(8) قواعد مهمة لمن أراد نقاش المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله-
سليمان بن صالح الخراشي
هذه ثمان قواعد أو تمهيدات أُراها مهمة لمن أراد الدخول في النقاش مع المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله -؛ كي لا يكون الحوار معهم غير مجدٍ، ويدور في حلقة مفرغة، استللتها من كتابي " ثناء العلماء على كتاب الدرر السنية ".
(1): الطعن في دعوة الشيخ ليس بالأمر الجديد :
إن الطعن في دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – ليس وليد الساعة ، إنما بدأ منذ أن خالف الإمام عقائد المنحرفين في عصره ، وجهر بدعوة التوحيد ، وفي هذا يقول – رحمه الله – في رسالته لعلماء البلد الحرام : " سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد : جرى علينا من الفتنة مابلغكم وبلغ غيركم ، وسببه هدم بناء في أرضنا على قبور الصالحين ، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين ، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله ، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور ، كبر على العامة ، وعاضدهم بعض من يدعي العلم ؛ لأسباب ما تخفى على مثلكم ، أعظمها اتباع الهوى ، مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين ، وأنا على غير جادة العلماء ، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب ، وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها " . فما الطاعن فيه اليوم إلا حلقة ضئيلة في سلسلة بائسة من أهل البدع والمناوئين على مر الأيام ، ولكنه يفوقهم قبحًا ووزرًا ؛ لأنه يمارس هذا التلبيس والضلال في وقت تكشفت فيه الحقائق ، وانجلت الغمة ؛ بإظهار الله – عز وجل – لهذه الدعوة ، وانتشارها في الآفاق ، وانقشاع غشاوة الشبهات والأكاذيب التي أثيرت حولها ، رغم كيد الحاقدين .
يقول الشيخ عبدالله البسام – رحمه الله – في ترجمته للشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -: ( تقاربت البلاد ، وسهلت الاتصالات ، حتى صار في مقدرة كل منصف ، ومحب للحقيقة ، أن يستقي الأخبار من منابعها الأصلية ، وأن يقف على الدعوة من قُرب ، من كتاب غير مغرضين ، وأن ينبذ الأباطيل المفتراة ، والأكاذيب المُلصقة ؛ ليرى صفاء الدعوة ، ونور الحق ، وضياء البرهان ، من دعوة إسلامية تريد للمسلمين أن يعودوا إلى إسلامهم الذي أكمله الله لهم ، وطلب منهم تحقيقه ، ليعودوا إلى سالف مجدهم وعزهم ، وليقودوا العالم الإسلامي من ظلمات الجهل ، وجور الظلم ، وزيغ العقائد ، إلى نور العلم ، وجمال العدالة ، ورسوخ الإيمان بالله تعالى ) .
ولطلاب الحق أن يُطالعوا هذه الرسائل المهمة : " عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي " ؛ للشيخ صالح العبود ، " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب " ؛ للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف ، " إسلامية لا وهابية " ؛ للدكتور ناصر العقل ، " الشيخ محمد بن عبدالوهاب المجدد المفترى عليه " ؛ للشيخ أحمد بن حجر آل بو طامي – رحمه الله - ، " محمد بن عبدالوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه " ؛ للأستاذ مسعود الندوي ، " كشف الأكاذيب والشبهات عن دعوة المصلح الإمام محمد بن عبدالوهاب " ؛ للشيخ صلاح آل الشيخ .
(2): الحوار لا ينبغي أن يكون عن وجود " التكفير " ، إنما يكون عن أسبابه :
إن الشيخ – رحمه الله – وأتباع دعوة التوحيد مع خصومهم – قديمًا وحديثًا – يدورون في حلقة مفرغة ، وجدال عقيم ؛ عندما يتهمونه وأتباعه أنهم يُكفرون المسلمين أو أن عندهم غلوًا في التكفير .. الخ تهمهم ؛ لأنه سيرد عليهم بأنه يبرأ من ذلك كله ، وإنما هو يكفر من وقع في الشرك الأكبر
فالخلاف بينه وبينهم ينبغي أن لا يكون في مجرد " التكفير " ؛ لأنه لا إسلام دون تكفير لمن يستحق التكفير – لو كان الخصوم يعقلون - ، ونصوص الكتاب والسنة حافلة بهذا ، وما من كتاب فقه من كتب أهل السنة " الأحناف ، المالكية ، الشافعية ، الحنابلة " إلا وفيه كتاب بعنوان " حكم المرتد " ؛ وهو المسلم الذي نقض إسلامه بقول أو فعل .
إنما الخلاف ينبغي أن يكون في حقيقة من كفرهم الشيخ ؛ هل هم مسلمون ؟ أو أنهم نقضوا إسلامهم بما ارتكبوه ودافعوا عنه من " شركيات " ؟
فينبغي أن تنصرف جهود خصوم الشيخ – ومن وافقهم – إلى إثبات أن من كفرهم الشيخ مسلمون – رغم صرفهم أنواعًا من العبادة لغير الله ؛ من نذر أو ذبح أو دعاء .. الخ .
هاهنا المعترك بين الشيخ وخصومه .
أما الصياح بأن الشيخ كفر هؤلاء أو قاتل أولئك ، والاعتقاد بأنهم بهذا أقاموا الحجة على أن دعوة الشيخ " تكفيرية " ! فهذا سذاجة وجهل . لأن الشيخ وعلماء دعوته لم يُنكروا هذا كله – رغم التزيدات والفهم السقيم كما سيأتي - حتى " يفرح " البعض بالعثور عليه ! بل هم يُقرون ما ثبت منه ، ولا يعدونه مذمة – مادام مرجعه الأدلة الشرعية - .
فالخلاف ينبغي أن يكون في : " هل يستحق هؤلاء المكفَّـرين " أن يُحكم عليهم بذلك ، أو لا يستحقون ؟! ويكون المرجع في هذا الأدلة الشرعية بفهم سلف الأمة ، لا بمجرد العواطف والأماني التي يعقبها " التباكي " .
(3): عند المخالفين : من قال " لا إله إلا الله " فقد برئ من الكفر مهما ارتكب من النواقض !
ظن المخالفون للشيخ أن من قال : لا إله إلا الله لا يكفر، ولو لم يعمل بمقتضاها، ويقولون إن الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكفَّرهم، ونزل فيهم القرآن، لا يشهدون أن (لا إله إلا الله) ، فكيف يُجعل أولئك المشركون الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله مثل الذي يقولها ويصلي ويصوم؟ ولأن هذه المسألة من أهم المسائل التي إذا ما وعاها المسلم وفهمها حق الفهم تيقن افتراء الخصوم على دعوة الشيخ ، وعدم فهمهم لحقيقة التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإليك نقولا مفيدة للشيخ – الذي أولاها الأهمية - ولبعض علماء الدعوة وغيرهم :
- هذه الشبهة أُوردت على الإمام محمد بن عبدالوهاب، وتولى الإجابة عنها بنفسه ، قال - رحمه الله - ما نصه : ( اعلم أن لهؤلاء شبهة، يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن، لا يشهدون أن (لا إله إلا الله)، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن، ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم، أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، وكذبه في شيء، أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن، وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله، وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله، وجحد الحج.
ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج، أنزل الله في حقهم ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) ، ومن أقر بهذا كله، وجحد البعث، كفر بالإجماع، وحل دمه وماله، كما قال تعالى: ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً ) ، فإذا كان الله قد صرّح في كتابه، أن من آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو الكافر حقاً، وأنه يستحق ما ذكر، زالت الشبهة ..
