أو العلماء؟ وانظر هل وافق كل أئمة الدعوة فيما يقولون؟ بل هل وافق أئمة الدعوة بعضهم بعضًا في مسائل النزاع التي يَطعن بها على الدعوة المجددون الجُدُد؟

وإذا كان الأمر كذلك فقد يقول ضعيف الرأي: لِمَ لا يُفتح الباب إذًا لنقد أخطاء بعض أئمة الدعوة إن لم يكن ثَمَّة قولٌ بالعصمة، ولِمَ يَعْتَرِض بعضُهم على إعلان ذلك؟

وجواب هذا السؤال عند مَن يتحفَّظ على ذلك ليس مردُّه إلى قول بِالعصمة، بل هم يبرؤون إلى الله مِمَّا يرميهم به المُخالِفون لهم من قولٍ بالعصمة بأي لسان.

غير أنَّهم ينظرون إلى المسألة نظرين: أحدُهُما واقعي يراعي الساحة التي ملئت بالشانئين الذين لم يستنيروا بأضواء الكتاب والسنة، الناقمين على دعوة الإمام المجدّد، ولا يُعْجِبهم أن يُسخِّر هؤلاء بعضَ الأفاضل أو يستفيدوا منهم في هدْم منهَجِهم الذي عليه نشؤوا بنحو هذه الحجة التي لا مَحجَّة فيها.

أمَّا النَّظر الآخَر فمبنيّ على التفريق بين المخالفة في مسألة علمية جاءت مناسبتها واقتضت مناقشة الأقوال فيها مقتضيات صحيحة، وبين فتح الباب للطعن في علماء البلدان والأقاليم، ولا سيما الأقاليم السنية التي لا يَجمعُ علماءَها تنظيمٌ يقوم على مبادئ لابدَّ من التِزامها من قِبَل أفراد ذلك التنظيم! وهكذا دعوة التوحيد التي انطلقت من الديار النجدية ليست حزبًا قوميًّا قام على تقنين.

وهنا يقع إشكالٌ فالذين ينتقدون دعوة الإمام وأتباعه - في نجد وغيرها - يغيب عنهم أن ما ينتقدونه قد يكون خطأ أو رأيًا اجتهاديًّا لبعض علماء الدعوة لكنَّه ليس دستورًا يلتزمه كل من نسب أو انتسب لتلك الدعوة حتى تحمل جريرته الدعوة أو يطعن بسبب خطئه في الدعوة، فإلصاق ذلك الخطأ أو ما يراه المخالف خطأ بدعوة إصلاحية قامت على مبدأ كُلِّي عام وهو الدعوة إلى الكتاب والسنة، ومبدأ رئيس خاص وهو الدعوة إلى التوحيد وإصلاح العقائد - إلصاق ذلك الخطأ الجزئي الفردي بالدعوة غلط، فكيف تنتقد الدعوة به؟ وفرقٌ بين أن تبين المخالفة لذلك المعين إذا اقتضى ذلك مُقتضٍ صحيح، وبين أن نُلْصِق خطأه أو ما نَحسبه كذلك بدعوة انتسب إليها.

ونظير هذا الغلط أن نتخذ من أغلاط بعض علماء الحجاز أو اليمن سلمًا للطعن في منهج علماء الحجاز أو اليمن، بعد أن نجعل ذلك الخطأ الجزئي أو الفردي في المنهج - جميعَهم هكذا جزافًا!

وإذا جاء مُلَبّس يريد الطَّعن في عُلماء ذلك القُطْر ونقْدِ مَنهجهم بنحو هذا فواجبٌ علينا أن نكفَّه؛ لأن مُحصّلة دعوتِه الدَّعوة لنقد العُلماء وإضعاف مكانتهم عن طريق إلصاقه بِهم منهجًا مُدَّعًى بل هو قول لم يقله إلاّ بعضهم، وقد يكون بعضهم الآخر قد أعلن ردَّه أو مُخالفته.

وبَعْدُ إذا بدا هذا فقل لي: أيُّ خطأ ذلك الذي أجْمع عليه علماء الدعوة النجدية وجعلوه شرطًا في تصنيف المنتسبين إليها؟ أو أيُّ خطأ ذلك الذي أجْمع عليه علماء الحجاز وجعلوه شرطًا في تصنيف المنتسبين إليهم؟

وسلِ السؤال في غيرهم.

