عرض ونقد لكتاب: السلفية وأثرها في تشتيت الأمة
مركز سلف للبحوث والدراسات
مقدمّة:
مكثتُ زمنًا طويلًا أتابع السجالَ الواقعَ بين سعيد فودة وخصومِه، وكنتُ في بعض الأحيان أقرأ الردَّ عليه ولا أقف على كلامِه، فأتعاطفُ معه لعلمي بتجوُّز الناس في هذا الزمان في البحث العقدي ونسبتهم للشخص لازم قوله، وولوعهم بتتبّع الزلات وتصيُّد العثرات إلا من رحم الله تعالى، فلا تزلّ بأحدٍ قدمٌ إلا وَجد خصومَه له بالمرصاد فرحِين بخطئه وكانت بعضُ الردود تُظهِره هزيلًا علميًّا لدرجة أنّي أستغرب ممن هذه حاله أن يتكلَّم في أبواب المعتقَد وهو بهذه الدرجة من الضعف العلمي والهزال الفكريّ.
وكانت كلُّ هذه النقاط تُكسب الرجلَ عندي تَعاطفًا، وتجعلُني أعتبر أنَّ ما يقال عنه ليس على النَّحو الذي يُذكر، بل وراء الأكمةِ ما وراءها، وقد يكونُ الرجل على الأقلِّ مِن صفوة أهل مذهبه، داريًا بما يقول، متضلِّعًا من المنقول والمعقول، وقد أُتيَ من جهة عِلمه لا من جهة جَهله؛ لكن وبعد أن قرَّرتُ القراءةَ لسعيد فودة كان خُلف الظنِّ حظِّي من كل القراءة، فقد ظهر الرجلُ في كتاباته أضعفَ مما يصوِّره به خصومُه.
ونسلط اليوم الضوء على بحثٍ عنون له بـ: “السلفية المعاصرة وأثرها في تشتيت المسلمين”، والبحث تعَنونُ له المواقع بالكتاب، وليس سوى مجرد بحث يتكوَّن من خمس وعشرين صفحة، أخذ الحديثُ عن قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين} [هود: 118] ربعَ البحث، وكان يورد قولَ المفسرين من السَّلف ويُتبعه بقول المعتزلة، ولا أدري هل هذا الإتباع هو للتأكيد أم لتسجيل نقطَة اعتراف بأنَّ الخلافَ معهم معتبرٌ!
وبعد أن أفاض الدكتور في الكلام عن قوله: {إِلَّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ} ومعناها واختلاف السَّلف فيها، ومعنى قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ خلص الكاتب إلى موضوعِه الرئيس، وتناول عدَّةَ قضايا نذكرها إجمالا، مع أن الرابط بين العناوين ضعيفٌ، وهو مجرَّد شهوة الكلام تحت العنوان الذي عنون به البحث، فإذا رأى القارئ تنافرًا بين العناوين فذلك راجعٌ إلى طبيعة الكتاب، وهذه القضايا هي:
أولا: معنى السلف والخلف في كلام العلماء: وقد ناقش تحت هذا العنوان مفهوم السلف والخلف عند الأشاعرة ومفهومه عند من أسماهم بالوهابية وكيف أن مفهوم السلف عند الوهابية يعني فك الارتباط بين الأمة وبين سلفها والذي يؤدي في بعض تجلياته إلى العلمانية.
ثانيا: وبمقدمات ضعيفة ونتائج غريبة عنون الكاتب عنوان فرعيا ليستدل به على بت السلفية للأمة من تراثها وهذا العنوان هو تكفير المتكلمين وافتتحه بصفحة من كتاب تاريخ نجد للغنام ينقل فيها عن ابن عبد الوهاب تكفيره للمتكلمين.
ثالثا: رمي محمد ابن عبد الوهاب للمتوسلين بالشرك وقد نقل صفحة من نفس الكتاب يراها تشهد لما يذهب إليه.