ويقال أيضاً: إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وجحد وجوب الصلاة، إنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان، وصدق بذلك كله، لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا.
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل! ويقال أيضاً: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويؤذنون، ويصلون.
فإن قال : إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان، ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان، أو يوسف ؟ أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السماوات والأرض؟ سبحان الله ما أعظم شأنه ( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ) .
ويقال أيضاً: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، كلهم يدّعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة، ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفّر؟
ويقال أيضاً : بنو عبيد القداح، الذين ملكوا المغرب في زمان بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء، دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون، حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
ويقال أيضاً: إذا كان الأولون لم يكفروا ، إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب: (باب حكم المرتد)، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها، يكفِّر ويُحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) ، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة، مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجاهدون معه، ويصلون، ويزكون ويحجون ويوحدون ؟
وكذلك الذين قال الله فيهم ( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) ، فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح.
فتأمل هذه الشبهة، وهي قولهم: تكفِّرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها، فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق... - إلى أن قال - : وللمشركين شبهة أخرى: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وكذلك قوله "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر، ولا يُقتل، ولو فعل ما فعل ! فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وسباهم، وهم يقولون لا إله إلا الله.
وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون ويدّعون الإسلام.
وكذلك الذين حرّقهم علي بن أبي طالب بالنار، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقُتل، ولو قال لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقُتل، ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعًا من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد، الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ؟ ولكن أعداء الله ما فهموا الأحاديث.
فأما حديث أسامة: فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام، بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام: وجب الكف عنه، حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) ، أي: فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قُتل، لقوله تعالى ( فتبينوا ) ، ولو كان لا يُقتل إذا قالها، لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه : أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه، إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ ، وقال: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" ، هو الذي قال في الخوارج "أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن أدركتهم لأقلنهم قتل عاد"، مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم، وهم تعلموا العلم من الصحابة، فلم تنفعهم لا إله إلا الله، ولا كثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام، لما ظهر منهم مخالفة الشريعة ) .
- و قال الشيخ عبدالله أبا بطين – رحمه الله - : ( من أعظم المصائب إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة – أي لا إله إلا الله - ، حتى صار كثيرٌ منهم يقول : من قال لا إله إلا الله ، ما نقول فيه شيئًا وإن فعل ما فعل ! لعدم معرفتهم بهذه الكلمة نفيًا وإثباتًا . مع أن قائل ذلك لابد أن يتناقض ، فلو قيل له : ما تقول فيمن قال : لا إله إلا الله ، ولا يُقر برسالة محمد بن عبدالله ؟ لم يتوقف في تكفيره . أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث ؟ لم يتوقف في تكفيره . أو استحل الزنا أو اللواط أو نحوهما ، أو قال إن الصلوات الخمس ليست بفرض ، أو أن صيام رمضان ليس بفرض ؟ فلابد أن يقول بكفر من قال ذلك . فكيف لاتنفعه لاإله إلا الله ولاتحول بينه وبين الكفر ؟! فإذا ارتكب ما يناقضها ؛ وهو عبادة غير الله ، وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب ، قيل : هو يقول لا إله إلا الله ، ولا يجوز تكفيره ! ) .
- وقال – أيضًا - رحمه الله-: ( ولازم قول من قال: إنه لا يجوز قتال من قال لا إله إلا الله. تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي إذا كانوا طائفة ممتنعين. بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتالهم بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج، بل لازم ذلك رد النصوص ، بل رد نصوص القرآن كما قدمنا، ورد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تحصى، ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود لأنهم يقولون لا إله إلا الله ! فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب والسنة والإجماع ) .
- وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن – رحمهما الله - : ( وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفَّر من تلفظ بالشهادتين فهو من الخوارج، وليس كذلك؛ بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعاً من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه، فهذا تنفعه الشهادتان .
وأما من قالهما ولم يحصل انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرَّب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله هو : عبادة الله ، وترك عبادة ما سواه ، فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده ؛ فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله ، ومن عبده وعبد معه غيره ؛ فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله ) .
- وقال – رحمه الله – رادًا على من تشرب قلبه هذه الشبهة :
( وأما قوله: ومن تسمّى بالإسلام، وأحب محمداً سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفِّر أحداً من سائر المسلمين، فضلاً عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" وسوّل لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين ..إلى آخر رسالته.
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله واتخذ معه الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، يُحكم عليه والحال هذه بأنه من المسلمين؛ لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتهما لا تضره، ولا توجب عند كفره، فمن كفَّره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة "لا إله إلا الله" ، وهذا القول مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم كفر إجماعاً" . انتهى
ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلَّت عليه كلمة الشهادة، لا يجدي شيئاً، والمنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار.
نعم، إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يُكف عنه بمجرد القول، ويُحكم بإسلامه، وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزامه ما دلّت عليه من الإيمان بالله وتوحيده والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام ولا كرامة له، ونصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة تدل على هذا.
فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمداً، واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوّى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة، ولكن هذا يغلط في مسمى الإسلام، ولا يعرف حقيقته ، وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب ، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول.
وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثيرٌ من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى: ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) . وقال تعالى: ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين ). وقال تعالى: ( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) ، فالتكفير بدعاء غير الله: هو نص كتاب الله، وفي الحديث: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار". وفي الحديث أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وفي رواية: "إلا بحق الإسلام".
وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه، وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، أو استكبر عن عبادة الله فهو مكذبٌ لنفسه، شاهدٌ عليها بالكفر والإشراك.
وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة في كتب الفقه باب مستقلاً في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذمٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) ، فكفَّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء ، ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم "لا إله إلا الله".
وكذلك: إجماع الأمة على كفر من صدَّق مسيلمة الكذاب، ولو شهد "أن لا إله إلا الله" ، وقد كفَّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة بكلمة ذُكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة، ولم يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون "أن لا إله إلا الله". لأنه قد وجد منهم ما ينافيها: ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) ، وبالجملة فالذي يقوم بحرمة "لا إله إلا الله": هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها علماً وعملاً، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله تعالى- ، وأما من أباح الشرك بالله وعبادة غيره، وتولى المشركين، وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم ؛ فهو الذي أسقط حرمة " لا إله إلا الله " ، ولم يُعظمها، ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها ) .
وقال – أيضًا – رحمه الله - : ( وقد رأيت لبعض المعاصرين كتاباً يعارض به ما قرر شيخنا من أصول الملة والدين؛ ويجادل بمنع تضليل عُبَّاد الأولياء والصالحين، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين، الذين أنزلوا العباد بمنـزلة الله رب العالمين، وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله، وأنهم يصلون ويصومون، ونسي في ذلك عهود الحمى؛ وما قرَّره كافة الراسخين من العلماء، وأجمع عليه الموافق والمخالف من الجمهور والدهماء، ونصَّ عليه الأكابر والخواص، من اشتراط العلم والعمل في الإتيان بكلمة الإخلاص، والحكم بموجب الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص، وسمّى كتابه: "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة"، ومراده بالأمة هنا: من عبد آل البيت وغلا فيهم، وعبد الصالحين ودعاهم، واستغاث بهم؛ وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم !! هذا مراده ، ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجاً على الأغمار والجهال، ولبساً للحق بالباطل، وهو يعلم ذلك ، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. قال تعالى: ( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) ، فلكل مفترٍ نصيبٌ منها بحسب جرمه وعلى قدر ذنبه، وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه ) .
