حكم الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على أهل زمانه
فيصل بن قزار الجاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من أشهر الدعاوى التي ادعاها خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والفرى التي افتريت عليه، تنفيراً للناس عنه، وصداً عن دعوته: دعوى أنه يكفّر جميع المسلمين في البلدان. وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تجاوزوه حتى زعموا أنه يدّعي أن المسلمين منذ ستمائة سنة ليسوا على دين.
قال ابن غنام -رحمه الله- في بيان مقصد الخصوم من هذه الفرية والدعوى: (وقصدهم بعموم التكفير تحذير الناس عنه والتنفير).
وقد تكررت هذه الفرية على لسان خصومه، فمن أوائل من نسبها إلى الشيخ: سليمان بن سحيم كما في رسالته إلى علماء الحرمين وأهل البلدان، وسليمان بن عبد الوهاب في كتابه «فصل الخطاب في الردّ على ابن عبد الوهاب»، ومحمد بن فيروز في بعض رسائله، وغيرهم.
قال سليمان بن سحيم في رسالته التي أرسلها إلى البصرة والإحساء والحرمين، وهو يُعدّد بدع الشيخ وضلالاته -حسب زعمه-: (فمن بدعه وضلالاته… أنه ثبت أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء).
وقال محمد بن عبد الله بن فيروز (1142- 1216ه) في جواب سؤال عما يَكفُر به الرجل: (فطاغية العارض يقول بلسانه وبقلمه: جميع من قبله من نحو ستمائة سنة في جاهلية أعظم من الجاهلية التي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إذ ذاك مثلهم، ومشايخه كذلك، حتى جاء هذا الخير).
ولعل أصل هذه الفرية ناشئ من إلزام الشيخ ببعض أقواله، فإنهم لما رأوا الشيخ يُكفّر من اعتقد في الأموات، وصَرَفَ لهم أنواعاً من العبادات، كالذبح والنذر والدعاء، وأن الشرك محكومٌ به على من فعل هذه الأفعال، وإن لم يعتقده شريكاً مع الله، ونداً له، أو لم يعتقد فيه الاستقلال بالتأثير، الذي هو مناط الكفر عندهم فيمن توجه للأموات، وكان من ظنهم أن هذه الأفعال قد عمّت بلاد الإسلام من قديم الزمان، رأوا أن من لوازم قول الشيخ: تكفير المسلمين على هذه الأفعال.
قال سليمان بن عبد الوهاب أحد أكبر خصوم الشيخ ومعارضيه بعد أن ذكر بعض أنواع الشرك الأكبر التي أنكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب على الناس، ومثَّل بـالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، ودعاء الموتى والاستغاثة بهم: (ومعلوم عند الخاص والعام أن هذه الأمور ملأت بلاد المسلمين، وعند أهل العلم منهم أنها ملأت بلاد المسلمين أكثر من سبعمائة سنة).
وقال ابن غنام -رحمه الله- حاكياً عن خصوم الشيخ: (فقالوا: إن كان الذي نفعل من الدعوات والاعتقادات بأهل القبور في تلك الأزمنة الماضية والدهور فنحن كفارٌ ضلالٌ من غير ريب).
وهذه الفرية قد كذَّبها الشيخ مراراً في رسائله:
فقال -رحمه الله- في رسالته لعبد الله بن سحيم: (فالمسائل التي شنَّع بها -أي: سليمان بن سحيم- منها: ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطلٌ كتبَ المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء… فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول: {سبحانك هذا بهتان عظيم}).
وقال الشيخ -رحمه الله- في رسالة له عامة: (من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: ما ذُكر لكم عني أني أُكفِّرُ بالعموم فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم إني أقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيئ عندي فهذا أيضا من البهتان، إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت، ولكن نُكفّر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصدّ الناس عنه، وكذلك من عَبَدَ الأوثان بعدما عرف أنها دين للمشركين وزيّنة للناس، فهذا الذي أُكفّرُه، وكلُّ عالم على وجه الأرض يُكفّر هؤلاء، إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً والله أعلم والسلام).