رابعا: اعتبار محمد بن عبد الوهاب أن ما عليه المتأخرون هو الشرك وقد نقل نصا عليه من نفس الكتاب.
خامسا: تكفير ابن عبد الوهاب للناس بالعين كما وقعه له مع الرازي على حد زعم الدكتور.
سادسا: الشيخ رشيد رضا وعلاقته بالدعوة الوهابية والدعوة للاجتهاد والطعن في الأزهر، وقد تحدث المؤلف عن رشيد رضا ونقده، هذا بالإضافة إلى الكلام عن التشبيه والتجسيم الذي يرمي به شيخ الإسلام.
هذه عناوين مهمة في الكتاب ورئيسية ولا شك أن القارئ قد يستشكل علاقة هذه العناوين بفكرة الكتاب الرئيسية والتي يوحي بها العنوان وهل هي كافية في إثبات تهمة بهذا الحجم على مجموعة عريضة من الأمة، هذا مع أن مؤلف الكتاب لا يفتأ يقرر بين الفينة والأخرى أن العلمانية نتاج السلفية وأنهما مقصودتين بكلامه حين يقول المخالفين، والملاحظة العامة على البحث أنه ليس محكما فهو وإن كان نقدا لا يُسَلَّمْ؛ إلا أن بإمكان الدكتور لو أبعد الحماس للنقد والخصومة الثقافية وتأنى لأتى بما هو أحسن منه وأحظى، وإن لم يُسَلَّمْ لكن عقلية مخاطبة الجمهور الموافق، واللعبَ على وتر تتفيه الخصوم وغيرَها من الأساليب غير الشرعية، أعمت الكاتب عن مزالق في كلامه ومقاتل في نقده.
ولي وقفات مع موضوعات الكتاب:
الوقفة الأولى: مفهوم السلف والخلف: لقد وقع الكاتب في غلط علمي وهو حمل المصطلح على معنى مستقر عند فئة معينة والترجيح به وادعاء أنه امتداد لنفس المصطلح، فالسلف في العرف العلمي إذا أطلق يراد به الصحابة أصالة ومن سار على نهجهم بينما حصره الكاتب في بعض معناه وهو المفهوم الزماني ويقابله من جاء بعدهم ويسمى خلفا، وهذه مشاقة لغوية لا طائل من ورائها لكن الكاتب بنى عليها أمرا مهما من وجهة نظره، وهو أن السلف تكلموا في العقائد إجمالا والخلف تكلموا فيها تفصيلا، ومن خلال ذلك نسب التأويل إليهم والتفويض معا بهذا الاعتبار، مع أن المذهبين متناقضين فهذا يرى أن ظاهر اللفظ محال على الله لكنه لا يعرف المعنى اللائق بالله ويتوقف.
والثاني: يرى أن ظاهر اللفظ محال على الله لكنه يصرفه إلى معنى يراه لائقا بالله سبحانه هذا هو حاصل ما عند الخلف.
ولنا أن نتساءل هل من أَوَّلَ من السلف كان دافع تأويله استحالة الظاهر، أم وجود الدليل فقط؟
وهل من سكت ولم يتكلم في مسائل الصفات كان مفوضا بالمعنى الذي يقصده المتكلمون ويرى استحالة الظاهر ويشكل عليه المعنى المراد؟
من قرأ سيرة السلف وتتبع آثارهم يعلم علم يقين أنه لم يوجد عندهم شيء من هذه الأمور، بل هي حادثة بعدهم؛ ولذا جميع من نُقِل عنهم التفويض، وَرَدَ عنهم التفسير أيضا للصفات وإجراؤها على ظاهرها ،كالإمام أحمد والأوزاعي والثوري ومالك وابن المبارك وغيرهم.
والعارفون بمذاهبهم نسبوا ذلك إليهم أعنى إثبات الصفات واعتقاد ظواهر من غير تشبيه على خلاف ما عند المتكلمين قال ابن خزيمة رحمه الله: “فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا وتصدق ذلك قلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين” ومثله لابن منده ومثله للآجري في الشريعة.
