هل منع أتباعُ الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب الناسَ من الحجّ؟

إبراهيم بن محمد صديق 

تمهيد

منذ أن بزغَ فجرُ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ما فتئ مناوِئُوها مِن إلقاءِ التُّهم وإلصاقها بهذه الدعوة وبأتباعها، وتلك التُّهم التي تُلصق بالدعوة يمكن تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأول: تهمٌ كاذبةٌ مفتراة من أصلها.

والقسم الثاني: تهمٌ هي صحيحة في نفسها، لكنها تُحوَّر إلى مراداتٍ أخرى، أو تُجتزأ من سياقاتها التَّاريخيَّة والفكرية حتى تخدم توجُّهًا ما، وهو نوعٌ من التَّدليس والتزوير لا ينبغي لطلَّاب الحقِّ أن يقَعوا فيه، بل هو أبعد ما يكون من البحث العلمي والإنصاف والعدل مع الْمُخالف، فلا بأس أن يُخالف أحدٌ ما دعوةَ الشَّيخ في القضايا التي تحتمل ذلك، ولا بأس أن تتباين وجهاتُ النظر؛ لكن من غير المقبول دينًا وخلقًا وأمانَةً أن يأتي أحدُهم إلى حادثة فيحرِّفها، أو يرويها على غير وجهها، أو يخفي بعضَ الحقائق المصاحبة لها؛ حتى تبدو تلك الحقيقة بشكلٍ هو يريده!

ومن تلك التُّهم التي يدلِّسون بها على النَّاس براوية جزءٍ من الحقيقة فيها: قولهم: إن أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد منعوا الناسَ من الحج، وأنهم “جعلوا الديار المقدَّسة رهينةً في أيديهم، وراحوا يتحكَّمون بحركة الوفود إليها عن طريق فرض المكوس من جهةٍ، وعن طريق استخدامها لأغراضهم السياسيَّة من جهة أخرى. ففي سنة 1959م مُنِع الحاجّ السوري من الوصول إلى مكة المكرمة”، وأن مصير ذلك المنع “أن اقتصرت شعائر الحج على الوهابيين”.

وهذه الفرية لا زالت تُلقى حتى اليوم ضدَّ المملكة العربية السعودية، ويستصحبون في هذا المقام تلك الأحداث التاريخية التي يستدلُّون بها، والتي سنناقشها في هذه الورقة.

أبرز الحوادث التي يستدلّون بها على منع الحج:

وأبرز تلك الحوادث التي يستدلون بها حادثتان وهما:

الحادثة الأولى: منع الحجَّاج القادمين من الشَّام وإسطنبول من الحج عام 1223هـ، ويستندون في ذلك على مؤرِّخ الدعوة ابن بشر -رحمه الله- حيث قال: “فلمَّا خرج سعود من الدرعية قاصدًا مكَّة أرسل فراج بن شرعان العتيبي ورجاله معه لهؤلاء الأمراء المذكورين، وذكر لهم أن يمنعوا الحواج التي تأتي من جهة الشامّ وإستنبول ونواحيهما، فلمَّا أقبل على المدينة الحاج الشامي ومن تبعه وأميره عبد الله العظم باشا الشَّام، فأرسل إليه هؤلاء الأمراء أن لا يقدم إليهم”.

فيدَّعون أن الإمام سعودًا قد منع هؤلاء الحجاجَ من الوصول إلى مكة وأداء الحج، وهي حادثةٌ صحيحة أثبتها المؤرِّخون؛ لكنها ليست إلا حقيقة مجتزَأة، وسيأتي بيانُ ذلك.

الحادثة الثانية: قصَّة المحمل المصريّ عام 1344هـ، ومنع حجاج مصر من القدوم بعد ذلك. وهذه الحادثة مشهورة جدًّا، حيث إنَّها وقعت بعد دخول الملك عبد العزيز مكَّة المكرمة ودخولها تحت ملكه، وأرَّخ لذلك من عايش تلك الحادِثَة، وذكرتها الصحف الرسمية كصحيفة أم القرى والأهرام.

والمحمل باختصار: عبارة عن قافلةٍ تتَّجه نحو مكة المكرمة حاملةً معها كسوةَ الكعبة، وسط احتفالات شعبيَّة في مصر، تصاحبه فرق موسيقية وحشود عسكرية، ويصاحب المحمل الحجاج القادمون من مصر، وكانت هذه عادةَ مصر كلَّ عام في ذلك الوقت.

