الدعوة النجدية وتهمة البداوة (2) "البداوة وبساطة المضمون الفكري للدعوة النجدية"
عبد الصمد الحديثي
يتوزَّع نقدُ الدعوة النجدية اعتمادًا على بيئتها على عدَّة مستويات، فيبدأ بالتقليل من شأن الأفكار التي جاءت بها، واتهامها بالسذاجة والبساطة الملائمة للعقلية البدوية الخالية من المعارف والعلوم والبعيدة عن مواطن الحضارة، ثم يتَجه إلى أمر آخر وهو البيئة الملائمة لقبول الدعوة، وينتهى إلى أنَّ المضمونَ الفكريَّ المتواضِع لها يصلح للانتشار في البيئة الصحراويَّة دون الحضرية، فهو قاصِر عن إدراك تطلُّعات الأقوام المتمدِّنة، عاجزٌ عن الإجابة عن تساؤلاتهم أو معالجة التحدِّيات التي تواجههم، ثم ينتهي إلى العقلية البدوية النجدية وكيفية تناولها لمسائل الدين، والتي هي بطبيعة الحال طريقةٌ متشدِّدة في الفهم، وفقهٌ بدويّ بعيدٌ عن سماحة الشرع ومقاصده. وسنقف عند هذه المستويات بالنقد المفصَّل، وسنبدأ بقضيَّة التقليل من أهمية الأفكار الإصلاحية واتهامها بالبساطة والضحالة.
مسلك التقليل من أهمية الأفكار الإصلاحية ووصمها بالضحالة:
تشكَّلت عند بعض المعاصرين نظرة دونيةٌ لمبادئ الدعوة النجدية، فاعتبروها في غاية البساطة والبعد عن العقلانية، فهي ملائمة لتفكير البدوِ وتصوُّراتهم الدينية الساذجة المحدودة، (فالبيئة النجديَّة كانت ملائمة للإسلام السلفيّ البسيط، فظواهر النصوص تكفي للإجابة على علامات استفهام إنسانها البسيط، كما تكفي لتصحيح معتقداته وتصوّراتِه وإعادة عباداته إلى إطار الإسلام الصحيح والبسيط، دونما الحاجة إلى العقلانية الكلامية أو الفلسفية وما أثمرت من قياس ورأي وتأويل).
لقد ظلَّت البيئة النجديَّة (بمعزل عن التأثيرات الحضرية والحضارية إلى حدٍّ كبير، والتي استمرَّت كامتداد لبساطة الحياة العربية البدوية القديمة، فلم تهضم أو تعرف العلوم والفنون التي أثمرتها احتكاكات العرب الأوائل بالأمم التي فتحوا بلادَها، وصراعات الإسلام السلفيّ والبسيط مع الأبنية الفكرية والديانات التي تحدّته وتحدَّاها بعد إنجاز الفتوحات).
وهكذا فقد كان ظهور الدعوة الإصلاحية (في بيئة عربية لم تعرف الفكر المركَّب لخلِّوها من الحضارة والأنماط الفكرية المركبة، فكانت صورة إسلامها هي صورة الإسلام العربي الأول في عصر صدر الإسلام).
وهكذا فقد ظهرت الوهابية في البادية ناشئةً من عقول غير متحضِّرة، بعيدة عن العقلانية والمدنية؛ ولذا جاءت ساذَجة بسيطة في مضمونها، تجيب عن تساؤلات البدو، وتستجيب لحاجاتهم المحدودة.
والجواب عن هذا الكلام الإنشائي من عدة وجوه:
أولًا: لم تقدِّم الدَّعوة النجدية أفكارًا أو نظريات جديدة حتى يمكن تقييمها سلبًا أو إيجابًا في ضوء البيئة الاجتماعية والمستوى العلميّ والحضاري السائد فيها، بل اقتفَت أثر الأنبياء والرسل في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك، فكلُّ ذمٍّ أو نقدٍ أو تقييم سلبيّ لأفكارها ومبادئها فإنه متوجِّه بالضرورة لدعوات المرسلين؛ إذ إنَّ الدعوة النجدية لم تزد على ما جاءوا به.