يقول الأوزاعي رحمه الله: ” كنا والتابعون متوافرون نقول: “إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات”.
لم يتعرض السلف في كلامهم عن إثبات الصفات ولا نفي التشبيه لاستحالة الظاهر عقلا، ولا وجوب صرفه شرعا ولا أحد يستطيع نقل ذلك عنهم من العارفين بمذاهبهم وفي هذا النقل وتواتره عن كل عارف بمذهبهم رد على فكرة أخرى ادعاها الكاتب وهي أن السلفيين منقطعين عن تراث الأمة، وليس لهم إلا نزاع من العلماء في قرون مختلفة فأين هو من نقل الثقات عن السلف ،كابن عبد البر وابن رجب واللالكائي والبغوي وابن منده وأصحاب السنن، وغيرهم من الأفذاذ من العلماء ممن لا يفي بأسمائهم كتاب، وأما دعوى الكاتب في التفويض فهي مردودة فالعارفون بمذاهب السلف تعرضوا لعبارتهم من غير تفسير فقد علق أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني على قولهم من غير تفسير وبين ـأنها رد للتأويل والتفويض معا فقال: “أي على ظاهره، لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل” وقبله الإمام اللغوي أبو منصور الأزهري حيث بينها في تعليقه على كلام أبي عبيدة القاسم ابن سلام: “نحن نؤمن بها على ما جاءت ولا نفسرها” فقال: “أراد أنها تترك على ظاهرها كما جاءت”.
ويتبين من هذه النقول أن ما ادعاه الكاتب من أن مذهب الخلف رديف مذهب السلف هو عدم تحقيق بل كل ما في الأمر أن المتأخرين من المتكلمين حملوا اصطلاح القرآن والسلف على الاصطلاح الحادث بعدهم، وهو ما وقع فيه الكاتب أيضا، ولم ينتبه له ولم يتعب نفسه في تحقيقه بل اكتفى بالتكاثر بالعلماء ومن تكاثر بهم هم الذين يصدق عليهم ما ذكر من الإجمال في المعتقد فغالب متأخري المحدثين وأصحاب الشروح الحديثية لا يتكلمون في مسائل المعتقد إلا إجمالا فيقع عندهم ما يوهم موافقة المتكلمين، وذلك إما بنقل كلامهم وإقراره أو السكوت عليه وعدم التفتيش في المصطلح هذا مع أن أكثرهم لم يكن موافقا للمتكلمين في أصولهم ولا مسلما لهم في كل ما يقولون وخصوصا الأشاعرة، وقد رد القرطبي من المالكية على المتكلمين في عدة مواضع من تفسيره وقرر أن مذهب السلف خلاف ما يقررون وكذلك ابن حجر في كتاب التوحيد من صحيح البخاري فقد تعقبهم في تفسير العين وفي تأويل الإصبع واليد وغيرها من الصفات التي لا يقبلون فيها النزاع.
وباب الصفات مبني على النقل المحض من الكتاب والسنة وآثار السلف فالحظي بالحق هو من كان له حظ من إرث النبوة واطلاع على الآثار وكل من تتبع كتب آثار السلف وجد أنها على خلاف ما يقرره المتكلمون في أبواب الاعتقاد فمن أراد نسبة قول للسلف فلابد له من واحد من هذه الأمور استقراء مذاهبهم وتبين أن أقوالهم متفقة في المذهب الذي يدعي أنه مذهبهم، أو النقل عن عارف بمذاهبهم ونسبته ذلك إليهم، أو أن هذا القول جار على أًصولهم في الاستدلال والاستنباط، وهذا ما لا وجود له في مذهبي التفويض والتأويل فمن نقل عنهم التفويض وحمله على ما عند المتكلمين لم يفهم التفويض عندهم بدليل أن من نقل عنهم التفويض نقل عنهم التفسير وهو متناقض، وهذا التفسير هو وفق الظاهر، فلم يبق إلا أن تفويض السلف غير تفويض الخلف وكذا من نقل عنهم التأويل فإن التأويل عندهم راجع إلى الدليل والدليل إما قرينة لفظية أو معنوية أو عقلية وإن كانت عقلية فلا بد أن تكون بدهية معلومة للمخاطب ابتداء لا قرينة معقدة حادثة ولم يدعوا فيه أنه مطرد في باب الصفات لأنها توهم المحال كما يقول المتكلمون.