فإذا لم تَجِدْ، فإيَّاك أخا الإسلام والتَّهويل الذي ليس عليه تعويل، أمَّا إن دعتك المصلحة الشرعية إلى نقاش خطأ عالم بدءًا من الصحابة الكرام ثُمَّ سادات التَّابعين مرورًا بأئمة المذاهب الأربعة فمن دونهم فذلك لك إن توفَّر لك شرط النقاش، غير أنَّا لا نرضى أبدًا أن تنسب ذلك الذي تراه غلطًا قال به بعضهم إلى سائر علماء الصحابة أو التابعين أو تابعيهم ولو في قُطْرٍ من الأقطار المحدودة.

فلا نُسَوِّغ لكَ أن تفتح الباب لنقْدِ آراء عُلماء التَّابعين في الشام مثلاً، ولا عُلماء الصحابة في المدينة، ولا غيرهم في غيرها، ما لم تَدْعُ حاجة ظاهرة إلى هذا، فإن دَعَتِ الحاجة فلا نُسَوِّغ لك أن تنسب إلى علماء تلك الأقطار قولاً تنقدهم فيه وهم في ذلك القول مختلفون.

بل ليس منهاجًا مرضيًا أن تتتبع عثرات آحاد العلماء وتجمعها من غير حاجة، فإن ذلك قد يصدُّ الجاهلَ عن خير كثير، ويلبّس على المبتدئ، فإِثْمه أعظم من نفعه، وهل يعقل ما يقول من يسوغ وضع كتاب في أخطاء الإمام أحمد أو الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة، أو غيرهم من رموز العلم والإصلاح؟ وقد ذكر أبو داود في رسالته إلى أهل مكة أنَّ من الضَّرر على العامَّة أن يكشف لهم كل ما كان من اضطراب وعلل في الأحاديث ورواتها؛ لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا، قال ابن رجب في شرح علل الترمذي: "وهذا كما قال أبو داود فإن العامة تقصر أفهامهم عن مثل ذلك وربَّما ساء ظنهم بالحديث جملة إذا سمعوا ذلك، وقد تسلَّط كثير مِمَّن يطعن في أهل الحديث عليهم بذكر شيء من هذه العلل، وكان مقصوده بذلك الطعن في أهل الحديث جملة، والتَّشكيك فيه، أو الطَّعن في غير حديث أهل الحجاز، كما فعله حسين الكرابيسي في كتابه الذي سمَّاه بِكتاب المدلّسين، وقد ذُكِرَ كتابُه هذا للإمام أحمد فذمه ذمًّا شديدًا، وكذلك أنكره عليه أبو ثور وغيرُه من العلماء. قال المرّوذي: "مضيتُ إلى الكرابيسي وهو إذ ذاك مستورٌ يذُبُّ عن السُّنَّة ويُظْهِرُ نصرة أبي عبدالله، فقلت له: إنَّ كتاب المدلسين يريدون أن يعرضوه على أبي عبدالله، فأَظهِرْ أنَّك قد ندِمْتَ حتى أخبر أبا عبدالله. فقال لي: إن أبا عبدالله رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحقّ، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه".

وقال: "قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبَيْتُ عليهم وقلت بل أزيد فيه".

ولجَّ في ذلك، وأَبَى أن يَرجع عنه، فجيء بالكتاب إلى أبي عبدالله وهو لا يدري من وضع الكتاب، وكان في الكتاب الطَّعن على الأعمش، والنُّصرة للحسن بن صالح، وكان في الكتاب: "إنْ قُلْتُم إنَّ الحَسَن بْنَ صالح كان يَرَى رأْي الخوارج، فهذا ابْنُ الزبير قد خَرَج".

فلمَّا قرئ على أبي عبدالله قال: "هذا جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به حذروا عن هذا" ونهى عنه.

وقد تسلَّط بِهذا الكتاب طوائف من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم في الطعن على أهل الحديث؛ كابن عباد الصاحب ونحوه.