والتصريح بهذه النتيجة قد يُحرج المنتسبين للإسلام، أما غيرهم فلا يجد صعوبةً في الجرأة على مثل هذا الرأي، يقول الباحث في علم الاجتماع الديني (Joseph Chelhod): (إنَّ القرآنَ لا يدَّعي أبدًا أنه يحمل دينًا جديدًا، إنما يدعو فقط إلى الحنيفية الإبراهيمية، العودة إلى الصفاء الديني القديم الذي لطَّخته الوثنية.
إنَّ موضوعة التطهير هذه المستعادة في الوهابية جعلت كيونين (Kuenen) يقول: إن دينًا يمكن ترميمُه بالعودة إلى معرفة صحيحةٍ لأصوله السليمة يمكنهُ تلبيةُ حاجات سكان الصحراء التي شهدت ولادته، إنه دين عاجز عن تلبية حاجات مختلفة أكثر ارتفاعا.
فما قامت به الدعوة هو تجريد للدين مما علق به وأضيف إليه عبر الأزمنة، سواء على المستوى العلمي الاعتقادي أو على المستوى العملي السلوكي، أي: أنها حاولت استعادة الإسلام الأول قبل أن تغزوه عقائد المتكلِّمين وهرطقات المتصوِّفة.
ثانيًا: جوهر الدعوة النجدية وقضيتُها الأولى الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، وهذا هو أعظم الحقائق وأهمُّ المطالب في الحياة الإنسانية، وهو الغاية النهائية من الوجود البشري.
والقرآن الكريم يؤكِّد أن الوجود كله خاضع لله مستسلم له بالقنوت والطاعة والعبادة، إلا فئة من البشر شذَّت عن هذا السبيل، واستحسَنت الشركَ والكفر. فالدعوة للتوحيد والتحذير من نقيضه أعظمُ المهمَّات التي تحفظ الاتِّزان للوجود وإصلاح الخلل الطارئ عليه المفسِد لبقائه على الحال الطبيعيّ الذي خلق عليه.
ولأجل هذا المقصد العظيم بُعثت الرُسل وأُنزلت الكتب بالشرائع والوصايا الإلهية؛ لهداية البشر وردهم إلى جادة الصواب؛ لينالوا بذلك السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، فصلاح المعاش والمعاد مرتبط بصلاح المعتقد وسلامته من الشرك.
وقضيةٌ بهذا القدر من الأهمية لا يمكن أن يتقدَّمها شيء من الأفكار والفلسفات البشرية، بل لا وجه للمقارنة بين منتجات العقل الإنساني مهما قاربت الصواب وحققت النفع، وبين حقائق الوحي الإلهي، وأعظمها: وحدانية الله وحقُّه على عباده بالعبادة والطاعة.
وإنما يحصل التقليل من أهمية مبادئ الدعوة النجدية من الاستهانة بهذا الأصل العظيم ومكانته في حياة البشرية، في مقابل الانبهار والتعظيم لعلوم اليونان والفرس والهند وما وصل إلينا من حكمتهم وفلسفتهم، وقد نبّه ابن تيمية إلى أنَّ هذا الانبهار ناشئ من قلة المعرفة بعلوم الوحي وضعف العمل بها، ثم الادعاء بوجود حاجة إلى حكمة فارس والروم والهند واليونان وغيرهم من الأمم.
ثالثًا: وضع المدنية إلى جانب العقلانية الكلامية الفلسفية في مقابل إلصاق البداوة بالسلفية يوحي بأنَّ التمدُّن هو ثمرة التفلسف والخوض في العقليات، أو أنها من مظاهر التمدن، وهذا من الوهم، فلم يكن لهذه العلوم أثر ظاهر أو خفي في صناعة التمدن الإسلامي، وكل الذين كتبوا عن مدنية الإسلام وحضارته لا يشيرون من قريب أو بعيد لأثر إيجابي لعلم الكلام أو الفلسفة في الإنجازات العلمية التي حققها المسلمون في مجالات الطب والكيمياء والعلوم الطبيعية.