الوقفة الثانية تكفير محمد ابن عبد الوهاب للمتكلمين: وقد نقل كما أسلفنا كلاما لمحمد ابن عبد الوهاب من تاريخ ابن غنام نقل فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب عن السلف تكفير المتكلمين.
وما نقله عن محمد ابن عبد الوهاب من الناحية الموضوعية ترد عليه إشكالات لكي يقبل:
أولا: محمد بن عبد الوهاب نسب الكلام للسلف والموضوعية تقتضي التحقق من نسبة الكلام للسلف، وإذا ثبت الكلام عنهم فالقضية لها منحا آخر، وهي أكبر من محمد بن عبد الوهاب وسابقة له وتخصيصه بها ظلم.
ثانيا: من هم المتكلمون الذين كفرهم السلف، فالمتكلمون ليسوا على درجة واحدة، وهذا معلوم لكل أحد فمنهم من يعد تكفيره غلوا، ومنهم من يعد تكفيره سائغا فلماذا الاختفاء تحت اسم يشمل طوائف يكفر بعضها بعضا.
ثالثا: إذا كان كلام الإمام محمد ابن عبد الوهاب مطلقا فهل يوجد ما يقيده، وهذا ملمح منهجي؛ لأنه لا يمكن الحكم على أي كلام إلا بمقارنته بالمنهج العام لصاحبه.
رابعا: ما ذا لو حاكمنا الكاتب إلى منهجيته، هل سوف يسعد بها أم يعتبر نفسه مظلوما؟
والكلام على هذه الإشكالات في نقاط:
النقطة الأولى: وسوف نسعف القارئ بكلام محمد بن عبد الوهاب من أصله ونعلق عليه منهجيا لتتبين الاعتراضات التي اعترضنا بها على الناقل عنه: “هذا وأهل الكلام وأتباعهم من أحذق الناس وأفطنهم، حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم ما يحير اللبيب، وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف، حتى إن أئمة المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر والنهي، مثل قولهم: المراد بالصيام: كتمان أسرارنا، والمراد بالحج: زيارة مشايخنا، والمراد بجبريل: العقل الفعال، وغير ذلك من إفكهم، رد عليهم الجواب: بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام، فقال لهم الفلاسفة: أنتم جحدتم علو الله على خلقه واستواءه على عرشه، مع أنه مذكور في الكتب على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفاً وتأويلكم صحيحاً؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد، والمراد: أن مذهبهم مع كونه فاسداً في نفسه، مخالفا للعقول، وهو أيضاً مخالف لدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم؛ ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف، ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها.
وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة، وذلك أن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين، وإبطال كلام المتكلمين وتفكيرهم هذا من متأخري الشافعية: البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، ومن بعدهم كالحافظ الذهبي، وأما متقدموهم كابن سريج والدارقطني وغيرهما فكلهم على هذا الأمر. ففتش في كتب هؤلاء، فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلاً واحداً لم ينكر على المتكلمين، ولم يكفّرهم، فلا تقبل مني شيئاً أبداً. ومع هذا كله وظهوره غاية الظهور، راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون؛ والله المستعان”.
فهذا هو حاصل ما نقل محمد بن عبد الوهاب وقد عزاه للسلف أي تكفير المتكلمين وذم طريقتهم فكان على الكاتب أن يعلق ويبين أن ذلك لم يرد أو أن النقل مجمل.