وباستقراء رسائل الشيخ ومؤلفاته، يمكن تقسيم أحكامه على أهل عصره إلى أقسام:
القسم الأول: حكمه على البادية
ذَكَرَ الشيخ في أكثر من موضع ما عليه أكثر البادية في نجد من الجهل بالدين، والبعد عن الشريعة، بل وإنكار البعث.
فقال -رحمه الله- في رسالته لمحمد بن عيد: (من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم مشاهيرهم والأتباع إنهم مقرون بالبعث ولا يشكون فيه…).
وقال في رسالته إلى علماء البلد الحرام: (وإني أفتيت بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء، مع علمهم أن كتاب الله عند الحضر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بالذي أنكروا، فلما أفتيت بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا استنكر العوام ذلك، وخاصتهم الأعداء ممن يدعي العلم، وقالوا: من قال لا إله إلا الله لا يكفر ولو أنكروا البعث وأنكروا الشرائع كلها).
والشيخ إنما خصَّ بكلامه البادية التي يَخبُر أحوالها، وهي بادية نجد والحجاز بالخصوص، ولم يقصد عموم البادية في البلدان.
ولذلك قال -رحمه الله- في رسالته لسليمان بن سحيم: (يا ويلك، كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس؟ ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يُقرّ به…).
ومع هذا، فإن الشيخ لم يقصد بكلامه الحكم بالكفرِ على جميع بادية نجدٍ والحجاز، وإنما أراد الإشارة إلى ما عمّ وشاع وذاع بينهم من العقائد الكفرية، كما أنه علّق الحكم بالكفر على من وقع في تلك المكفرات، لا من سلم منها.
فقد قال -رحمه الله- في رسالته إلى علماء البلد الحرام: (وإني أفتيت بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء…).
فتأمل قوله: (بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار)، ولم يقل بكفر البوادي عموماً، فالحكم بالكفر منزّلٌ على من ينكر البعث والجنة والنار من أهل البادية، لا على من يُقرّ بشرائع الإسلام، ولم يقع في شيء من المُكفّرات.
وخصوم الشيخ لم يعارضوه في وصف حال البادية بما ذَكَر من اشتهار إنكار البعث والجنة والنار بينهم، والإعراض عن الشرائع والأحكام، بل أقروه على هذا الوصف، ولذلك لم يثبت عن أحدٍ منهم وصف البادية بضدّ ما ذكر الشيخ، ولا استنكار خبره، وإنما أنكروا تكفيره لهم؛ إذ زعموا أن إنكار البادية للشرائع، وتكذيبهم بالبعث لا يستلزم الحكم عليهم بالكفر، لكونهم يقولون: لا إله إلا الله، وكل من قال هذه الكلمة عندهم لم يُمكن تكفيره، ولو أنكر ما أنكر من الدين.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته لمحمد بن عيد: (من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم… قال علماؤكم: معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك).
والشيخ ـ ر حمه الله ـ لم ينفرد بحكمه على بادية زمانه، بل قد ذكر غير واحد ممن تقدّم على الشيخ، وممن عاصره، وممن تأخر عنه، عن بادية زمانهم مثل ما ذكر الشيخ من شيوع الكفر بالبعث، وإنكار الشرائع.
فممن تقدّم على الشيخ: محمد السنوسي (850ه) -رحمه الله- حيث قال عن بادية الشام في عصره: (وكثير من أهل البادية ينكر البعث).
ومن معاصري الشيخ: محمد الخليلي الشافعي (1147ه) -رحمه الله- كما جاء في فتاواه الحكاية عن عرب السعادنة وبني عطية وغيرهم من عرب الشام ومصر والحجاز وغيرهم من عرب البوادي، وكونهم يصدقون ببعثته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ينكرون البعث والنشور.
وممن تأخر عن الشيخ: إبراهيم البيجوري الأزهري (1276ه) -رحمه الله- حيث قال عن بادية مصر: (ومثل ذلك كثير في الناس، فمنهم من يعتقد أن الصحابة أنبياء وهذا كفر، ومنهم من يُنكر البعث).