لقد كان الجهد الأكبر للفلاسفة والمتكلمين موجهًا للخوض في مباحث الإلهيات والغيبيات، ولم يكن اهتمامًا بالقضايا النافعة للبشرية، ولم يُنتج الخوض في هذه المباحث إلا الشقاق والخلاف بين الطوائف الإسلامية، ودفع الأمة بعيدًا عن إسلامها الأول بصورته النقية.
رابعًا: ظهر الإسلام في بيئة بدائية خالية من معالم الحضارة، بعيدة كلَّ البعد عن التأثر بثقافات المجاورة، فلم يهضم معارف الأمم الأخرى وعلومها، ولم يتفاعل مع الأفكار والفلسفات القريبة منه، بل اقتحم تلك البيئات الحضارية بعقائده وشرائعه وثقافته ولغته العربية، وتمكَّن من الهيمنة والتفوُّق عليها.
خامسًا: الموقف السلفي من تعظيم النصوص لا يدل على البساطة الملائمة لتفكير عرب البادية، بل هو ناشئ من تعظيم الوحي الإلهي ومجانبة الأهواء في فهم الشريعة واستنباط أحكامها، ومعلوم أن الإمام أحمد من أشدِّ المتمسكين بالآثار والنصوص النبوية، وهو الذي تلقى العلم في بغداد مركز الحضارة والمدنية الإسلامية آنذاك، فلا ترابط بين الفكرة السلفية والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها.
سادسًا: القول بأن الفكر السلفيَّ كان ملائمًا للعقلية البدوية مجرد ادعاء يمكن دفعه بأن الالتزام الديني للبدو كان في أقل مستوياته وقت ظهور الدعوة، حتى شاع في بعض الأوساط البدوية إنكار عقيدة البعث والنشور وترك الفرائض الدينية وإهمالها والاستهزاء بمن يؤديها.
فليس من السهل على هؤلاء الانتقالُ لأقصى درجات الالتزام المتمثل بالسلفية والذي ينعكس أثره في طبيعة حياته السابقة القائمة من التفلّت من كل أنواع القيود الدينية والقانونية الغائبة أصلا من تلك البلاد، بعبارة أخرى: لم يكن من السهل على البدو الانتقال من أقصى درجات الانفلات والتحلل الديني إلى أقصى درجات الانضباط والالتزام.
ولعل هذه الملاحظة أشار إليها تقرير صادر عن دائرة الأركان العامة لوزارة الحرب البريطانية عام 1907م أن آل رشيد (حُكام جبل شمّر) (أخذوا بالعقيدة الوهابية؛ ليس لملاءَمتها لهم سواء من جهة منهجها الديني والتحرر من الشعائر الشديدة المشربة بالخرافات، ولكنهم قبلوها لعدائها للنظام المكي أو التركي أكثر منه لعقيدتها السلفية التي هي ليست طبيعية للعرق البدوي الخالص.
على هامش فرضية تأثُّر الأفكار الإصلاحية بالبداوة:
لم يرتكز اتهام الدعوة بسذاجة الأفكار وبداوتها على أساس علميٍّ ودراسة لمبادئها واقتراب من واقعها الاجتماعي، بل كان من بنات أفكار أصحابها؛ ولذلك نجدهم في بعض الأحيان يشتطّون في مزاعمَ لا أصل، وربما كان للاتجاه الفكريِّ والمذهبي دورٌ في رسم هذه التصوُّرات الخاطئة القائمة على إيجاد علاقة بين البداوة المزعومة والأفكار الدينية السلفية، وسنقف مع بعض هذه التصورات بشيء من النقد:
البداوة: القاسم المشترك بين نجد وحرّان:
زعم أحدهم أن أهمَّ ما يجمع بين منطقة (حرّان) مسقط رأس ابن تيمية وإقليم (نَجْد) موطن محمد بن عبد الوهاب ومنطلق دعوته الطبيعةُ البدوية؛ حيث الجفاف والبعد عن المدنية وقساوة الطبيعة وشظف العيش، وقد انعكس ذلك في سلوك الحركة السلفية المتميِّز بالخشونة وضعف المستوى العلمي والبدائية.