ومعلوم أن السلف تكلموا في علم الكلام وذموه وهذا لا يحتاج إلى إثبات وقد كفروا بعض المتكلمين وأغلظوا عليهم القول ولكن هذا التكفير كان منصبا على العموم وليس على الأفراد وممن نقل عنهم من السلف تكفير الجهمية سلام ابن أبي مطيع وحماد ابن زيد ويزيد ابن هارون وابن المبارك ووكيع وحماد بن أبي سليمان وأبوا توبة الربيع بن نافع ومالك بن أنس.
ومعلوم أنه حين ينسب القول إلى السلف عن أهل الكلام، فالكلام منصب على الفرق التي نشأت في عهدهم وعايشوها وقد بوب الإمام أبو عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية لتكفيرهم.
وقد قال الإمام البخاري: “ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي الشيعي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني! فلا يسلم عليهم، ولا يعادون إذا مرضوا، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم”.
فهل هؤلاء الأئمة غلاة مفرقون للأمة أم ماذا؟
النقطة الثانية: وقد ورد في ثنايا كلام الإمام النقل عن بعض العلماء أنهم ذموا علم الكلام وهم البيهقي، والبغوي، وإسماعيل التيمي، والحافظ الذهبي، وابن سريج والدار قطني. فهلا تحقق صاحبنا من كلما هؤلاء وفي نقله عن البيهقي والدار قطني اللذين ينسبها سعيد فودة للأشاعرة دليل على أنه لا يكفر الأشاعرة فليت شعري كيف غفل الحاذق عن هذه المسألة!
ثم سياق الكلام يدل على أن الحديث عن نوع خاص من المتكلمين وهم منكرو العلو والباطنية كما هو واضح وهذا ما تحسس منه الباحث ومعلوم أن علو الله مجمع عليه عند السلف وقال به عامة الصفاتية، كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري والمتقدمون من أصحابه.
وهو قول الكرامية ومتقدمي الشيعة الإمامية. فليس قولا مرجوحا ولا ضعيفا حتى يكون التأثيم بقائل خلافه مما يثرب عليه وتكفير منكره منقول عن السلف لكن هذا النقل لا يرمى به شخص مالم تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع.
فالمخالف فيما يشهد صريح النقل وصحيح العقل به والفطرة لا شك أنه يستحق التأثيم ولذا ثرب السلف على من أنكر صفة العلو وقد سئل أبو حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال: من لم يقر أن الله على العرش قد كفر لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سموات، فقلت: إنه يقول {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، ولكن لا يدري العرش في السماء أم في الأرض. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر”. وكان بعض أئمة السلف يدعو على الجهمية لإنكارهم علو الله على عرشه، فعن عبد الله بن المبارك أن رجلاً قال له: يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله
من كثرة ما أدعو على الجهمية قال: “لا تخف، فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء”.
فنقل التكفير في هذه المسألة والتغليظ هو منهج مسلوك عند السلف وبهذا يرتفع اللوم عن ابن عبد الوهاب في القول والنقل معا.
النقطة الثالثة: هل كلام ابن عبد الوهاب مطلق: من الناحية الموضوعية يظهر من سياق كلام الامام محمد عبد الوهاب رحمه الله أنه ذكره في معرض المحاجة والمحاجة ينقل فيها الكلام تنزلا لا تبنيا ولو افترضنا أنه أراد من خلاله الحكم على القوم؛ فإن ذلك لا يعفي من التأكد من مدى مطابقته لمنهجه العام، وهو التحرز في التكفير واعتبار الضوابط الشرعية فإذا ابتعدنا عن الخصومة الثقافية والشنآن فإن المعروف من منهج الامام محمد بن عبد الوهاب هو تحرزه في تكفير أعيان الناس، وهو في ذلك تبع للسلف، وللذين تأثر بهم من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو يقول عن نفسه: “وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم”، ويقول أيضا: “وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
النقطة الرابعة: محاكمة الكاتب إلى منهجه الكاتب يرى أن السلفية والوهابية هي رديفة للعلمانية ويحكم عليها بالهلاك والنار هذا منطوق كلامه كما أنه يراهم مجسمة ومشبهة وهذا حكم عليه بلازم قولهم عند سعيد فودة مع تصريحهم جميعا بخلاف ما ينسب إليهم، فقد صرحوا بنفي الجسم كما صرحوا بنفي التشبيه فهل يعد سعيد فودة مفرقا للأمة بهذا الطرح أم لا؟
أم أن باءه تجر وباء غيره لا تجر.