وفي عام 1344هـ وقعت تلكَ الحادثة الشهيرة، حين وصلوا إلى مِنى، ورفعوا أصوات الطبول، وعزفت الفرقة الموسيقيَّة في منى، فجاء بعض النجديِّين فأنكروا عليهم وألقوا إليهم الحجارة، فما كان من الضَّابط المرافق للمحمل إلَّا أن أمر بإطلاق المدافع والرمي بالرصاص، فمات قرابة 25 حاجًّا، وأصيب نحو 40 جملًا، ونفَر الناسُ وكثر اللَّغط، وقد شارك ابنا الملك عبد العزيز فيصل وسعود في تهدئَة الوضع، ثمَّ جاء الملك بنفسه ليدافع عن المحمل، وبالفعل استطاع أن يهدِّئ الطَّرفين وينهِي الأزمة، وكان هذا سببًا في قطع العلاقات حينًا، وانقطع معها حجَّاج مصر.

وفي بيان ما كان يحمله المحمل يقول محمَّد أبو الإسعاد: “بينما محمل الحجّ المصري المكون من الجمال التي تحمل كسوة الكعبة، يرافقها قوة عسكرية للحراسة مكونة من 400 جندي من المشاة والفرسان والهجانة، ومعهم مدفعية بطارية مكوَّنة من أربع مدافع، وتتبعهم فرق طبِّية من الأطباء والممرضين، ويرافقهُم آلافُ الحجَّاج المصريين متَّجهين لأداء شعَائِر الحج في طريقهِم إلى وقفة عَرفات، تصاحبهم أصوات الفرقة الموسيقية العسكريَّة”.

وقراءة ما حصل هناك بدقة تُغني عن الردِّ، وتُوقِع المشنعين في حرج؛ لأنَّ هذه روايات رسميَّة من الدَّولتين، تبيِّن سبب وقوع تلك الحادثة، وهل جاءَ بعدها منعٌ من الملك عبد العزيز أو لا، وقد نشرت جريدة الأهرام ملفًّا لهذه الحادثة بعنوان: واقعة المحمل، أعدَّه الدكتور يونان لبيب رزق، جاء فيه: “فتحت عنوان: معركة في الحجاز بين قوة المحمل والنجديين.. جرح ضابط وثلاثة من الجنود المصريين وقتل 25 من النجديين، نشرت الجريدة برقية بعث بها أمير الحج اللواء محمود عزمي باشا إلى وزارة الداخلية، كما نشرت في نفس الوقت بلاغًا من مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها…

أما نصُّ البلاغ: جاء المحمل المصري من جدة، وخيَّم في مكانه المعتاد من ضاحية مكة، ثم انتقل منها يوم التروية إلى منى حيث بلغ آخرها بسلام، وهُناك ارتفعت أصواتُ أبواق حرس المحمل، فاستنكرَها العرب من النَّجديين وغيرهم الذين يعتقدون حرمةَ جميع المزامير ولا سيَّما في هذه المشاعر العظام، فاجتمع بعض الغوغاء المجهولين منهم إلى مصدرِ الصَّوت، وكثر اللغط في ذلك، وكانَ مع المحمل بعض الحامية النجدية، فأخذوا يردّون الغوغاء بالضَّرب والتهديد، وقد وصل الخبر لجلالة الملك، فأرسل في الحال نجلَه سموَّ الأمير فيصل بقوة، فذهب لمكان الحادثة وطلب من رجال المحمل أن يقفوا في أماكنهم، وأخذ يقاوم الغوغاء، وطلب زيادة قوَّةٍ من أبيه، فأمدَّه بأخيه سمو الأمير سعود مع قوة معه، وبينما جند الحكومة تدافع الغوغاء وإذا برجال المحمل يطلقون المدافع والأسلحة التي معهم بغير حساب على الأماكن التي يخيّم فيها الحجَّاج النَّجديون، فقتل من الأبرياء الذين هم في أماكنهم خمسة وعشرين بين رجلٍ وامرأةٍ وطفل، وقتل أربعون بعيرًا.