ويتبدِّد هذا الهراءُ بمعرفتنا أنَّ ابن تيمية ترك حران وهو طفل صغيرٌ، وغادرها مع أسرته إلى دمشق حيث نشأ وأخذ العلم وبرَّز فيه، كما أن منطقة حران لم تكن يومًا باديةً أو صحراء مهجورةً من البشر، بل لم تزل هذه المنطقة تتبوَّأ مكانة سياسيّة واقتصادية وثقافية مهمة قبل الإسلام وبعدَه، وخرج منها أعلام كبار في علوم الفلك والرياضيات والهندسة، منهم: ثابت بن قرة الحراني، وابنه سنان بن ثابت، وحفيده ثابت بن سنان، وابن أخته محمد بن جابر بن سنان البتاني أشهر الفلكيين في التاريخ الإسلامي، وغيرهم من أعلام الفقه والحديث ورجال الدولة.
إمام الدعوة يُنكر القياس الصحيح:
كالقول بأن محمد بن عبد الوهاب (هاجم القياس حتى لو كان صحيحًا، وأعرض عن التأويل في فهم النصوص وتفسيرها، وأعلن أن الرأي لا وزن له بجانب النصوص، ودعا إلى إسلام السلف، ورفض -كما رفض أعلام السلفية الأولى- أن يحتكم لغير النصوص)، وأن الإسلام السلفي الذي تمسكت به الوهابية نبذ العقلانية الكلامية أو الفلسفية وما أثمرت من قياس ورأي وتأويل.
لم يتعرض إمام الدعوة لهذه المباحث في رسائله ومؤلفاته، وكان يصرح بأنه متبع وليس بمبتدع، وأنه على مذهب الإمام أحمد وطريقة السلف التي تأخذ بالقياس الصحيح في استنباط الأحكام الفقهية، وأن الرأي المصادم لنصوص الوحي وقطعياته مذموم ومرفوض، وما سوى ذلك فلا حرج فيه.
ولم يكن الرأي والقياس والتأويل ثمرة للعقلانية الكلامية أو الفلسفية، وإنما هي أحكام عقلية عامة تم توظيفها من قبل بعض الطوائف خدمة لمعتقدهم وتصوُّرهم الديني، وأخذت السلفية بالصحيح والسائغ؛ ليس إزراء بالعقل، وإنما وقوفًا عند حدوده وصلاحية أحكامه.
البداوة ومبدأ الوساطة الشركية:
ومن الذين تناولوا الوهابية كدعوة بدوية عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، حيث ذكر بأن مبدأ الوساطة والشفاعة الشركية -والذي جاءت الدعوة بإبطاله ومحاربته- انتشر في أوساط البدو بسهولة؛ (لأنهم لا يهتمون بهذه العقيدة، ذلك أنهم لم يعتادوا في حياتهم الاجتماعية مبدأ التوسط والتشفع، ولم يكن لديهم حكام مستبدون كما هو الحال عند الحضر؛ ولذلك كان من السهل عليهم تقبل هذه العقيدة الجديدة)، ويرى الوردي أن هذا السبب هو الذي (جعل الدعوة الوهابية يسهل انتشارها بين البدو، بينما هي من الصعب انتشارها بين الحضر، إن الفرد الحضري الذي اعتاد على الشفاعة في علاقاته مع حكامه يصعب عليه أن يستغني عنها في علاقاته مع ربه).
وهذا التحليل قائم على قناعة الوردي بأن (أكثر العقائد والطقوس الموجودة لدى العامة هي صدى لعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، ثم يأتي رجال الدين بعدئذ فيؤيدون العامة فيما يعتقدون وما يفعلون).