- وقال – رحمه الله - : ( إن الشيخ إنما كفّر وقاتل وأخذ الأموال بأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقلّ وتكثر، وأنها لا يكفر بها أحد، وأن تكفير الصحابة لمن كفَّروه من أهل الردة على اختلافهم، وتكفير علي للغلاة، وتكفيره للسحرة وقتلهم، وتكفير من بعدهم للقدرية ونحوهم، وتكفير من بعد أولئك للجهمية، وقتلهم للجعد بن درهم وجهم بن صفوان ومن على رأيهم، وقتلهم للزنادقة، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفَّره الله ورسوله، وقام الدليل على كفره لا يتحاشون عن ذلك؛ بل يرونه من واجبات الدين وقواعد الإسلام وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه.
وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المقلدون، وأتباعهم في كل عصر ومصر، وكفَّروا طوائف من أهل الأحداث، كالقرامطة والباطنية، وكفّروا العبيديين ملوك مصر وقاتلوهم، وهم يبنون المساجد، ويصلون ويؤذنون، ويدَّعون نصرة أهل البيت، وصنَّف ابن الجوزي كتاباً سمَّاه "النصر على مصر" ذكر فيه وجوب قتالهم، وردتهم.
وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم، أبواباً مستقلة في حكم أهل الأحداث التي توجب الردة، وسماه: باب الردة، وأكثرهم عرَّفوا المرتد بأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم..
وهذا الأحمق يَعُدُّ هذا باباً ضيقاً، ويسفه رأي الأئمة وعلماء الأمة ويجهلهم، وهو يزعم أنه ينصرهم. وما أحسن ما قيل: " لأن يعادي المرء عاقلاً خير له من أن يكون له صديق أحمق " .والباب الذي يسع كل أحد هو الباب الشرعي، الذي عليه الداعي النبوي. وأما إهمال الجهاد، وعدم تكفير المرتدين، ومن عدل بربه، واتخذ معه الأنداد والآلهة، فهذا إنما يسلكه من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يُعَظِّم أمره، ولم يسلك صراطه، ولم يقدر الله ورسوله حق قدره، بل ولا قدَّر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم، وهذا هو الحرج والضيق. قال تعالى: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) .والجهاد للمارقين والمرتدين وتكفيرهم داخل في مسمى الإسلام، بل هو من أركانه العشرة، كما نصَّ عليه بعض المحققين، وفي الحديث: "وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" ، فلا ينشرح له ويراه حقاً وواسعاً إلا صدر من أراد الله هدايته وتوفيقه، ويراه ضيقاً حرجاً من أراد الله أن يضله ويخزيه بين عباده المؤمنين. هكذا يقرر الكلام هنا والقول في هذا الموضع، لا ما زعمه من خسف الله قلبه، فعكس القضية، وراغم الأدلة الشرعية، والقوانين المحمدية، فبعداً لقوم لا يؤمنون.
وأما قوله: " إن تكفيرها حذَّر منه نبيها صلى الله عليه وسلم غاية التحذير " .
فيقال: إن زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من تكفير من أتى ما يوجب الكفر ويقتضيه ممن بدّل دينه، فهذا مكابرة وجحد للضروريات والحسيّات، وقائله إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى تلاوة الآيات والأحاديث، وحكاية الإجماع، وفعل الأمة طبقة طبقة وقرناً قرناً. وإن أراد أن النهي عن تكفير عموم الأمة وجميعها: فهذا لم يقله أحد، ولم نسمع به عن مارق ولا مبتدع، وهل يقول هذا من له عقل يدرك به ويعرف ما في الأمة من العلم والإيمان والدين؟ وأما بعض الأمة فلا مانع من تكفير من قام الدليل على كفره؛ كبني حنيفة، وسائر أهل الردة في زمن أبي بكر، وغلاة القدرية والمارقين الذين مرقوا في زمن علي رضي الله عنه وغلوا فيه، وهكذا الحال في كل وقت وزمان، ولولا ذلك لبطل الجهاد وترك الكلام في أهل الردة وأحكامهم، وفي هذا القول ما تقدم من تسفيه جميع الأمة، وتجهيل علمائها الذين كفّروا بكثير من الأحداث والمكفِّرات، وفيه أنهم لم يسلكوا الطريق الواسع، ولم يفهموا الحديث عن نبيهم . وبالجملة: فهذا المعترض مموّه بلفظ الأمة مُلَبِّس ) .
- وقال – رحمه الله - : ( واعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد؛ بل ظن أنه مجرَّد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين والإتيان بهما ظاهراً هو نفس التصريح بالعداوة والبغضاء، وما أحسن ما قيل: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم.
ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، وردّ إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين ودعاهم وتوكل عليهم وقرَّب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ويبني المساجد ويصلي، وأن ذلك يكفي في الحكم بالإسلام ولو فعل ما فعل من الشركيات !! وحينئذٍ فالكلام مع هذا وأمثاله في بيان الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وحكم بأنه لا يغفر، وأن الجنة حرام على أهله، وفي بيان الإيمان والتوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وحرم أهله على النار، فإذا عرف هذا وتصوره تبيَّن له: أن الحكم يدور مع علَّته، وبطل اعتراضه من أصله، وانهدم بناؤه ) .
- وقال – رحمه الله – موجهًا حديثه لواحد من المُلبّسين : " ما تقول في الغالية الذين حرَّقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بمشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! أهم من الثنتين والسبعين فرقة أم لا؟ وما تقول في مانعي الزكاة الذين قاتلهم الصديق وأجمعت الصحابة على تكفيرهم، أهم من الثنتين والسبعين فرقة أم لا ؟ وكذلك بنو حنيفة، وبنو عبيد القداح ملوك مصر والمغرب، فإن دخلوا في الثنتين والسبعين فرقة بطل تأسيسك وانهدم أصلك الفاسد، وإن لم يدخلوا كما هو الصحيح ؛ بطل إدخالك أمثالهم من عُبَّاد القبور في مسمى الأمة في هذا الحديث، وثبت أن من الفرق من يخرج عن الملة ويرتد بما خالف فيه من نحلته ) .
وقال الشيخ أحمد بن حجر آل بو طامي : ( ونحن نسأل هؤلاء المنتقدين: ما حكم من تشهد بالشهادتين وصلى وصام وحج البيت الحرام وكثيراً ما تصدق على الفقراء والمساكين ويعمل أعمال البر، ولكن أخذ ورقة من أوراق المصحف الشريف وألقاها في القاذورات وهو يعرف أن هذا لا يجوز، بل هذا كفر ، ولكنه عمل هذا مع أنه قد أتى بتلك الأعمال الجليلة كما سبق ذكره.
فما يكون موقف هؤلاء؟ هل يقولون إنه مسلم ؛ لأنه تشهد بالشهادتين وصلى وصام؟ أو يقولون إنه كافر؟ فإن قالوا : هو مسلم ، فقد خالفوا الإسلام وإجماع المسلمين، وسأورد للقارئ من نصوص العلماء ما يبين خطأهم وضلالهم. وإن قالوا : كافر ، فقد نقضوا قولهم ، وانهار أساسهم ، حيث أنهم خطأوا الوهابيين على زعمهم وبدعواهم لأنهم يُكفرون من يستغيث بغير الله، أو ينذر لغير الله ، ولم يراعوا أنه تشهّد بكلمة الشهادتين، فهاهم كفّروا من كان مسلماً على زعمهم ، ولم يلتفتوا إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم تشفع له أعماله الجليلة عندهم. وها أنا ذا أنقل للقراء من كلام العلماء أتباع المذاهب الأربعة في تكفير من أتى بشيء مما سيأتي بيانه ) . – ثم ذكر ما تيسر منها - .