ولَمَّا وصل الأمر لهذا الحدِّ خرج جلالة الملك بنفسه يحفّ به جميع أولاده وأفراد عائلتِه وحاشيته، وكان أهل نجد في أشدِّ ما يكون من الحنق، ولكنَّه خاطبهم وقال: (أذكِّركم بالله في هذا المقام، ثم أذكِّركم بشرفكم وحجَّتكم، وأخبركم بأنَّ هذا المحمل لا يمكن أن يتجاوزَ عليه أحد وبأحد ممَّن معي بقيَّة من حياة). ولَمَّا سمع بذلك أهل نجد ورغمًا عمَّا أصابهم من بلاء لم يستوجبوه رجع عاقلُهم على سفيهِهم، حتى ارتدَّت جميع تلك النفوس ببضع دقائق إلى أماكنهم، وطفئت الفتنة، ثمَّ سار المحمل محفوفًا بقوَّة من جند الحكومة، ولم يصب منهُم أحدٌ بأذى، وساد السُّكون والأمان، ولم يحصل ما يكدر بعد ذلك”.

أما الصَّحيفة الرسمية للملكة العربية السعودية -وهي صحيفة أم القرى- فقد روت الحادثة بتفصيلٍ أيضًا، وفيها أن النجديين أنكروا بألسنتهم ضربَ الأبواق في هذه المشاعر المقدسة، “فردَّهم رجالُ الحرس الملكي بعنفٍ وشدَّة فلم ينتهوا“، فأرسل الملك ابنَه فيصلًا، ثمَّ أرسل سعودًا، ووقفَا مَعَ المحمل مقابل النَّجديين، وبدؤوا يهدِّئُونهم بل ويدافعونهم، “وبينما الأمير سعود يسرع بجمعه والأمير فيصل يكافح بنفسه وهو يهدِّئ روع رجال المحمل لم يشعر الحجيج إلا والرّصاص ينفذ من أفواه بنادق جنود المحمل إلى صدور الحجيج، ووراء ذلك قنابل المدافع تضرب يمنةً ويسرةً تقتل الآمنين المطمئنِّين… وفيهم العدد العظيم الذي لم يعلم شيئًا عن الخبر، ولا درى إلا وقذائف النَّار تقع عليه وعلى من حوله”، حينها خرج الملك عبد العزيز بنفسه وأوقَفَ تلك الحادثة.

بعد تلك الحادثتين يحقُّ لنا أن نتساءَل: هل منع الإمام سعود ثم الملك عبد العزيز الحُجاج من القدوم إلى مكة المكرمة كما يقوله هؤلاء؟

نقول: ليس هناكَ منعٌ لأحدٍ من القدوم إلى مكة المكرمة إذا جاء حاجًّا يؤدِّي مناسك الحج، ويظهر لك في رواية قصَّة المحمل كيف أن الملك لم يمنع الحجاج أساسًا، وإنَّما امتنعوا من عند أنفسهم لهذه الواقعة، وكذلك نفس الأمر في حادثة الإمام سعود، ويمكنُنا أن نرجعَ هذا المنع إلى سببين رئيسين:

السبب الأول: منع الموسيقى والطُّبول والفرق الموسيقية من إحداث ما كانوا يُحدِثونه، فإنَّ الحج ليس لهذا، وهذا مع ما فيه من إزعاجٍ للحجَّاج الآخرين فهو أيضًا محذورٌ شرعي، ولا يتناسب في طبيعته مع المقصد الشرعيّ من الحج من الخضوع والإنابة لله والانقطاع لعبادته ودعائِه، فكان المنع للفرق الموسيقيَّة لا للحجاج، وهي نقطةٌ مهمَّة يجب على من يتحدَّث عن هاتين القضيَّتين أن يوردها ولا يغفلها، فإن سَوق القضيتين على أنَّها منعٌ للحج هو تزويرٌ للحقائق، فالمنع كما هو واضحٌ لكلِّ قارئ لتاريخ تلك الحقبة أنه لِمَا يصاحب المحمل وليس للحج نفسه.

ويذكر عبد الرحمن الجبرتي هذا السَّببَ بوضوح، وهو ليس من مؤرخي الدعوة، وإنما من خارجها، يقول: “ومنها انقطاعُ الحجِّ الشَّامي والمصري معتلِّين بمنع الوهَّابي النَّاس عن الحج، والحال ليس كذلك، فإنَّه لم يمنع أحدًا يأتي الحج على الطريقة المشروعة، وإنَّما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع التي لا يجيزها الشَّرع؛ مثل المحمل والطَّبل والزمر وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة وحجّوا ورجعوا في هذا العام وما قبله، ولم يتعرض لهم أحد بشيء”. فإن كان الإمام سعود قد منع غير الوهابيين من الحج فكيف حج هؤلاء المغاربة؟!