ومناقشة هذا الكلام من وجوه:
أولًا: أن العقائد الدينية شأن منفصل عن الواقع الاجتماعي، وليس انعكاسًا أو ترجمة له، والتعامل مع العقيدة كصدى لأعراف المجتمعات وعادات الشعوب هو نظرية مادية إلحادية تهوِّن من شأن الدين والمعتقد، وترى أنه منتَج بشريّ وظاهرة اجتماعية تتأثَّر بعوامل الزمان والمكان.
وحتى بافتراض وجود نوع من التأثير في بعض الأفكار الدينية؛ فإن ذلك يكون بشكل جزئي ومحدود في بعض الجوانب، ولا يستقل بإيجاد عقائد كاملة وصياغتها.
ثانيًا: ظهر الشرك والاستشفاع بالوسطاء في العرب الذين لم يعرفوا حكم الملوك ولم يخضعوا لتسلط الحكام المستبدين، وقد أرسل الله تعالى إليهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عنه وحاربوه وقاتلوا؛ تمسّكًا بدينهم ومعتقدهم الشركيّ، ولم يكن من السهل عليهم نبذ قناعاتهم، ولو كان الأمر كما يزعم علي الوردي كان من السهلِ عليهم التخلِّي عن مبدأ الوسطاء والشفعاء.
ثالثًا: بخلاف زعم علي الوردي فإنه يمكننا القول بأن غيابَ الأمن وعدمَ وجود دولة وسلطة سياسية مُهابة الجانب وهيمنةَ منطق الغزو والنهب والظلم على طبيعة الحياة البدوية، كل ذلك يستدعي اللجوءَ لمبدأ الوساطة على نحو أشدَّ مما يجري في المدن التي يحكمها الولاة، فهناك سلطة مركزيَّة واحدة يتزلَّف الناس إليها، أما في البادية فيتعدَّد الرؤَساء والزعماء وشيوخ القبائل، وتصبِح الواسطة مسلَكًا طبيعيًّا يَلجَأ الناس إليه لقضاء حوائجهم وإصلاح شؤونهم في ظل غياب النظام والقانون.
رابعًا: كلام الوردي يوحي بأن محمد بن عبد الوهاب وجد الطريق مذلَّلة أمامه، وأن الناس رحبوا بدعوته وقبولها بلا تردد، والحقيقة بخلاف ذلك، فلم تحقق الدعوة إنجازها الكبير في نشر مبادئها وإقامة دولتها إلا بعد معارك فكرية وسياسية ومواجهات مسلحة طويلة مع القوى المحلية، وبمجرد النظر في تاريخ الدعوة وصراعها السياسي والمسلح وسجالها الفكري مع الخصوم تبطل مزاعم الوردي بخصوص تقبُّل البدو لأفكار الدعوة وإعراض الحضر عنها.
الحاجة للتصوف بين البدو والحضر:
يرى علي الوردي أن دعوة ابن تيمية لمناهضة البدع والتصوف لم تلق رواجًا إلا في صحراء العرب على يد الوهابية، (أما في بقية الأقطار الإسلامية فقد ظلَّ الناس كما كانوا، ينحَون منحى التصوّف أو التشيّع حسب مقتضيات ظروفهم، إنهم يعانون في حياتهم شتى أنواعَ الأمراض والمظالم والمضايقات، وهم إذن في حاجة إلى من يساعدهم على مجابهتها وتحملها)، فالتصوف (قدم للناس ما يحتاجون إليه من عقائد وطقوس تسلِّيهم وتبعث الطمأنينة والتفاؤلَ تجاه مشاكل الحياة أو أخطارها).
بُني هذا التصور على أساس انعدام مظاهر الحياة في الصحراء أو خلوها من أسباب النكد والظلم، وبالتالي انعدام الحاجة للتصوف والسكينة الروحية التي يوفرها لأتباعه.
وهذا خلاف الواقع، بل من المنطقي أن تكثر متاعبُ الحياة في البيئة البدويّة بسبب تسلّط حكام القبائل وكثرة الغزو وانعدام السلطة التي تفرض الأمن والنظامَ وتحمي الحقوق، وكذلك بسبب صعوبة المعيشة وقلَّة مقوِّمات الحياة، والتي من صعوبتها وشقاء أهلها تزداد معها الحاجة إلى التصوف كدواء روحي لآلام المجتمع.