(4) : عدم فهم المخالفين لحقيقة العبادة :
إن المناوئين لدعوة الشيخ يعترفون أن الشرك الذي حرمه الله - عز وجل – هو صرف " العبادة " لغير الله ، ولكنهم يُخرجون بعض أفرادها ؛ كالدعاء أو الذبح أو النذر . وهم بهذا وقعوا في جهل وتناقض ؛ جهلٌ بحقيقة العبادة ومعناها ، وتناقضٌ عندما فرقوا بين المتماثلات .
وفي هذا يقول الشيخ عبدالله أبا بطين – رحمه الله - عن أحد هؤلاء الخصوم : ( فإنه مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله هو الشرك في العبادة ، لا يعرف حد العبادة وحقيقتها ، وربما قال : العبادة التي صرفها لغير الله شرك : الصلاة والسجود . فإذا طُلب منه الدليل على أن الله سمى الصلاة لغيره أو السجود لغيره شركًا ، لم يجده ، وربما قال : لأن ذلك خضوع ، والخضوع لغير الله شرك ! فيقال له : هل تجد في القرآن أو السنة تسمية هذا الخضوع شركًا ؟ فلا يجده . فيلزمه أن يقول : لأنه عبادة لغير الله . فيقال : وكذلك الدعاء والذبح والنذر عبادات ، مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب : من الذل والخضوع والحب والتعظيم والتوكل والخوف والرجاء وغير ذلك ) .
(5) : خلط المناوئين للشيخ بين " التوسل " البدعي والشركي ! ثم افتراؤهم على الشيخ أنه يُكفر بالأول !
إن المناوئين لدعوة الشيخ يخلطون بين " التوسل " البدعي المختلف فيه ، وبين " الاستغاثة " أو " الشفاعة " الشركية ؛ تلبيسًا على المسلمين ؛ فيسمون الثاني باسم الأول ؛ ثم يضيفون لهذا الخلط والتلبيس افتراء وبهتانًا على الشيخ أنه يُكفر " المتوسل " ! فيظن المسلمون ويصدقون أنه يُكفر من وقع في التوسل المختلف فيه ، وهذا ما يريده الخصوم !
- يقول الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف في رسالته " دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب " : ( لقد استغل الخصوم هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل، فقلبوا الحقائق، وأجازوا دعاء الموتى، والاستغاثة بهم باسم التوسل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بالأنبياء والصالحين!
إن الشيخ الإمام كفّر من استغاث بالأموات ؛ سواء كانوا أنبياء أو أولياء ولو سُميت تلك الاستغاثة توسلاً، فالعبرة بالحقائق والمعاني وليست بالأسماء والمباني، فالتوسل عند عبّاد القبور يطلقونه على الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منهم –كما تقدم-. وأما دعوى أن الشيخ كفّر من توسل بالصالحين، بمعنى سؤال الله بجاه هؤلاء الصالحين فقد أجاب الشيخ الإمام على تلك الدعوى - رداً على ابن سحيم - فقال: " فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر وذكر الشيخ الإمام منها- قوله: أني أكفر من توسل بالصالحين، وجوابي أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم" .
ووضح حفيده الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب الفرق بينهما بقوله: " اعلم أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه، فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وادخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فهذا بدعة ليس شرك، وسؤاله ودعاؤه هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة وأنا في كرب شديد، فرّج عني، واستجرت بك من فلان فأجرني ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه من الملة؛ لأنه صرف حق الله لغيره؛ لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله فافهم ذلك " .
وقال الشيخ عبدالله أبابطين – رحمه الله – : " فإذا علم الانسان وتحقق معنى الإله وأنه المعبود ، وعرف حقيقة العبادة ، تبين له أن من جعل شيئًا من العبادة لغير الله فقد عبده واتخذه إلهًا ، وإن فر من تسميته معبودًا أو إلهًا ، وسمى ذلك توسلا وتشفعًا أو التجاءً ونحو ذلك . فالمشرك مشرك شاء أم أبى ، كما أن المرابي مرابٍ شاء أم أبى ، وإن لم يُسمّ ما فعله ربًا ، وشارب الخمر شاربٌ للخمر وإن سماها بغير اسمها ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يأتي ناسٌ من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها " ، فتغيير الاسم لايُغير حقيقة المسمى ولايُزيل حكمه " .
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن – رحمه الله - : " تلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين ، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية ، والألفاظ اللغوية ؛ فسموا الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء وحُسن اعتقاد في الأولياء وتشفعًا بهم واستظهارًا بأرواحهم الشريفة ؛ فاستجاب له صبيان العقول وخفافيش البصائر ، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق " .
وقال - أيضًا - : " اعلم أن مسألة الله بجاه الخلق نوع، ومسألة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله نوع آخر، فمسألة الله بجاه عباده منعها أهل العلم، ولم يُجزها أحد ممن يعتد به، ويقتدى به ؛ كالأئمة الأربعة، وأمثالهم من أهل العلم والحديث، إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيّده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع يا محمد الحديث ، قال ابن عبدالسلام : إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم ؛ كما لا يخفى على أهل الصناعة. إلى أن قال الشيخ عبداللطيف: وبالجملة فهذه المسألة نوع، ولا يخرج بها الإنسان عن مسألة الله، وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله... فسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شركٌ جلي، ولو قال : يا ولي الله اشفع لي ، فإن نفس السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى : يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا شرك ".
وقال الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - : " المسألة الثالثة ؛ وهي مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهو أن يقول القائل : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهي مسألة مشهورة ، والكلام فيها معروف .. – إلى أن يقول – ونحن وإن قلنا بالمنع من التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ أو نحوه لما نعتقده من أصحية المنع ، فنحن مع ذلك لا نشدد في ذلك على من فعله مستدلاً بالحديث ؛ فضلا عن أن نكفره ، كما ينسبه إلينا من لم يعرف حقيقة ما نحن عليه " .
وقال الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله – رادًا على أحد الشانئين: " قد كان من المعلوم أن الوهابية لا يقولون إن التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه وحقه وزيارة قبره الشريف شركٌ بالله ، بل هذا من الكذب الموضوع على الوهابية ، وهم – ولله الحمد – فيما يقولون وينتحلون على صراط مستقيم ، ولايقولون بجهل الجاهلين وانتحال المبطلين الزائغين عن الدين القويم ، بل يقولون : إن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحرمة المحدثة في الإسلام ؛ لأنه لم يرد نصٌ عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا من بعدهم من سلف الأمة وأئمتها المهتدين ... " ثم وضح – رحمه الله – الفرق بين التوسل البدعي والاستغاثة الشركية .
وقال الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ : " التوسل بالأموات قسمان : قسم محرم لا يجوز ؛ كأن تقول : اللهم إني أتوسل إليك بفلان ، وقسم شرك لا يُغفر ؛ كأن يقول القائل : يا سيدي يا بدوي أنا في حسبك ، أنا في عرضك ، اشفع لي ، يا سيدي الحسين اشفع لي ، فهذا شرك ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، ولا تُطلب إلا منه " .