القسم الثاني: حكمه على حاضرة نجد
قد ذكر الشيخ في أكثر من موضع من رسائله انتشار مظاهر الشرك في قرى نجدٍ وأمصارها، وبُعدَ أكثر أهلها عن معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
وذَكَر بأن الذي أوجب ذلك: عدمُ وجود من يُنبّه من العلماء، وغفلة كثيرٍ منهم عن معرفة مدلول كلمة التوحيد.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى من يصل إليه الكتاب من المسلمين خصوصاً: محمد بن عبيد وعبد القادر العديلي وابنه وعبد الله بن سحيم وعبد الله بن عضيب وحميدان بن تركي وعلي بن زامل ومحمد أبا الخيل وصالح بن عبد الله: (فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح، وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة، فإن كنتم تعرفون أن هذا من الشرك كعبادة الأصنام الذي يُخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر وشاع وذاع، حتى إن كثيراً ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح والعبادة، فما بالكم لَمْ تفشوه في الناس، وتبيّنوا لهم أن هذا كفر بالله مخرج عن الإسلام).
وقال -رحمه الله- في رسالته لمحمد بن عيد: (اعلم أني عُرفت بأربع مسائل: الأولى: بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس).
وفي معرض كلامه على موقف العلماء من معرفة حقيقة التوحيد، وما يضاده من الشرك، وبيان جهلهم به، خصَّ الشيخ -رحمه الله- بكلامه علماء العارض خاصة، ولم يُعمّم حكمه على علماء المسلمين في باقي مناطق نجدٍ، فضلاً عن العلماء في الأقاليم والبلدان.
فقد قال -رحمه الله- في رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة، وهما من قرى العارض: (وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو، لقد طلبت العلم، واعتقد من عرفني أنَّ لي معرفةً، وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي من الله به، وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى، ولبَّس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه).
فانظر إلى تخصيص حكمه ووصفه بأهل العارض من نجد بالخصوص.
وهذا الوصف الذي ذكره الشيخ عن واقع حاضرة نجد، والعارض خاصة، قد أقرّه عليه أكبر وأشهر علماء العارض، وهو: عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية -رحمه الله-.
وقد قال الشيخ -رحمه الله- في بيان منزلة عبد الله بن عيسى من بين علماء نجد: (وشاهد هذا أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء نجد ولا علماء العارض ولا غيره أجل منه، وهذا كلامه واصل إليكم إن شاء الله).
وقال عبد الله بن عيسى -رحمه الله- في رسالة موجهة إلى عموم المسلمين: (فالله الله عباد لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب، فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ}، واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام بقوله في دعائه: {واجبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس}، ولولا ضيق هذه الكراسة، وأنّ الشيخ محمداً أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام فيها لأطلنا الكلام).
ومثله ما حكاه الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمه الله- (1133 – 1218هـ) في وصف حالهم قبل دعوة الشيخ، وهو من أهل الدرعية من إقليم العارض من نجد، ممن كان يطلب العلم في ذلك الوقت، حيث قال في رسالة له: (إنك حريص على معرفة حالنا وما نحن عليه؟ فنخبرك بصورة الحال: إنا والناس فيما مضى على دين واحد، ندعو الله وندعو غيره، وننذر له وننذر لغيره، ونذبح له ونذبح لغيره، ونتوكل عليه ونتوكل على غيره، ونخاف منه ونخاف من غيره، ونقر بالشرائع من صلاة وزكاة وصوم وحج، والذي يعمل بهذا عندنا القليل، مع الإقرار، ونقر بالمحرمات من أنواع الربا والزنا وشرب الخمر وما يشبه هذا من أنواع المحرمات، ولا ينكرها خاص على عام، وبيّن الله لنا التوحيد في آخر هذا الزمان، على يدي ابن عبد الوهاب، وقمنا معه، وقام علينا الناس بالعدوان).