وكذلك بعض أهل الحديث ينقل منه دسائس إمَّا أنه يخفى عليه أمرها أو لا يخفى عليه، في الطعن في الأعمش ونحوه، كيعقوب الفسوي وغيره، وأمَّا أهل العلم والمعرفة والسنة والجماعة، فإنَّما يذكرون علل الحديث نصيحة للدين وحفظًا لسنة النَّبيّ وصيانةً لها وتَمييزًا مِمَّا يدخُل على رُواتِها من الغلط والسَّهو والوهم، ولا يوجب ذلك عندهم طعنًا في غَيْرِ الأحاديث المُعْلنة، بل تقوى بذلك الأحاديث السليمة عندهم لبراءتها من العلل وسلامتها من الآفات، فهؤلاء هم العارفون بسنة رسول الله حقًّا، وهم النّقَّاد الجهابذة الذين ينتَقِدون انتقاد الصيرفي الحاذق للنقد البهرج من الخالص، وانتقاد الجوهري الحاذق للجوهر مما دلس به.

وأخيرًا ينبغي التنبيه على أنَّ تسويغ الرَّدّ على آحاد أهل العلم والفضل إذا اقتضى ذلك مقتض شرعي فإن من شرطه التزام الأدب في الرَّدّ والتِماس العُذْر واجتِناب الطعن، أمَّا إذا رأيتَ الرَّجُل يَطْعَنُ في بعض أئمَّة الدعوة ويُجاهر ببغضهم بدعوى الرَّدّ على أغلاطهم ويجعل مما يراه خطأ لبعضهم مسوغًا للحط على الدعوة فاتهمه في دينه كما اتهم السلف من تقدمه.

قال نُعَيم بن حماد رحمه الله: "إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد فاتَّهِمْه في دينه، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق فاتَّهِمْهُ، وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير، فاتَّهمه في دينه".

وقال يحيى بن معين: "إذا رأيت إنسانًا يقع في عكرمة، وحماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام".
وكان عبدالرحمن بن مهدي يقول: "الناس يتفاضلون، ولكل إنسان مذهب في شيء، ولم أر أحدًا أعلم بالسنة من حمَّاد بن زيد، فإذا رأيت بصريًّا يُحبّ حماد بن زيد فهو صاحب سنة، وإذا رأيت كوفيًّا يحب زائدة ومالك بن مغول فهو صاحب سنة، وإذا رأيت حجازيًّا يُحب مالك بن أنس فهو صاحب سنة، وإذا رأيت شاميًّا يحب الأوزاعي وأبا إسحاق الفزاري فهو صاحب سنة."؛ قال أبو حاتم سهل بن محمد: "وإذا رأيت الرجل يُحِب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة".

وفي شرح السنة للبربهاري: "وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة، وأنس بن مالك، وأسيد بن حضير، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله، وإذا رأيتَ الرجل يحب أيّوب، وابنَ عون، ويونس بن عبيد، وعبدالله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالكَ بن مغول، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت الرجل يُحب أحمد بن حنبل، والحجاج بن المنهال، وأحمد بن نصر، وذكرهم بخير، وقال قولهم، فاعلم أنه صاحب سنة".

وقال بقية بن الوليد رحمه الله: "إنا لنَمْتَحِن الناس بالأوزاعي فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة".

وقال الأسود بن سالم رحمه الله: "إذا رأيتَ الرجل يغمز ابن المبارك فاتهمْه على الإسلام".

ونصوصهم في نحو هذه المعاني كثيرة جدًّا.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في حق بعض من لم تُدَّعَ له العصمة من أصحابه أعني أبا بكر رضي الله عنه: ((هل أنتم تاركون لي صاحبي.. هل أنتم تاركون لي صاحبي))[8] مع أنَّ صاحبَه كان يقول فيما وقع بينه وبين عمر من المنازعة: "والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم". فهل أنتم تاركون لأهل هذه الديار أئمتها الذين أخرجوها من ظلمات الشرك ودياجير الجاهلية؟

وختامًا أخا الإسلام، إنَّما يَلتمس العذر للأفاضل مَن في فضله كمل، و"إنما الإنسان للوهم كالغرض للسهم، ومَن نَظَرَ في كلام الفضلاء، من المتأخِّرين والقدماء، وما وقع في آثارهم العلميَّة من الخلل والنقص، وما أبداه بعضهم من كلام بعض، مهَّد العُذْرَ لِمَن بعدهم في الخطأ والزلل، وإنَّما يفعل ذلك من في فضله كمل، لا جاهل يُهْمِل في تحصيل الفضائل، ويشري نفسه لنقص الأفاضل"




نشر :