ثم إنَّ هذا المنع لم يأت فجأةً، وإنما بيَّن الإمام سعود والملك عبد العزيز عدم جواز هذه الفرق الموسيقية، وعدم قبولهم لها، وأنَّها ليست من الدِّين، وكان ذلك قبل سنوات المنع كما سيأتي بيانه، فلمن الحجَّة إذن في ذلك؟! هل لمن أعذَر وبيَّن ووضَّح، أم لمن أصرَّ على أن يقدم بتلك المنكرات؟!

السبب الثاني: الحفاظ على الأمن، وهو أحدُ الأسباب المهمَّة في منع محمل الشام ومحمل مصر، فإن هذه المحامل ترافقها قوَّة عسكرية محمَّلين بأسلحتهم، وعام 1223هـ ليس من الأعوام التي استتبَّ فيها الأمن، فالإمام سعود للتوِّ دخل مكة، فهل يسمح أيضًا بإدخال الأسلحة من قبل من كانوا يعادونه من الدَّولة العثمانية في ذلك الوقت؟!

وهذا الخوف على الحجاج والحفاظ على الأمن وعدم السَّماح بأي شيءٍ قد يثير قتالًا أو خلافًا داخل المشاعر مطلبٌ شرعيّ وعقليّ لا يختلف فيه عاقلان، يقول سعود السرحان: “كان الإمام سعود منشغلًا بالحفاظ على السلطة في الحجاز سبيلا للأمن وتعزيزًا للإسلام، ولم يكن تحريمه لتقاليد مثل المحمل تأكيدًا رمزيًّا للسلطة السعودية فحسب؛ لكنَّه أيضًا أداة حرفية لمنع زحف الجنود الأجانب على الأراضي السعودية”.

وأمن الحرم عند الإمام سعود والإمام عبد العزيز ومن بعده يعدُّ أولويةً كبرى، ويظهر ذلك جليًّا في الخطاب الأول الذي ألقاه الملك عبد العزيز في افتتاحية المؤتمر الإسلامي الأول سنة 1344هـ، قالَ فيه: “أيُّها الإخوان، إنَّكم تشاهدون بأعينكم وتسمعون بآذانكم ممن سبقكم إلى هذه الديار للحج والزيارة أنَّ الأمن العام في جميع بلاد الحجاز حتى بين الحرمين الشريفين بدرجة الكمال التي لم يعرف مثلها، ولا ما يقرب منها منذ قرونٍ كثيرة، بل لا يوجد ما يفوقها في أرقى ممالك الدنيا نظامًا وقوة، ولله الفضل والمنة”.

وأثرُ وجود العساكر والأسلحة بأيديهم ظهرَ جليًّا في قصَّة المحمل في عهد الملك عبد العزيز؛ فإنه لولا وجود المدافع والأسلحة مع جنود المحمل ما كان يقع القتال العنيف والذي استشهد فيه عدد من الحجاج، فهل يُترك الناس يدخلون بأسلحتهم إلى هذه المشاعر وهناك مئات الآلاف بل الملايين من النَّاس؟! فمنعُ من يحمل الأسلحة أو ما يمكن أن يضرَّ به الحُجاج هو عينُ العقل، وهو ما كان تفعله أي دولة في أيِّ تجمعٍ كان، فلِمَ يُلام أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذا؟!

وبعد بيان السببين يمكن أن يُقال: هل كان هذا المنع فجأة من الإمامين؟

والجواب أن هذا المنع من إدخال الفرق الموسيقية إلى المشاعر المقدسة لم يكن فجأة، وإنما سبقَ ذلك بيانٌ وتحذيرٌ في القضيتين، فقد حذَّر الأمير سعود من اصطحاب هذه الفرق الموسيقية، وأمرهم بترك المنكرات قبل عام 1223هـ، يقول الجبرتي في أحداث صفر من عام 1222هـ: “وفيه وصل حجاج المغاربة إلى مصر من طريق البر، وأخبروا أنَّهم حجوا وقضوا مناسكهم، وأن مسعود الوهابي وصل إلى مكة بجيشٍ كثيف، وحجَّ مع الناس بالأمن وعدم الضرر ورخاء الأسعار، وأحضر مصطفى جاويش أمير الركب المصري وقال له: ما هذه العويدات والطُّبول التي معكم؟ -يعني بالعويدات المحمل-، فقال: هو إشارة وعلامة على اجتماع الناس بحسب عادتهم، فقال: لا تأت بذلك بعد هذا العام“.