وقال في موضع آخر-رحمه الله-: (لأنّ الناس أحدثوا بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح محدثات، زعموا أنها من البدع الحسنة، فأقبح ذلك وأشده: دعوة غير الله، والاستغاثة بالصالحين من الأحياء والأموات، في جلب الفوائد، وكشف الشدائد، وسؤالهم الحاجات، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم عنده. وكذلك: كنا نفعله، قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام، نحن وغيرنا، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد، وصار عند غالب الناس هو غاية تعظيم الصالحين ومحبتهم، ومن أنكره عليهم كفروه وخرجوه).
وقد أطال ابن غنام في تاريخه في وصف حال أهل نجد وبلدان الإسلام وحواضره.
ولا غرابة في وصف الشيخ حال نجد بما ذَكَر، فإن الباطل إذا عُمل به ولم يُنكر على الوجه المتعين والواجب، أَلِفَه الناس، وصار لهم عادة، واعتقدوه ديناً وقربة.
فعن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً. قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يُرى من الحق إلا قدر ما ترون ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا تُرك منها شيء قالوا: تُركت السنة.
ومع طول الزمان قد يخفى الباطل على كثيرٍ من أهل العلم، حتى لا يكاد يوجد من ينكره منهم.
قال الشوكاني -رحمه الله-: (واعلم أن ما حرّرنا وقرّرنا من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً، قد يخفى على كثيرٍ من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشبَّ عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يُرغّب فيه ويندب الناس إليه. وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قَصَدَ بعض الأموات الذين لهم شهرة… فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن، يظنّ الإنسان مبادئ عمره وأوائل أيامه أنَّ ذلك من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلّمه من العلم بعد ذلك، بل يذهلُ عن كلِّ حُجّة شرعية تدلّ على أنَّ هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول ذلك أنكره، ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه يَبعُد كل البُّعد أن ينقلَ ذهنَه دفعةً واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات، إلى كونه من أقبح المقبَّحات، وأكبر المحرمات، مع كونه قد دَرَجَ عليه الأسلاف، ودبّ فيه الأخلاف، وتعاودته العصور، وتناوبته الدهور، وهكذا كل شيء يقلّد الناس فيه أسلافهم، ويُحكّمون العادات المستمرة).
ويؤكد صحة وصف الشيخ لحاضرة نجد بما ذكر: معارضة أكثر المنتسبين إلى العلم في نجد لدعوته، فإنه مع نسبته لهم إلى الجهل بحقيقة التوحيد ومعنى لا إله إلا الله قبل مجيء هذه الدعوة، ووصفه لهم في رسالته التي أشرنا إليها آنفاً بقوله: (فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى، ولبَّس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه)، وإعلانه بذلك، لم يُكّذبه أحدٌ منهم في دعواه، بل أكَّدوها بمعارضة دعوته، وإبطال ما جاء به من تفسير التوحيد، وزعموا ابتداعه القول بتوحيد العبادة، وضللوه بتكفير عباد القبور والأولياء.
ومن وافقه منهم في تفسير حقيقة التوحيد وبيان معنى لا إله إلا الله على نحو ما دعا إليه، لم يدّع أحدٌ منهم معرفته بذلك قبل إعلان الشيخ بالدعوة، وقد ذَكَر الشيخ في أكثر من موضع موافقة بعضهم له في تفسير التوحيد وبيان الشرك، مع اختلافهم معه في التكفير والقتال.
قال الشيخ -رحمه الله- في رسالته إلى محمد بن عيد: (فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع -أي: بيان التوحيد وبيان الشرك وتكفير من ترك التوحيد وقتاله- صدقني من يدّعي أنه من العلماء في جميع البلدان في التوحيد وفي نفي الشرك، وردّوا على التكفير والقتال… ونقول ثانياً: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، أنّ التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكنّ الناس لا يطيعوننا، وأنَ الذي أنكره هو الشرك، وهو صادقٌ في إنكاره، ولكنْ لو يَسْلَم من التكفير والقتال كان حق. هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد).
وقال -رحمه الله- في رسالته إلى أحمد بن إبراهيم: (وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلاً ونهاراً أنّ هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد، وإنكار الشرك، أنّه دين الله ورسوله، وأنّ الخلاف منّا في التكفير والقتال).