وما هو القول فيمن ينسب عامة أهل الحديث إلى التجسيم والتشبيه هل يعد مفرقا للأمة أم لا؟
فإن كان هذا تفريقا وتضليلا فلصاحبنا حظ الأنثيين منه وهو القائل: “إن الواقع تاريخياً يدلل على أن بعض علماء الحديث كانوا من المجسمة أو من المتأثرين بمنهجهم بشكل عام بل يمكننا الادعاء بسهولة أن كثيرا من الذين تمسكوا بهذا المصطلح كانوا من المنتمين إلى عقائد المجسمة أو من المتأثرين بهم خاصة في القرن الثالث الهجري والرابع وخاصة من الذين انتسبوا إلى مذهب الإمام أحمد”.
وحين نتساءل لما ذا يخرج الكاتب السلفية من أهل السنة قد يفاجئنا الجواب منه فهو لا يرقى إلى مستوى القرينة فقد صرح في مقابلة له يجيب فيها على سؤال لما ذا أخرجتم السلفية المعاصرة من أهل السنة فأجاب بالجواب التالي: ” السلفية التي نتحدث عنها هي سلفية ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وقد تابعهما السلفيون الحاليون عليها، ومن أبرز وأهم القضايا التي أخطأ فيها ابن تيمية وخالف بها عقائد السلف، وبها نخرجه من أهل السنة والجماعة، إثباته الحد لله تعالى، بمعنى أن الله له طول وارتفاع وعرض، بما يلزم منه أن يكون الله جسما، فالله عنده له مقدار، ويشغل حيزا، وله في ذاته حجم، وأن الله محدود من كل الجهات الست.
كما أن ابن تيمية يعتقد أن الله يتحرك، وتقوم في ذاته الصفات الحادثة، وأن الله يوجدها في ذاته، وأن الله يتصرف في نفسه، ويحدث لنفسه صفات لم تكن موجودة من قبل، ويقول بأن الله لا يكون خالقا إلا إذا خلق بالفعل، وهنا نشأت مسألة القدم النوعي للعالم، لأن قوله ذلك يقتضي أن يكون مع الله خالقا في كل وقت منذ كان، ونحن نقول إن الله خالق وإن لم يخلق، ولا يلزم أن يخلق بالفعل حتى يوصف بالخالقية، فهو خالق قبل الخلق سبحانه لأنه سبحانه قادر على الخلق، وهذا ما قررته العقيدة الطحاوية بكل وضوح”.
وهذه مسائل لا وجود لها في كتب القوم بل تصريحهم بخلافها وهي من عنديات الشيخ، فهل يمكن إضافة صفة الكذب مع التفريق للكاتب وهذا من باب الإلزام!!
الوقفة الثانية: رميه للإمام محمد بن عبد الوهاب أنه يرى المتوسلين مشركين: وقد نقل الكلام من تاريخ ابن غنام بقوله ومحل الشاهد منه ما نص عليه بقوله: ” ويقال له أيضا: قولك الشرك عبادة الأصنام هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك، فهذا يرده ما ذكره الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدا من الصالحين فهو الشرك المذكور في القران، وهذا هو المطلوب”.