بل حتى حينما قدموا ولم يدخلوا مكة ولم يحجّوا هل كان ذلك منعًا أو امتناعا؟! يقول الجبرتي: “وبقي من بقي، وانقضى الشَّهر وحوادثه وفيه ورد الخبر بأن ركب الحاج الشامي رجع من منزله هدية ولم يحج في هذا العام، وذلك أنَّه لَمَّا وصل إلى المنزلة المذكورة أرسل الوهَّابي إلى عبد الله باشا أمير الحاج يقولُ له: لا تأتِ إلا على الشرط الذي شرطناه عليك في العام الماضي، وهو أن يأتي بدون المحمل وما يصحبهم من الطَّبل والزمر والأسلحة، وكل ما كان مخالفًا للشرع، فلما سمعوا ذلك رجعوا من غير حجّ، ولم يتركوا مناكيرهم”.

فالإمام سعود على عهده لم يمنعهم، بل قال لهم: قد بينت سابقًا واشترطت عليكم شرطًا، فلا تأتوا إلا وقد بذلتم ذلك الشَّرط، وهو حقٌّ مكفول للإمام ما لم يعارض الشرع، فكيف وما يأتون به هو منكرٌ في الشرع؟!

وكانَ هذا هو فعل الملك عبد العزيز -رحمه الله- أيضًا، فقد أرسل برقيَّة إلى مصر تكلم فيها عن الموسيقى وقال: “إنها ولو كانت مسلية للجند ومنظمة لسيرهم، فإنها تلهي عن ذكر الله في البلاد التي أوجدها الله لذكره”.

بل الأعجب من ذلك أن الملك عبد العزيز وحتى يحفظ الودَّ والعلاقات الأخوية بين المملكة ومصر أرسل خطابا رسميًّا إلى مصر يؤكِّد فيه أن المحمل وما يصاحبه من قوات وقافلة موسيقية سيلقى ترحيبًا، لكن الحكومة السعودية طالبت أن تبقى الفرقة الموسيقية في جدة من دون أن تصاحب المحملَ إلى البقاع المقدسة. وورد في صحيفة أم القرى أمر هذه البرقية وفيها: “وقال: إنه يقبل مجيئها لغاية جدّة فقط؛ لأن فريقًا كبيرًا من أهل نجد وغيرهم يعدّها من الملاهي التي لا يصحّ استعمالها في أوقات العبادة”. فالمنع إذن لم يكن فجأة، وإنما سبق ذلك بيان ومراسلات، فكيف يُلام الإمامان بعد ذلك؟!.

وببيان هذا يتَّضح لنا أنه لم يكن هناك منعٌ، وإنما امتناع لطلب الإمامين بعدم إدخال الفرق الموسيقية داخل مشاعر الحجّ، ونزيد هذا الأمر توضيحًا بحادثتين تؤكِّدان أن الإمام سعودًا والملك عبد العزيز كانا حريصَين على الحجَّاج، وعلى عدم ترويعهم، بل وعلى توفير كافة سبل الأمن لهم، وهما:

الحادثة الأولى: أن الإمام سعودًا حين قدم مكة عام 1217هـ لم يدخلها لوجود الحجاج فيها، فلم يرد تخويفَ الحجاج ولا إدخالهم في أمر ليس هو من شأنهم، فبقي خارج مكة حتى انتهوا من الحجّ، بل لم يدخل حتى المحرم عام 1218هـ.