التوحيد بين عقلانية المعتزلة وبداوة النجديين:
يرى البعض أن (محمد بن عبد الوهاب أراد أن يجدِّد الإسلام، والتوحيدُ هو جوهر عقائده ومحورها، فرکَّز الجهد الفكريَّ كلَّه على تنقية عقيدة التوحيد الإسلامية مما شابها وطرأ عليها بعد عصر الإسلام العربي، أو إسلام العرب الأوائل قبل عصر الفتوحات، صحيح أن عقيدة التوحيد هذه قد بلغت قمة التنزيه في التجريد المعتزلي الذي بلغ حد نفي زيادة الصفات عن الذات، والقول بخلق القرآن وحدوثه حتى لا تكون هناك شبهة لتعدد القدماء تشوب وحدانية القديم سبحانه، لكن فكر المعتزلة الفلسفي کان وليد مجتمعات متحضِّرة واستجابة إيجابية لتحدّيات فكرية فلسفية تميَّزت بها بيئات ذات أنماط فكرية معقدة ومركبة، ومن هنا كان هذا التنزيه المعتزلي غریبًا ومرفوضًا عند ابن عبد الوهاب، الذي رفض حتى الاستدلال بالقياس، حتى ولو كان قیاسا صحيحا، ووقف عند ظواهر النصوص القرآنية والنبوية، ورفض أن يلجأ في فهمها إلى التأويل، واستقر الرأي في الوهابية على أن الرأي لا وزن له بجانب النص).
ومناقشة هذا الكلام من وجوه:
أولًا: لم يكن توحيد المعتزلة القائم على نفي صفات الخالق هو التوحيد الذي جاءت به الرسل ووقعت فيه الخصومة بينهم وبين أقوامهم، والقرآن والعقل والتاريخ يؤكد ذلك، فلم تُبعث الرسل لنفي صفات خالقها ودعوة الناس لهذا المعتقد، ولم يكن شرك المشركين هو إثبات علو الله وكلامه ورحمته وسائر صفات الكمال.
لكن المعتزلة عمدوا إلى ركن عظيم من أركان التوحيد فهدموه، وزعموا أنهم حقَّقوا التوحيد، ثم اكتشفوا أن أكثر الأمة في ضلال مبين؛ لأنهم بفطرتهم وإيمانهم يثبتون الصفات، فأرادوا حمل الناس على معتقدهم بالإكراه، واستعانوا بالدولة، وحصلت المحنة المشهورة في القرن الثالث الهجري. فمنظور المعتزلة للتوحيد خاص بهم، لا يشاركهم به أحد من عقلاء الأمة ولا من غيرهم ممن يعرف معنى وحدانية الله.
ثانيًا: لم يذهب المعتزلة لما ذهبوا إليه نتيجة ظهورهم في بيئة حضرية متمدنة، بل هو انحراف فكري وفساد في التصور له مقدماته وأسبابه، شأنه شأن سائر الانحرافات التي ظهرت في الأديان قديمًا وحديثًا.
والنص السابق يُعلي من شأن مذهب المعتزلة باعتباره (وليد مجتمعات متحضرة واستجابة إيجابية لتحديات فكرية فلسفية تميزت بها بيئات ذات أنماط فكرية معقدة ومركبة)، وهو كلام إنشائي ورأي لا ينصره الدليل، فغاية ما في الأمر فساد في التصورات وضعف الاعتماد على الوحي كمصدر شرعي وحيد للحصول على المعرفة الصحيحة عن ذات الله وصفاته المجيدة.
وليست كل الآراء والفلسفات البشرية التي ظهرت في البيئات المتمدنة جديرة بالاهتمام والاحترام، فكثير من أساطير الإغريق والهنود والفرس والبابليين نشأت في ظل حضارات ومدنيات ذات شأن في زمانها، لكنها في نهاية المطاف مجرد أساطير يضحك منها العقلاء.