وأختم بجواب رائع للشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ – وفقه الله – يجلي هذا الأمر الذي حاول المخالفون الخلط فيه :
سؤال: ما الفرق بين التوسل والشفاعة، نرجو التوضيح وجزاكم الله خيراً.
الجواب: التوسل هو اتخاذ الوسيلة، والوسيلة: هي الحاجة نفسها، أو ما يوصل إلى الحاجة ، وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع، يعني: بطلب شفاعة؛ بمعنى أنه يريد أن يصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بالاستشفاع، وقد يروم التوصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بغير الاستشفاع؛ فيتوسل مثلاً بالذوات ؛ فيسأل الله بذات فلان، أو بجاهه، أو بحرمته، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد –بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- ، أو يقول: اللهم إني أسألك بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو بالولي الفلاني، أو بأهل بدر، أو بأهل بيعة الرضوان، أو بغيرهم. فهذا هو الذي يسمونه توسلاً، وهذا التوسل معناه: أنه جعل أولئك وسيلة، وأحياناً يستعمل في التوسل لفظ: الحرمة، والجاه، فيقول: أسألك بحرمتهم، أو أسألك بجاههم، ونحو ذلك .
أما الاستشفاع: فهو أن يسألهم الشفاعة أي: يطلب منهم أن يشفعوا له.
فتحصل من ذلك: أن التوسل يختلف عن الاستشفاع، في أنَّ المستشْفِع: طالب للشفاعة، وقد عُلم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل – بحسب عُرْف الاستعمال- فإنه يسأل الله، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحدٍ.
فالاستشفاع: سؤال لغير الله، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان، أو بحرمته، أو بجاهه: وكل هذا لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء؛ ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء، كالميت، أو الغائب، أو نحوهما: فهو شرك أكبر؛ لأنه طلب ودعاء لغير الله.
فالتوسل –بحسب العرف- هو من البدع المحدثة، ومن وسائل الشرك، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.
لكنْ الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون جميع عباداتهم الشركية –من طلب الشفاعة، والذبح، والنذر، والاستغاثة بالموتى، ودعائهم- توسلاً ، وهذا غلط في اللغة، والشرع معًا ، فالكلام في أصله لا يصح؛ فإن بين التوسل والشفاعة فرقاً من حيث مدلول المعنى اللغوي، فكيف يسوَّى بينهما في المعنى؟! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلاً فهذا غلط من عندهم، لا يتحمله الشرع، ولا تتحمله اللغة ) .
(6) : خصوم الدعوة كفّروا الشيخ – رحمه الله – وأتباعه ، وبادروهم بالقتال :
وهذا ما لا يذكره المناوئون للدعوة عند حديثهم عنها ! لأنه يناقض ويعارض ما يحاولون إشاعته . وقد اعترف بهذا المؤرخون.
- لقد اتخذ أشراف مكة موقفاً عدائياً من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية على حد سواء منذ البداية. فقد سجن أحد أولئك الأشراف الحجاج التابعين للدولة السعودية سنة (1162هـ) .
وأصدر قاضي الشرع في تلك البلدة المقدسة فتوى بتكفير الشيخ محمد وأتباعه.
ولذلك مُنِعوا من أداء الحج سنوات طويلة. وكم كانت فرحة الشيخ عظيمة عندما تلقى رسالة من الشريف أحمد بن سعيد عام (1185هـ)، طالباً منه بعث عالم نجدي لشرح الدعوة التي نادى بها. وقد أرسل إليه الشيخ تلميذه عبدالعزيز الحُصيِّن. وبعث معه رسالة تنبئ عبارتها بما كان يختلج في نفسه من مشاعر طيّبة تجاه ذلك الشريف، وما كان يملأ جوانحه من آمال في مناصرته لدعوة الحق. قال الشيخ:
"بسم الله الرحمن الرحيم. المعروض لديك، أدام الله فضل نِعَمه عليك، حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد - أعزَّه الله في الدارين، وأعزَّ به دين جده سيد الثقلين-، أن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمَّل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها، وعداوة من خرج عنها. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور... فلا بدَّ من الإيمان به - أي بالنبي صلى الله عليه وسلم- ، ولابد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وشرَّفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم".
على أن هذه الرسالة اللطيفة لم تُجن منها الثمار المرجوَّة؛ ذلك أن الشريف أحمد نفسه لم يبق في الحكم أكثر من سنة، فتلاشى ما دار في ذهن الشيخ من أمل، واستمر منع أنصاره من أداء الحج، ومع مرور الأيام لم يكتف أشراف مكة بذلك المنع؛ بل بدأوا بمهاجمة الأراضي النجدية التابعة للدولة السعودية عام (1205هـ). وكانت النتيجة أن انتصر السعوديون في نهاية المطاف على أولئك الأشراف ؛ حتى دخلت الحجاز تحت حكمهم. ولم يكن موقف زعماء بني خالد من دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية أقل عداوة من موقف أشراف مكة .
- يقول زيني دحلان القبوري : " وكان أهل الحرمين يسمعون بظهورهم - أي الشيخ محمد وأتباع دعوته - في الشرق ، وفساد عقائدهم ، ولم يعرفوا حقيقة ذلك، فأمر مولانا الشريف مسعود أن يناظر علماء الحرمين العلماء الذين أرسلوا ، فناظروهم فوجدوهم ضحكة ومسخرة كحمُر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم ، فإذا هي مشتملة على كثير من المكفرات ، فبعد أن أقاموا عليهم البرهان والدليل أمر الشريف مسعود قاضي الشرع أن يكتب حجة بكفرهم الظاهر ؛ ليعلم به الأول والآخر ، وأمر بسجن أولئك الملاحدة الأنذال، ووضعهم في السلاسل والأغلال فسجن منهم جانباً وفرَّ الباقون ووصلوا إلى الدرعية ، وأخبروا بما شاهدوا ،فعتى أمرهم واستكبر، ونأى عن هذا المقصد وتأخر، حتى مضت دولة الشريف مسعود ، وأقيم بعده أخوه الشريف مساعد بن سعيد، فأرسلوا في مدته يستأذنون في الحج ؛ فأبى وامتنع من الإذن لهم ، فضعفت عن الوصول مطامعهم ،فلما مضت دولة الشريف مساعد وتقلد الأمر أخوه الشريف أحمد بن سعيد أرسل أمير الدرعية جماعة من علمائه كما أرسل في المدة السابقة.
فلما اختبرهم علماء مكة وجدوهم لا يتدينون إلا بدين الزنادقة ؛ فأبى أن يقر لهم في حمى البيت الحرام قرار ،ولم يأذن لهم في الحج بعد أن ثبت عند العلماء أنهم كفار، كما ثبت في دولة الشريف مسعود.
فلما أن ولي الشريف سرور أرسلوا أيضاً يستأذنونه في زيارة البيت المعمور؛ فأجابهم: بأنكم إن أردتم الوصول آخذ منكم في كل سنة وعام صرمة مثل ما نأخذها من الأعاجم وآخذ منكم زيادة على ذلك مائة من الخيل الجياد ،فعظم عليهم تسليم هذا المقدار ، وأن يكونوا مثل العجم ، فامتنعوا من الحج في مدته كلها، فلما توفي وتولى سيدنا الشريف غالب أرسلوا أيضاً يستأذنون في الحج ، فمنعهم وتهددهم بالركوب عليهم ،وجعل ذلك القول فعلاً ،فجهز عليهم جيشاً في سنة ألف ومائتين وخمسة، واتصلت بينهم المحاربات والغزوات إلى أن انقضى تنفيذ مراد الله فيما أراد ، وسيأتي شرح تلك الغزوات والمحاربات بعد توضيح ما كانوا عليه من العقائد الزائغة التي كان تأسيسها من محمد بن عبدالوهاب.