وفي تأكيد هذا يقول حسين خلف الشيخ خزعل: “فسار الأمير سعود على رأس ذلك الجيش، ونزل السبلة (قرب الزلفى)، فأقام عليها أيامًا اجتمعَ عليه خلالها كثير من القبائِلِ، ثم رحلَ منها وقصد الحجاز، فلمَّا وصل الطَّائف انضمَّ إليه عثمان المضايفي ومن كان معه، فزحف بتلك القوات الجرَّارة وقصد مكَّة، وكان ذلك في موسم الحج، وكانت مكَّة مزدحمة بالحجاج، فنزل الأمير سعود بقوَّاته بالعقيق قرب الريعان منتظرًا انتهاء موسم الحج لكي لا يزعج الحجاج“. وحين دخلوا مكة عام 1218هـ -بعد أن أعطوا الأمان لأهل مكة- دخلوها وهم “رافعون أصواتهم عاليًا بالتَّلبية والتَّكبير والتَّهليل، خافضون رؤوسهم من خشية الله”. بل قبل الدخول لم يمنع أحدًا من الحجاج، وقد سمح للحجاج الشاميين بأن يحجوا ثم ينصرفوا. وهذا يؤكد مكانة الحج والحجَّاج عند الإمام سعود.

الحادثة الثانية: ممَّا يرينا أهمية الحفاظ على الحجاج وأمنهم ما حدث أيام واقعة المحمل المصري، فإنَّ الملك عبد العزيز كان قد أرسل ابنيه فيصلًا وسعودًا، ثم حين وقع القتل خرج الملك عبد العزيز بنفسه، “ولم يفكر في حياته، ولم يفكِّر بمملكته، وضع الْمُلكَ والعائلةَ بل وجزيرة العرب على كفة وخرج ليحمِي المحمل، وليحمي الحجيج، وقد تبعه أولاده وإخوته”، ثم ذهب إلى النجديِّين وذكَّرهم بالله وبهذا الموقف والمشعر العظيم، فهدؤوا، وقال: “أذكركم الله وهذا الموقفَ، أذكركم دينكم، أذكركم حميتكم الإسلامية وشيمتكم العربيةَ أن حجاج بيت الله ضيوفنا، وهم في وجوهنا، فلا تمدّ إليهم يد… سأقف أمام ركب المحمل، واعلموا أنه لا تمد إليه يد بسوء وفي هذا العنق دم يجري“. وانظر كيف يؤكد على أنَّه سيحمي المحمل ولو أدَّى ذلك إلى إراقة دمه! وكلُّ ذلك حفظًا للحج والحجاج، وحرصًا على أمنهم.

فإن قيل: قد توقَّف الحج أيضًا ثلاثة أعوام: من سنة 1219هـ إلى سنة 1221هـ، أي: بعد دخولِ الإمام سعود مكة عام 1218هـ!

نقول: نعم؛ ولكن من منع ذلك؟ هل هو الإمام سعود كما يصوِّرونه؟

لم يكن الأمر كذلك، فمكَّة في ذلك الوقت ليست تحت حكم الإمام سُعود أصلًا، وإنَّما تحت حكم الشَّريف غالب، فقد أُخرج الإمام سعود بعد عام 1218هـ، ودار قتال حول مكة المكرمة بعد تلك السَّنة، فكانت الحرب هي السَّبب في توقف الحج، وليس لمنع الإمام سعود الذي لم يكن يملك في ذلك الوقت سلطةً للمنع أصلا!.

وأخيرًا: البحثُ العلمي يتطلَّب أمانةً عالية في سَوق الحقائق وإبرازها دون بتر أو إخفاء، وهذا نموذج لما يمارسه بعض الكتاب من إخفاء للحقائق أو تزوير لها لمجرَّد النَّيل ممن يخالفهم، ومن يقرأ كتب التاريخ في هذه القرون يجد أنها قد ذكرت بوضوح أنَّ المنع لم يأتِ من الإمامين، ولا من أحد من أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإنما غايةُ ما هنالك أنَّ الإمامين وضعا شروطًا، ولم يمنع أحدٌ من أتباعِ دعوة الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب ولا من ملوك هذه الدولة المباركة الحج أو الحجَّاج، وإنما هي حوادث وقعت ولها أسبابها، والمنع كان لأشياء مصاحبة لها، فحوَّلَها البعضُ إلى منعٍ للحجِّ نفسه.

والْمُنصف هو من يسوق الحَادثة كما وقعت بكلِّ ملابساتِها، ثم يعرض رأيه كما يشاء، وقد ظهر جليًّا -ولله الحمد- أنه لم يُمنع الحجاج من أداء حجِّهم، وليس ذلك من منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا من أتباعه، بل هم قد مُنعوا من الحقّ أكثر من نصف قرنٍ من الزمن، ولبيان ذلك مناسبات أخرى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نشر :