وأصل الكلام في كشف الشبهات وقد عزوته له في الأصل، وهذا المعنى الذي تكلم عنه محمد بن عبد الوهاب مطروق عند أهل العلم من المفسرين فقد قال ابن عطية في قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون} [يونس: 31].
قال: “فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ لا مندوحة لهم عن ذلك، ولا تمكنهم المباهتة بسواه، فإذا أقروا بذلك فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة”([29]).
قال قتادة: “إنك لست تلقى أحدا منهم إلا أنبأك أن الله ربه، وهو الذي خلقه، ورزقه، وهو مشرك في عبادته”.
وقال ابن زيد: “ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله، ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 76] قد عرف أنهم يعبدون رب العالمين مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي، تقول: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك؟ المشركون كانوا يقولون هذا “.
فكلام محمد ابن عبد الوهاب وتقريره مطابق لما عليه أهل العلم قبله، وليس مخالفا لهم بقي أن يقال يفهم من كلامه تكفير أعيان الفاعلين لهذا الفعل هنا نترك الإمام يجيب عن نفسه وفي كلامه الذي سوف ننقل رد على نقطتين مهمتين وردتا في البحث:
أولاهما: أن الأمة فسدت عقيدتها منذ قرون.
والثانية: تكفير المتوسلين كما صرح به صاحب البحث.
يقول محمد بن عبد الوهاب متحدِّثا عن نفسه ومجيبًا لأباطيل سليمان بن سحيم: “فمنها: قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد، وإني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفّر من توسل بالصالحين، وإني أكفّر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفّر من حلف بغير الله، وإني أكفّر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور”.
وهذا التصريح مبطل لدعوى المدعى على الشيخ خلافه وهو في محل النزاع وفي مقام الجواب عن النفس، فلماذا يغفل الكاتب هذا النص الذي هو جواب ويعمد إلى نص تعليمي كتب للتعليم وهو مجمل غاية الإجمال وعليه قيود من الشراح ومن كلام صاحبه نفسه، فهل هذا مسلك علمي في تقويم أي منهج أو مذهب!
الوقفة الثالثة: مع ما نقله من الكلام على الرازي ورميه لشيخ الإسلام ابن تيمية بالتجسيم والتشبيه أولا الكلام الإمام عن الرازي كان على فرض ثبوت نسبة كتب السحر إليه، وهي إن ثبتت فالكلام لا يختلف عليه عالمان، وإن لم تثبت فالقضية متعلقة بذلك تعلق العلة بمعلولها ثبوتا وعدما، ونسبة السحر أليه نسبها له الثقات من المؤرخين والمحدثين قال الذهبي رحمه الله في ترجمته له: “العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني، الأصولي، المفسر، كبير الأذكياء والحكماء والمصنفين، ولد سنة أربع وأربعين وخمس مائة، واشتغل على أبيه الإمام ضياء الدين خطيب الري، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا، وكان يتوقد ذكاء، وقد سقت ترجمته على الوجه في “تاريخ الإسلام”. وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر”.
وانتقاد العلماء له مشهور معروف ولكن تبقى سريرته وما مات عليه إلى الله سبحانه وتعالى والحظي بالخير من نجاه الله من عرضه وأعراض خصومه ممن انتقدوه نصرة للشرع.