إلى أن يقول معترفًا : " والحاصل أنه – أي الشيخ محمد - لبَّس على الأغبياء ببعض الأشياء التي توهمهم بإقامة الدين، وذلك مثل أمره للبوادي بإقامة الصلاة والجماعة ومنعهم من النهب، ومن بعض الفواحش الظاهرة كالزنا واللواط، وكتأمين الطرق والدعوة إلى التوحيد، فصار الأغبياء الجاهلون يستحسنون حاله وحال أتباعه " .
- وقال الشيخ محمد - رحمه الله – في رسالته لأهل المغرب : " وأما ما صدر من سؤال الأنبياء، والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها واتخاذها أعياداً، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة، حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" رواه مسلم
وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد، أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم، من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً: أنه بعث علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه، ولا تمثالاً إلا طمسه؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا: هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا، وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا ، حتى نصرنا الله عليهم، وظفرنا بهم ، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه، بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ؛ ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) " .
- وقال الشيخ عبد الله بن الإمام محمد – رحمهما الله - : "وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا، وخرّجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غُلبوا وقُهِروا، فعند ذلك أذعنوا وأقروا بعد الإنكار" .
- وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ، مقرراً منهج جده –الإمام محمد- في مسألة القتال، ومزيلا للشبه في ذلك:" الشيخ لم يبدأ أحداً بالقتال، بل أعداؤهم الذين ابتدأوه بذلك، وقتاله كان من باب الدفع والمجازاة على السيئة بمثلها، وما حدث بعده أو في وقته من خطأ أو تعد، فلا يجوز نسبته إليه، وأنه أمر به أو رضيه، وقد جرى لأسامة بن زيد في دم الجهني، وجرى لخالد بن الوليد في دماء بني جذيمة، وأموالهم ما لا يجهله أهل العلم والإيمان ، وذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد برئ منه وأنكره، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، وقال لأسامة "أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة؟" .
ومن أشكل عليه أمر القتال في زمن الشيخ، وعلى دعوته، فهو إما جاهل بحال الأعداء وما قالوه في الإسلام، وما بدلوه من الدين، وما كانت عليه البوادي والأعراب من الكفر بآيات الله، ورد أحكام القرآن، والاستهزاء بذلك، والرجوع إلى سوالف البادية، وما كانت عليه من العادات والأحكام الجاهلية... أو هو جاهل بما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، لا شعور له بشيء من ذلك، ولا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ؟
وبالجملة: فالواجب أن يتكلم الإنسان بعلم وعدل، ومن فاته العلم، فحسبه السكوت، إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن خلع ربقة الدين من عنقه، فليقل ما شاء، والله بما يعملون بصير " .
- وقال الدكتور ناصر العقل عن الشيخ وأتباع الدعوة :
( 1- إن خصومهم هم البادئون بالقتال ؛ بإعلان الحرب المسلحة وغير المسلحة على الدعوة ودولتها وأتباعها، بل أعلنت قوى الشر استعمال القوة والقتال للشيخ وأتباعه قبل وصوله الدرعية وقبل أن يكون لهم كيان ،حيث هدده سليمان بن محمد في الأحساء (من بني خالد) ، وأنذر عثمان بن معمر -أمير العيينة- إن لم يتخذ موقفاً حازماً ضد الشيخ الإمام ، وكذلك فعل ابن شامس العنـزي. ( انظر : حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، لخزعل ، ص 14) . ثم لما استقرت الدعوة في الدرعية بدأها بالحرب دهام بن دواس أمير الرياض آنذاك.
2- إن الخصوم كانوا كثيراً ما يغدرون بأتباع الدعوة من الدعاة القضاة والعلماء وطلاب العلم والمعلمين الذين كان يبعثهم الشيخ محمد والولاة والمشايخ –المؤيدين للدعوة- للقرى والبادية والأقاليم لتعليم الناس دينهم وإجراء الأحكام الشرعية بينهم ،بل كثيراً ما يعلنون العصيان على الحاكم الإمام محمد بن سعود، وينقضون البيعة والعهد، ويخرجون على الجماعة والإمام، وهذا ما يُحرمه الإسلام، ويأمر بتأديب من يفعله.
3- وكان حكام الحجاز غالباً يعلنون العداء لدعوة التوحيد وأتباعها ، وكانت عداوتهم متنوعة عقدية وسياسية وإعلامية ثم عسكرية، وأحياناً يقتلون بعض العلماء والدعاة ، بل والرسل الذين يبعثهم أهل الدعوة إليهم.
4- وكانوا يمنعونهم من حقوقهم المشروعة ؛ كإبلاغ الدعوة، وكأداء فريضة الحج، فقد منعوهم منه سنين طويلة ثم أذنوا فيه سنة (1197هـ)، ثم الشريف غالب منعهم من الحج مرة أخرى منذ سنة (1203هـ) وما بعدها ، ثم غزا معتدياً، فقد بدأ الشريف غالب وغيره من حكام الحجاز الحرب على الدعوة وأتباعها قبل أن يبدؤوهم ، وأعلن الحرب المسلحة ضدهم، وقد اعترف خصوم الدعوة بذلك وذكره مؤرخوهم معتزين به. ( انظر : خلاصة الكلام لدحلان ، ص 228-229) .
وعلى هذا ؛ فإنه عند التحقيق العلمي المتجرد يثبت قطعاً أن ما يقال عن الإمام وعلماء الدعوة وحكامها (آل سعود) وأتباعها حول التكفير واستحلال قتال المسلمين ودمائهم كلها مما لا يصح ،أو مما قد يكون له وجه شرعي معتبر قام عليه الدليل الشرعي، ذلك أن تكفير من يستحق التكفير شرعاً ، وسب من يستحق السب شرعاً ، ليس من التكفير والسب المذموم ولا القسوة، بل مما هو مطلوب شرعاً في الدين الإسلامي بشروطه وضوابطه التي يعرفها الراسخون في العلم.
إذن فقد ثبت أنهم لم يبدأوا القتال ولم يقاتلوا ابتداء ، إنما بدأ القتال خصومُهم.
ثم إنه من الطبيعي أن اختيار منهج القوة والحزم والقتال عند الضرورة هو الحل الأمثل في كثير من الأحوال ،ومنها الحال التي وصلت إليها الدعوة مع خصومها. ونظراً لقوة الباطل والهوى وتمكنه من قلوب كثير من الناس وحياتهم لم تقبل نفوسهم الحق ولم تذعن لأهله. كما أن الناظر لحال كثيرين من الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها تشنيعاً على الدعوة وأتباعها في شبهة التكفير يجد العجب من تحيزهم ضد السنة وأهلها في هذه المسألة وغيرها ، وإغفالهم لأهل البدع الخُلص الذين يكفرون خيار الأمة؛ فيكفرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزاوجه أمهات المؤمنين، ويكفرون السلف الصالح.