وقال ابن غنام -رحمه الله- مبيّناً مواقف المنتسبين إلى العلم في نجدٍ من دعوة الشيخ: (فالأكثر منهم ممن كسب واقترف أقرَّ على نفسه واعترف أنّ ما أتى به محمد بن عبد الوهاب هو الحق والصواب، وأنّ هذا هو التوحيد المطلوب، ومن لم يتحقّق به لم يُفرّق بين الربّ والمربوب، ولكن أنفت بعد ذلك منه القلوب، وخشي أن يكون كلٌّ من رياسته ودنياه وجاهه مسلوب، وقد صرّح كثير منهم في المحافل الكبار بأن ما يُفعل عند القبور والأشجار والطواغيت والأحجار من الشرك الأكبر الذي لا يُمحى إلا بالتوبة ويُغفر، وبعضٌ من أولئك برح على الإصرار، ودام على الإنكار، وبعضٌ يُقرّ عند الخاصة في إسرار، ويُنكر ذلك لدى الناس في الإجهار).
فمع اعتراف بعضهم بصحة ما جاء به من تفسير التوحيد وبيان الشرك، لم يدّع أحدٍ منهم معرفته بذلك قبل دعوة الشيخ، إذ من المعلوم أنهم لو كانوا عارفين بحقيقة التوحيد قبل دعوة الشيخ لسارعوا إلى تكذيبه في دعواه، وإبطال نسبتهم إلى الجهل، ورفع الملامة عنهم، لا سيما أن الأمر متعلقٌ بأصل الدين، وكل ذلك لم يكن، مما يُؤكد صحة دعواه.
فإذا عُلم هذا، وتحققنا من وصف الشيخ حاضرة نجدٍ وباديتها بما ذُكر من الجهل والبعد عن حقيقة التوحيد، فلا بد من التنبيه على أن هذا الوصف لا يعني بحالٍ تعميمه على كل شخص بعينه، بل يوجد في أهل نجدٍ من يعرف التوحيد ويلتزمه، وإنما يتنزّل كلامه على ما هو ظاهرٌ ومُعلنٌ وبادٍ، لا على ما هو مستتر وخافٍ.
ومن المهم أيضًا: التنبيه على أن وصف الشيخ حال نجد بما يشبه الجاهلية لا يستلزم الحكم على أعيانهم بالكفر، إذ الحكم على الأعيان يختلف عن الحكم على الأوصاف، والشيخ إنما ذَكر وصفاً عاماً للواقع في نجد قبل دعوته، ولم يعمّم هذا الوصف على كل شخص في نجد بعينه، فضلاً عن الحكم عليه به، لأن الحكم على الأعيان لا بد فيه من توفر الشروط وانتفاء الموانع، وقد نبّه الشيخ على ذلك في أكثر من موضع من رسائله، وطبّقه عملياً بامتناعه من تكفير الأعيان من عُبّاد القبور والأولياء من أهل نجدٍ وغيرهم في أول دعوته بسبب غلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة، وعدم وجود الناصح.
ومن ذلك قوله -رحمه الله- في جواب سؤال: عمّا يُقاتَل عليه؟ وعمّا يكفُر الرجل به؟: (وإذا كنا لا نُكفّر من عَبَدَ الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نُكفّر من لم يشرك بالله؟! إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يُكفّر ويقاتل {سبحانك هذا بهتان عظيم}).
وقد بيّن الشيخ منهجه في إنزال الحكم على الأعيان، وأوضح أنه لا يُكفّر أحداً وقع في الكفر جهلاً منه حتى يبلغه العلم، وتقوم عليه الحجة.
فقال -رحمه الله- في رسالته إلى عبد الرحمن السويدي عالم العراق: (وأما التكفير فأنا أٌكفّر من عَرَفَ دين الرسول، ثم بعدما عَرَفه سبّه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أُكفّره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك).
وقال -رحمه الله- في رسالته إلى محمد بن عيد: (وأما ما ذَكَرَ الأعداء عني أنّي أُكفِّرُ بالظن وبالموالاة، أو أُكفِّرُ الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله).