ثالثًا: واجه مذهبُ المعتزلة مقاومةً شديدة من جمهور الأمة، وتصدى لهم المحدثون والفقهاء، ودار السجال الفكري بين الجانبين في الحواضر المعروفة كالبصرة وبغداد، فمذهب المعتزلة ومذهب السلف المضادّ له نشآ وتبلورا في الحاضرة، فلا عبرة بالتفريق بين المنهجين من جهة البيئة الاجتماعية ودرجة تمدنها، والدعوة النجدية بدورها انتصرت لمذهب السلف والمحدثين وجمهور الفقهاء في القرون الثلاثة الأولى.
رابعًا: يخلط النص السابق بين علمي العقيدة والفقه، فيجعل مذهب السلف في الإيمان بظواهر النصوص هو رفضًا للقياس الصحيح، وأن الرأي لا وزن له بجانب النص.
والسلف ومحمد بن عبد الوهاب لا يرفضون القياس الصحيح، بل يأخذون به في استنباط الأحكام الفقهية، وقولهم: (لا اجتهاد في مورد النص) قاعدة فقهية متفق عليها، وكل ذلك لا صلة له بمذهب السلف في أبواب الاعتقاد، وخاصة في مبحث الصفات الإلهية، أما عدم القول بتأويل الصفات فمنهج السلف فيه أقرب للعقل، وأبعد عن تحريف الكلم عن مواضعه.
الفلسفة المضطهدة في بلاد الوهابية:
اتخذ التقليل من أهمية الإصلاح الديني والفكري للدعوة النجدية عدة صيغ، منها تسليط الضوء على موقف الدعوة من الفلسفة وإهمالها وسلبيتها في هذا الجانب، أو المقارنة بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب للحطِّ من شأن المعرفة بهذا الفن عند إمامها أو الإشارة إلى فقر الفكر الفلسفي عند أعلامها.
والجواب عن ذلك أن يقال: لم تكن التحديات التي قامت الدعوة لمواجهتها بحاجة إلى الاهتمام بالفلسفة التي تعايش المشتغلون بها زمنًا طويلًا مع مظاهر الانحطاط الفكري والديني في واقعهم دون أن تدفعهم علومهم الفلسفية للتغيير، كما أن موقف الدعوة في هذا الشأن هو موقف المدرسة السلفية التي تكتفي بالوحيين لإقامة الدين وإصلاح الدنيا، وتنبذ ما سوى ذلك مما لا نفع فيه، أو ما كان ضره أكبر من نفعه.
ولن يضر الدعوة ما يقال فيها من جهة إسهامها الفلسفي وإنجازها الحضاري إن كان الإسلام قد نالته الاتهامات ذاتها، فالغربيون ينظرون بدونية للفلسفة الإسلامية، وينكرون أي دور للعقل المسلم في تطوير التفكير الفلسفي، أو في القيام بأي وظيفة فلسفية إزاء مشكلاته الخاصة من خلال إنكار دور القرآن الكريم في نهضة الفكر الفلسفي.
وإن كان هذا رأي المتطرفين من مفكري الغرب وفلاسفتهم، وأن المعتدلين منهم ينظرون بإيجابيه لما قدمه المسلمون في مجالات الفلسفة، فكذلك الشأن في تقييم العطاء الفكري للدعوة الإصلاحية حيث تنقسم الآراء بين مدح وقدح.