بل إن أكثر مزاعم التكفير والتشدد التي ألصقت بالدعوة وإمامها حدثت من الرافضة الذين يكفرون خيار الأمة ويستنقصونهم، ومن أشياعهم الذين يشاركونهم في بدع المقابرية والقباب والمشاهد والمزارات البدعية، والطرق الصوفية والموالد والأذكار المحدثة، ومن المعلوم لدى كل باحث ومحقق: أن أصل هذه البدع ومنشأها كان من مكفّرة الصحابة والسلف الصالح، فأين العدل والإنصاف والتحقيق الذي يدّعونه؟ وأين الغيرة على الحق والدين وعلى الأولياء والصالحين التي يزعمونها؟ وهم يهينون الصالحين ببدعهم. وأين النصح للمسلمين الذي يتظاهرون به؟ وهم يروجون البدع وينصرونها " .
- ثم نقل عن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي قوله في تاريخه عن جيش إبراهيم باشا عدو الدعوة : " ولما وصلوا بدراً واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف، وبها خيار الناس، وبها أهل العلم الصلحاء : نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم فكانوا يبيعونهم من بعضهم لبعض ، ويقولون :هؤلاء الكفار الخوارج" ! ) .
- ويقول الشيخ فوزان السابق : ( إن الوهابين لم يبدأوا أحداً بالقتال، ولم يعتدوا على جيرانهم بالحجاز والعراق، حتى غزاهم جيرانهم في عقر دارهم، ومنعوهم من حج بيت الله الحرام، حتى آل الأمر إلى تجذيب النساء مع الرجال من تحت أستار الكعبة في وقت الشريف مسعود وبعده، فلما حيل بينهم وبين أداء ركن من أركان الإسلام تعين عليهم الجهاد. فلما مكن الله لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، لا كما يقول المعترض المفتري .
وهذا ما ذكره العلامة محمود فهمي المصري في كتابه " البحر الزاخر " . قال رحمه الله تعالى: " ومع ما كان عليه الوهابيون من الحروب والمبارزات في بلاد بالعرب لم يعتدوا على حقوق الحكومتين المجاورتين لهم، وهما حكومة بغداد والحجاز، وكانت قوافل الحجاج تمر من وسط أراضيهم من غير أن يحصل لأي قافلة ضرر أو انزعاج، وكانوا في أحوال أخوية ودية مع الشريف سرور شريف مكة، وفي سنة 1781 بعد الميلاد استحصلوا على رخصة منه في أداء حجهم وطوافهم بالكعبة، فتولد من زيادة قوتهم ونفوذ شوكتهم اشتعال نار الغيرة والحسد في قلب الشريف غالب، وفي ظرف بضع سنين من تقلده الحكومة، وتوظفه شريف مكة بعد الشريف سرور: أعلن حرباً على الوهابية، وكانت طرائق هذا الحرب مثل طرائق حرب البدو، متقطعاً بهدنات صغيرة قصيرة المدة، ولما انتظمت مخابرات الشريف غالب مع الدولة التركية العثمانية، لم يهمل أدنى طريقة يمكنه إجراءها في تمكين الدولة العثمانية من إدخال عساكرها في بلاد العرب لأجل الوقوع بالوهابيين، إلا وأجراها، وادعى أنهم من الملحدين الكافرين ) .
(7) : واقع أهل نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - :
ظن بعض الناس أن علماء الدعوة ومؤرخيها بالغوا في وصف حال نجد قبل قيام الشيخ محمد – رحمه الله – بدعوة التوحيد ؛ من حيث انتشار الممارسات البدعية والشركية ، وزعموا أن هذا من المبالغات المقصودة المخالفة للواقع لأجل مدح الشيخ أوالدعوة ، والتماس العذر له فيما قام به ! ثم فهم بعضهم من تلك العبارات أن الشيخ أو علماء الدعوة يُكفرون بالعموم ! وهذا جهلٌ ومغالطة . ولو أنصف هؤلاء لعلموا أن ما نُقل من المعارضة والمخاصمة للشيخ – سواء بواسطة التآليف أو القتال – دليلٌ واضح على حال البلاد قبل دعوة الشيخ ، وإلا فلماذا هذا الاستنكار الواسع لها والمدافعة ، لو كان الناس ذاك الوقت على حالٍ مستقيمة مرضيّة ؟! كيف وقد شهد لهذا الحال الكئيب مؤرخو تلك الفترة ممن هم أوثق من هؤلاء جميعًا ؟!
لقد اعترف علماء من نجد بالخلل العقدي الذي تلبّسوا به، وأن الله تعالى هداهم بفضل هذه الدعوة المباركة، ومن ذلك أن الشيخ عبد الله بن عيسى - قاضي الدرعية - يقول: ( لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطّخ بالشرك وهو لا يشعر فقد مضى أكثر حياتي، ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه) . تاريخ ابن غنام 143/2.
فإذا كان هذا حال العلماء، فما بالك بالعامة والدهماء ؟
بل لقد اعترف ( بوجوده ) العلماء المناوئون للدعوة ، ولكنهم يُخالفون الشيخ وعلماء الدعوة في وصفه بالشرك ! ، فلم يقل واحدٌ منهم للشيخ أو علماء الدعوة – مثلاً - بأنه يكذب أو يُبالغ في وصف حال أهل نجد قبل الدعوة ، ولكنهم يُنازعون في الحكم على تلك الأقوال والأفعال ، هل هي شركٌ أو لا ؟ وهذه مسألة أخرى .
قال الشيخ عبدالعزيز بن فيصل الراجحي – وفقه الله – في رده على واحدٍ من المشككين : ( فَإِنْ كان الشِّركُ عنده ـ كما هو عند أئمَّةِ الإسلامِ ، وأعلامِه الأعلام ـ صَرْفُ شيءٍ مِن العباداتِ المُستحقَّةِ للهِ جَلَّ وعلا لغَيرِه ، كدُعاءِ الأمواتِ ، والاستغاثةِ بهم ، والذَّبحِ والنَّذرِ لهم ، ونحو هذِه الأمورِ المعروفةِ في نَجْدٍ وغَيرِها : فقد كانتْ هذه موجودةً ظاهرةً معروفةً . بَلْ هي مِن الأُمور الُمسَلَّمَةِ الُمستقرَّةِ في حالِ نَجْدٍ وأهلِها قبل دعوةِ الشَّيخِ محمَّد بن عبد الوهَّاب رحمه الله . وما قام الشَّيخُ محمَّدٌ بدعوتِه الإصلاحيَّةِ ، وأَلَّفَ مُؤلَّفاتِه ورسائلَهُ الكثيرة ، وحُوْرِبَ وأُوْذِيَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ ذلك ، ولمحاربتِه إِيَّاهُ ، وتحذيرِ النَّاسِ منه . وعليه ناصرَهُ الإمامُ الُمظفَّرُ محمَّد بن سعود رحمه الله وعاهدَه ، حَتَّى مَكَّنَ اللهُ لهما ما لم يُمَكِّنْ لغَيرِهما ، فَمِنْ حُكْمِ «الدِّرعيَّة» إلى حُكْمِ الجزيرةِ ، تحقيقًا لوَعْدِ اللهِ عبادَهُ الُموحِّدِينَ في قَولِه : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ، وكانوا مِـمَّنْ وَصَفَهُمُ اللهُ بقولِه ( الَّذِيْنَ إِنْ مَكَنَّهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوْا الصَّلَوةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوْا بِالَمعْرُوْفِ وَنَهَوْا عَنِ الُمنْكَرِ ) .