وقال ابن غنام -رحمه الله-: (إنه رحمه الله لما تظاهر بذلك الأمر والشأن، في تلك الأوقات والأزمان، والناس قد أُشربت منهم القلوب، بمحبة المعاصي والذنوب، وتوَّلَّعوا بما كانوا عليه من العصيان، وقبائح الأهواء الغالبة على كل إنسان، لم يُسْرع لها لسان، ولم يُصمّم منه لُبٌّ وجَنان، على تكفير أولئك العربان، بل توقَّف تورّعاً عن الإقدام في ذلك الميدان…).
كما ذكر تلميذه وحفيده عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- حال الشيخ في أول دعوته، فقال: (فذَكَرَ رحمه الله تعالى -أي: ابن تيمية- ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلا بعد البيان والإصرار، فإنه قد صار أمة وحده؛ لأن من العلماء من كفَّره بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب، قال: الله خيرٌ من زيد، تمريناً لهم على نفي الشرك، بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة، وعدم النفرة).
وبهذا يتبيّن جهل وخطأ من نَسَبَ الشيخ إلى التكفير بغير حق، وزَعَم أنه يُكفّر أهل نجدٍ عامة، مستدلاً على ذلك بما ذكره الشيخ من حال الناس في نجدٍ قبل دعوته، ووصفه لهم بالجهل بحقيقة التوحيد، وعدم معرفة الشرك، حيث لم يُفرّق هذا الجاهل والمخطئ والمفتري بين الحكم على الأوصاف، والحكم على الأعيان والأشخاص.
الثالث: الحكم على عموم بلاد المسلمين
لم يثبت عن الشيخ الحكم على عموم بلاد المسلمين بالكفر أو الشرك أو الجاهلية، فضلاً عن تكفير عامة الناس على نحو ما يفتريه خصومه، وإنما ذَكَر في رسائله غلبة الجهل وانتشار مظاهر الشرك في كثير من البلدان، ومع ذلك فقد نصّ على عدم التعميم.
من ذلك -رحمه الله- قوله في رسالته إلى عبد الرحمن السويدي عالم العراق: (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم بعد ماما عرفه سبّه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفّره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك).
وقال -رحمه الله- في معرض كلامه عن عبد الله المويس: (لكن هو آت من الشام، وهم يعبدون ابن عربي، جاعلين على قبره صنماً يعبدونه، ولست أعني أهل الشام كلهم حاشا وكلا، بل لا تزال طائفة على الحق وإن قلت واغتربت).
وقال -رحمه الله- في رسالته إلى فاضل آل مزيد مبيناً أنّه لو عُرضت دعوته على علماء الشام واليمن لأقروا بها: (والأمر الثاني: أن هذا الذي أنكروا عليّ وأبغضوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره).
وبهذا التفصيل، يتبيّن لكل منصفٍ حقيقة موقف الشيخ وحكمه التفصيلي على أهل زمانه، ويُعلم به بطلان ما افتراه عليه خصومه من دعوى تكفير المسلمين عامة، وأهل بلده وإقليمه خاصة.
ومما يحسن التنبيه عليه أيضًا: أنّ الشيخ عندما يذكر في رسائله غربة الإسلام في وقته، فإنه لا يعني بالغربة: غربة الإسلام الذي يقابل الكفر، وإنما يعني به غربة الإسلام الخالص من البدع والمحدثات والشركيات، أي غربة السنّة المحضة بين أهل البدعة.
فقد قال -رحمه الله- في رسالته لعبد الله بن سحيم: (فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء؛ أعني دين الإسلام الصرف الذي لا يُمزج بالشرك والبدع، وأما الإسلام الذي ضدّه الكفر فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم وعليها تقوم الساعة).
قلت: وهذا يؤكد بطلان ما افتراه عليه خصومه من دعوى تكفيره الناس بالعموم، أو دعوى أن الناس قد عادوا إلى حال الجاهلية العامة الأولى التي كانت قبل البعثة.
والله أعلم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
نشر :