وأما نسبة شيخ الإسلام للتجسيم والتشبيه فهي عجيبة من المؤلف وهو الذي يدعي البحث وكأنه لا يرى لإعلان القول أي تأثير في الحكم مع أنه لو فرض أن الكاتب كان قاضيا ويقارن بين البينات وشهد عنده الشهود بأن لازم مذهب شيخ الإسلام التجسيم والتشبيه وأنكر شيخ الإسلام قصده هذا اللازم لم يكن له بد من إعذاره قضائيا، وهذه مسألة يعرفها صغار الطلبة من متفقهة المذاهب، فكيف وما نطق به الرجل نطق به ظاهر الكتاب والسنة وعليه إجماع السلف وقد صرح بنفي التشبيه والتجسيم أيضا كذلك، وخلاصة مذهبه فيه أنه فرق بين الجسم عند المتكلمين الذي هو القائم بنفسه والمشار إليه وكل مشار إليه فهو جسم وبين الجسم عند أهل اللغة الذي هو مرادف للبدن والجسم مرادف للجسد، والجسد والجثمان والشخص بمعنى واحد. فالجسم في لغة العرب يقال للبدن ولماله شخص، وبين أن الهواء المنبعث من الانسان لا يقال له جسم، وبين من هذه الحيثية نفي الجسمية عن الله لأنه لا يوصف بصفات المخلوقين، ولا بما يختص بهم كالبدن والجسم فلا يقال هو جسم ولا جسد.
ثم ناقش المتكلمين في أن إثبات الصفات لا يلزم منه التجسيم وبين منطلقاته الشرعية في إثبات الصفات وهي:
أولا: أن هذا الباب من أعظم أبواب الدين وتتشوق النفوس إلى معرفته، ومن المحال شرعا وعقلا، أن يكون النبي وصحابته ليسوا على معرفة بالحق في هذا الباب خصوصا أن معرفته أصل الدين وأساس الهداية وعليه فالقول يخالف قولهم فيه إلا وهو باطل.
ثانيا: أن هذه النصوص التي تثبت الصفات هي على ظاهرها اللائق بالله عز وجل لاتوهم تشبيها ولا تجسيما.
ثالثا: أن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفون عن الله من صفاته وأفعاله، ولم يتطرقوا لما يريده المتكلمون لا لفظا ولا معنى.
وقد كتبت ورقة علمية حول الموضوع.
وباقي نقاط المؤلف هي استكثار ليست لها أي قيمة علمية، وهي لتجييش العامة والدهماء والعناوين الصحفية أقرب منها إلى البحث العقدي المحكم، ولا يخفى على القارئ أن جميع النقاط التي ذكرت في المقال وتم الرد عليها لا تستحق هذا العنوان الكبير وهو تشتيت الأمة الإسلامية، وهي أيضا ليست خاصة بطائفة عن طائفة فهي أقرب لما يعرف اليوم بتبادل إطلاق النار فجل الطوائف تكفر وبعضها قد يزيد فيستحل الكذب على المخالفين وينسى خطره الشرعي كما وقع لصاحبنا.
وقبل ختام هذه الورقة أقول للكاتب وأمثاله من باب النصح لكل ذي قربى ومسلم إنكم اليوم فرحون متحمسون لنقد جماعة يشتهي العالم نقدها والسياسة الدولية لصالحكم؛ لكن تذكروا وأنتم تمارسون هواية النقد المزيف جوابكم عن قول الله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 112].
وهذا حاصل في نقد الطوائف ونسبة الكلام إليها كما هو حاصل في أعراض عامة الناس وتعليقي على بحث المؤلف أنه بحث ضعيف قليل المعلومات عري من التحليل العميق والاستدلال الصحيح، وعنوانه كبير وحجمه قليل، والفائدة فيه نادرة للأسف وقد كنت من باب تمنى الخير للمسلمين أتمنى أن يكون نقده بناء يستفيد منه الصديق والمخالف وما ذلك عليه بعسير إن هو ألقى الحمولة التي حملها على ظهره من الشحناء مع الأحياء والأموات وتجرد لله عز وجل، وحرص على جمع الكلمة والدعوة بالتي هي أحسن وطلب الحق في مظانه للوصول إلى مرضاة الله عز وجل وتبيين الحق؛ لأنه حق، لا لأن في تبيينه إسقاطا لقوم أو تعلية من شأن آخرين، فقد اقتضت سنة الله التي لا تبدل أن العاقبة لا تكون إلا لمن أراد وجه الله بأعماله قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [القصص: 83]
نشر :