وعلى هذا سار الأئمَّةُ مِن آل سعود ، ومِن العلماءِ الرَّبَّانيِّين َ مِنْ أبناءِ الشَّيخ محمَّدٍ وتلاميذِه وغَيرِهم ، مِـمَّنْ ناصرَ دعوة الشَّيخِ محمَّدٍ ، وأعلنَ صِدْقَها وبِرَّها ، وتبرَّأَ مِن مُناوئيها ومُخالفِيها ، وضلالاتِهم .
وهذا مِـمَّا لا يستطيعُ التَّشكيكَ فيه حتَّى الحمقى ، فَإِنَّ مُؤلَّفاتِ الشَّيخ محمَّدٍ ورسائلَهُ الكثيرة ، ورسائلَ ومُؤلَّفاتِ أبنائِه وتلاميذِهم شاهدةٌ على ذلك ، دالَّةٌ عليه دَلالةَ الشَّمسِ على النَّهار. وإِنْ أراد بالشِّركِ غَيرَ ما ذكرنا : فَلْيُبَيِّنْهُ لنا ) . ( انظر مقاله : " نجد والشرك رُغم أنفك " على شبكة الأنترنت ، ومقال الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف : " علماء ما قبل الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم يُنكروا البدع والشركيات " جريدة الرياض ، العدد 14128 ) .
قلت : وأما احتجاج المشككين بوجود علماء شرعيين قبل الدعوة ؛ فيُقال في رده : إن علماء الدعوة - كالشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في رسالته عن أحوال البلدان قبل الدعوة ، ( في الدرر السنية 1/373-439 ) ، ومؤرخيها ؛ كابن غنام وابن بشر في تاريخيهما - عندما يتحدثون عن انتشار البدع والشركيات فإنه لا يستلزم من كلامهم هذا : جهلهم بوجود العلماء - بالمعنى العام - قبل الدعوة ، ممن يشتغلون بالفتيا أو القضاء أو الإمامة ، فهذا لا يجهله العامة فضلاً عن العلماء والمؤرخين ، ولكن وجود هؤلاء العلماء المُشار إليهم لا ينفي ما ذكره أئمة الدعوة من انتشار البدع والشركيات في عصرهم ؛ لأنهم لا يخرجون عن ثلاثة أصناف :
1- إما عالمٌ مبتدع ، يدين بالعقيدة الأشعرية التي لا تُقيم لتوحيد الألوهية والعبادة وزنًا ، وإنما همها إثبات وجود الخالق ، وتوحيد الربوبية الذي لم يُنكره حتى الكفار ! ، ولهذا فهؤلاء " العلماء " لايرون في تلك الممارسات البدعية أو الشركية انحرافًا ! إن لم يؤيدوها .
2- وإما عالم " مداهن " ، رضي بالمنصب والجاه ، رغم علمه بانحراف كثير من العامة ، لكن يمنعه ماسبق ، وهؤلاء وصفهم الإمام في إحدى رسائله في ( الدرر السنية 8 / 78 ) بأنهم " لحىً فوائن " ! - أي لانفع منها - .
3- وإما عالم " جبُن " عن مخالفة واقعه وأبناء عصره ، فرضي بالانزواء أو السكوت .
إذًا .. فعلماء ومؤرخو الدعوة ليس في كلامهم عن أحوال نجد " مبالغة " - كما ظن البعض - ؛ لأنه لا تعارض عندهم بين ما يسميه هؤلاء - علمًا وعلماء - ويعنون المعنى العام ، وبين وجود الانحرافات المستطيرة بين العامة والبادية ، بل وبعض مبتدعة العلماء .
فمن الخطأ البين بل السذاجة أن يُشغل هؤلاء أنفسهم لإثبات " المبالغة " المزعومة بمجرد وجود مخطوطة كتبها أحد العلماء النجديين قبل الدعوة ! أو وجود العالم الفلاني الذي ألف في الفقه أو المواريث ! حتى وصل الحال ببعضهم - لكي يُثبت هذه المبالغة - أن يستشهد بقدوم " الأوزاعي " في القرن الثاني أو الثالث لمنطقة اليمامة للتتلمذ على المحدث يحيى بن أبي كثير - رحمهما الله - !! و لا أدري ما علاقة هذا بدعوة الشيخ وماقبلها ؟!
قلت : وليُعلم بعد هذا : أن وصف انتشار الجهل المنتشر والمخالفات الشرعية لا يعني تكفير الناس بالعموم - كما يدعي البعض - ، فشتان بين الأمرين . وهذا يُدركه أهل العلم المنصفون الذين يُنزلون الألفاظ منزلها المناسب ، دون تزيد أو تضخيم . ويلزم هؤلاء المدعون أن يحكموا بهذا الحكم الشنيع على كل من وصف حال الأمة – في فترة من فترات الجهل والإعراض عن دين الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم – بأنه يُكفر الناس . فهل يلتزمون هذا ؟ لا أظن ذلك ؛ لأن مؤلفات العلماء – سنيّهم ومبتدعهم – لا تخلو منه .
مثلا :
مثلا :
ما قولهم فيما قاله ابن حجر الهيتمي في مقدمة رسالته " الزواجر عن اقتراف الكبائر " : " .. دعاني ذلك مع ما تفاحش من ظهور الكبائر ، وعدم أنفة الأكثر عنها في الباطن والظاهر ، لما أن أبناء الزمان وإخوان اللهو والنسيان قد غلبت عليهم دواعي الفسوق ، والخلود إلى أرض الشهوات والعقوق .. الخ ".
وماقولهم فيما أخبر به الشوكاني – رحمه الله – عن أبناء عصره عندما قال : " ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالا ؛ فليخبرنا ما معنى ما يسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم : يا ابن العجيل ، يا زيلعي ، يا ابن علوان ، يا فلان بن فلان ، وهل يُنكر هذا منكر ؟ أو يشك فيه شاك ؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم ، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه ، وفي كل مدينة جماعة منهم ، حتى إنهم في حرم الله ينادون : يا ابن عباس ، يا محجوب ، فما ظنك بغير ذلك ؟ " . ثم قال : " واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرًا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركًا ، قد يخفى على كثير من أهل العلم ؛ وذلك لا لكونه خفيًا في نفسه ، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر ، وكونه قد شاب عليه الكبير ، وشب عليه الصغير ، وهو يرى ذلك ويسمعه ، ولا يرى ولا يسمع من ينكره .. " ؟
وما قولهم فيما ألفه العلماء من كل المذاهب في التحذير من البدع والشركيات التي أخبروا عن انتشارها في عصرهم ؛ كأبي شامة وابن وضاح والشاطبي والسيوطي وعلي محفوظ والقاسمي وغيرهم ؟
(8) : معرفة منهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – في مسائل التكفير:
بعد القواعد والتمهيدات السابقة ، يُنتقل مع المناوئين إلى معرفة منهج الشيخ محمد في مسألة التكفير ، وأحكامها ، ليتم الحوار على بينة ، ودون تزيد أو كذب أو تحريف ، وهذا يكون من خلال الاطلاع على أقواله مباشرة ، وأقوال علماء الدعوة من بعده ، دون وسيط أو ناقل . وهذا متيسر الآن – ولله الحمد – بعد انتشار مؤلفاته ومؤلفات أئمة الدعوة ، ويجد المهتم مُلخصها في رسالة " منهج الإمام محمد بن عبدالوهاب في مسألة التكفير " ؛ للدكتور أحمد الرضيمان – وفقه الله - على هذا الرابط ، أو رسالة " دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله " ؛ للدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف وفقه الله - ، على هذا الرابط
والله الهادي ..
نشر :