بساطة الأفكار.. دليل عالمية أم محلية بدوية:
أراد المنتقدون للدعوة أن يتَّخذوا من بساطة بيئتها دليلًا على بساطة أفكارها وعدم صلاحيتها لبيئات أكثر تمدنا وتحضرًا، لكن ما حاولوا توظيفه لإثبات تصورهم صار دليلًا على خلاف مطلوبهم، وبيان ذلك من وجهين:
الأول: اختار الله تعالى أمة العرب، واصطفى منها آخر رسله إلى خلقه، وأنزل بلسانهم ولغتهم آخر كتبه وأحسنها، نظر الحكماء في سر هذا الاصطفاء، فاتجهوا للبحث في خصائص العرب وطباعهم وأخلاقهم، ونظروا في الطبيعة الجغرافية لموطنهم، وكيف أهَّلتهم هذه الخصائص لحمل الرسالة الإلهية، فكان مما ذكروا: سلامة عقول العرب من الجدل الكلامي الذي عرفه اليونان، وعدم اشتغالهم بالعلوم العقلية المحضة كالطب والحساب، بل كانت بيئتهم بالنسبة للأمم الأخرى بيئة أمية، لم يتطرق إليها شيء من الحضارات المجاورة، ولم تتعقَّد مناهجها الفكرية بشيء من الفلسفات التائهة من حولها.
عاش العرب في (جزيرتهم التي ترتفع حولها أسوار الجدب في شبه مصحّ أخلاقي ومعزل ديني حال بين من حولهم -إلا القليل- وبين التسلل بأنواع الغوايات الحسية والموبقات الفكرية والمجادلات البيزنطية والخرافات الإسرائيلية إلى منازل حياتهم وأنماط عيشهم ومنهج فكرهم وكلامهم).
إن ظروف الجزيرة العربية (أُضعِفت فيها حركة المرور، فصعب على المدنيَّات المجاورة أن تدخلها وتفيض عليها من ثقافتها) كما يقول أحمد أمين.
هذه الأسباب وغيرها هيأت العرب لتلك المهمة العظيمة، لم تمنعهم بداوة بيئتهم وتواضع ثقافتهم وأميتهم أن يكونوا سادة العالم المتمدِّن، ينشروا فيه دينهم الذي بدوره يفرض على معتنقيه سلطان لغتهم وآدابهم وثقافتهم.
هذه حقيقة غير قابلة للجدل، فالأميون العرب هم الذين قادوا بدينهم تلك المدنيات، وأثَّروا عليها بثقافتهم التي تكوَّنت في البيئة العربية المتواضعة.
لا تتَّفق هذه النتيجة مع منطق من يرى الإسلامَ البسيط الذي دعا إليه مصلحو نجد قاصرًا عن دخول المراكز الحضرية والبلاد التي قطعت شوطًا طويلًا في التمدن.
تمكَّن الإسلام من إخضاع الأمم الأخرى حينما كان على هيئته الأولى التي تلقاها العرب من أصحاب النبي الكريم محمد صلى الله وعليه وسلم، ونقلوه للعالم بفهمهم وإدراكهم ولغتهم، فلما اختلط بالأفكار والفلسفات المنتشرة في البيئات المتمدنة تغيرت ملامحه، وظهر الفساد في مسائل الاعتقاد، وتفرق أتباع الملة الواحدة، وتغلبت عليهم الأمم الأخرى.
يقول ريتشارد بيرتون: (على أيام الرشيد طرأ تغير هائل على البساطة الأولى للإسلام، إنه التغير الذي تستجيب له جميع المعتقدات والإمبراطوريات والكينونات التاريخية الأخرى. لقد أدى الجوار مع بلاد فارس والتفاعل القوي مع الأمم الإغريقية والرومانية إلى إحداث تحوير واضح المعالم في الإيمان القديم بشكله الخام الأولي: فقد تسربت أنواع الأفكار الميتافيزيقية مترافقة مع تأثيراتها التفتيتية المتوقَّعة، بدرجة أن بعض هذه الأفكار راح يهدد مبدأ التوحيد.. إن الأفلاطونية الجديدة والرهبنة اللتين لم تتركا آثارا جوهرية في العالم المسيحي وجدتا في الإسلام تربة خصبة.. وكانت هذه بعضا من الآثار السلبية التي حملها الزمن إلى المؤمن الحقيقي حيث أدت بعد مرور حوالى ستة أجيال إلى ظهور الانشطارات المتعددة التي فصلت بين الفرق بمسافات أوسع من تلك المسافات الكائنة بين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت، ولم يتراجع هذا التشرذم.. حتى أوقع السيف التتريّ أنجع العلاجات عليه)
نشر :