ورقات حول الدرر السنية

الدكتور محمد السعيدي

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.  وبعد:

يتداول الناس هذه الأيام الحديث عن كتاب الدرر السنية ماله وما عليه ، وخاصة ما يتعلق باتهام بعضهم هذا الكتاب بأنه وراء ما ابتُلِيَ الناسُ به هذا الأوان من فتنة الغلو في التكفير وما نشأ عنه من ظهور الجماعات المتطرفة التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية . 

وعلى أني لا أرى أن يُشغَل الناسُ بهذه القضايا التي لا تزيدهم في دينهم شيئاً ، بل ربما نقصته ،وهذا ما يوصل إليه عادةً الخوضُ في عويص مسائل العلم  مع قلة البضاعة وتهافت المُقِلِّين ، إلا أن الأمر لما اتسع رأيت أن أكتب هذا التعليق ، وأتجنبَ فيه الغوص في القضايا العلمية الدقيقة وأتحدث من منطلق السجية التي أظنها لن تَثْقُل على من ثقلت عليه دقائق العلم .

وأَعْلَمُ أن عدداً من أساتذتنا وإخواننا كتبوا في هذا الموضوع  ما هو أتم في سياقه ومسلك بحثه مما أكتبه ، لكن أهمية المسألة وانتشار طرحها عند من يجيل النظر في الحقائق ومن لا يفعل دعتني إلى الكتابة وإن تطابقت الأفكار والآراء والنقولات .

1- إن أعظمَ كتابٍ وأحكمَه وأبلغَه وأهداه وأرشده ، كتابُ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومع ذلك يستدل منه الغالي المكفر والمفرط المرجئ ، والقدري والجهمي ، وذلك كله حين لا يردون متشابهه إلى محكمه ، ولا يعتبرون أصول الاستدلال وحقائق معاني الكلام ، وحين يغلب المرض على قلوبهم ويبتغون الفتنة كما قال تعالى : 
 {هو  الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

ومع هذا يحرُمُ أن نقول: إن القرآن هو سبب البدع ومرجع المبتدعين ، وإذا صدق هذا على القرآن فهو على ما دونه من القول أصدق. 
فأهل الغلو حين ينقلون عن الدرر السنية فهم ينقلون أيضاً عن القرآن ، وكان أسلافهم من الحرورية وأهل النهروان حينما ناظروا علياً وابن عباس رضي الله عنهما إنما ناظروهم بالقرآن . 

2- قبل أن أنسب فكر الغلاة وأهل الخروج إلى الدرر السنية أو أنفي ذلك عنها ، سوف أُحاول تقدير الوضع لو لم تُؤَلَّف الدرر السنية من أساسها ، هل سيكون هناك خوارج وغلاة أم لا؟ 
 والذي يبدو لكل متابع للتاريخ : أن المتمردين على الحكام تنطعاً باسم الدين ظهروا في أعدل زمان وأرغده عيشاً وأعني عهدَ ذي النورين رضي الله عنه فحصروا بيته في مدينة رسول الله التي حرمها كما حرم الله مكة واستحلوا دمه ، وخرج الخوارج على رابع العشرة المبشرين بالجنة فقطعوا السبيل وأخافوا المسلمين وكفروا رابع الخلفاء الراشدين . 

ولم يزل الغلو في الدين وفتن الخوارج تتوالى في المسلمين في عهد معاوية ومن بعده من خلفاء بني مروان ، هذا والشريعة مقامة وراية الجهاد مرفوعة من الصين وحتى نهر السين ، وظهروا في عهد بني العباس ودولة هارون الرشيد الذي نتغنى اليوم بحجه وغزوه وصوائفه وشواتيه وعزِالإسلام في زمانه وسحابتِه التي أينما أمطرت يأتيه خراجها. 

ولاشك عندي أن تلك العصور في عز الدين أزهى من عصرنا هذا ، فإذا كان الغلاة والخوارج ظهروا فيها بغير درر سنية أو دنية ، فعصرنا أولى بظهورهم من تلك العصور ولو لم  تُجْمَع الدررُ السنية بل ولو لم يولد من كتبوها . 
وهذا مقتضى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرهم مع الدجال . 

3- أياً ما قلنا عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأدبياتها التي جمعتها هذه الدرر ، فإنها  هي الدعوة الوحيدة التي استطاعت تكوين دولة على أساس العصبية للتوحيد لا لغيره في حين فشلت جميع الحركات الإسلامية في فعل ذلك من بعد عهد الخلفاء الراشدين وحتى يومنا هذا ، لا يشاركها هذا الفضل سوى دولة المرابطين في بلاد المغرب التي قامت على أساس إقامة الشرائع وتوحيد الأقطار ، لكنها كانت ضعيفة العَدْوِ في مضمار تخليص الدين من شوائب الشرك والخرافة  ، ولو تتبعنا التاريخ لوجدنا كل الدول التي نشأت بعد دولة الخلفاء الراشدين لم تتكون على أساس العصبية للدين والتوحيد ، فدولة بني أمية على عظمتها وقيامها الجميل بأمر الدين والجهاد تأسست على العصبية للمروانية والمضرية ، ودولة بني العباس على ما فيها من خير وفضل تأسست على أساس النزعة  الشعوبية ثم شعار الرضى من آل محمد ، واختبر التاريخ تجد صحة ما ذكرتُ. 
بل حتى دولة السلاجقة ومن بعدها الدولة الأيوبية ، بالرغم مما قدمتاه من إنجازات للإسلام والمسلمين ، إلا أن أساس قيامهما وعزهما وقوتهما لم تكن دعوة التوحيد . 

وكانت الدولة الغزنوية في عهد محمود بن سبكتكين معظمة للدين والشريعة والجهاد لكن أساس قيامها كان تغلب سبكتكين ومن بعده ابنه محمود على ما تحت ولايتهم من السلطنة السامانية .

ولكون تلك الدول الكثيرة لم تقم على عصبية التوحيد لم يتحقق منها للمسلمين نفع في جانب إحياء السنة وإماتة البدعة وقتل الخرافة ومحو مظاهر الشرك ، بل ظلت البدع رغم توالي الدول القوية في تزايد حتى كاد يذهب رسم التوحيد من كل بلاد الإسلام ، أما هذه الدولة التي قامت على عصبية التوحيد ، فقد نفع الله بها المسلمين كافة ، وانتشر ببركة الله لها وبسببها الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في شتى بقاع المسلمين ، ولا نعرف عصراً من العصور وقف فيه المسلمون في وجه الخرافة ومظاهر الشرك بالله واستناروا بالعقل وبالتوحيد مثل عصور ما بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

4- والعجب ممن يفرق بين الدعوة والدولة ويرى أن ما بينهما إنما هو حِلف يمكن الانفكاك منه ، فمن هذا قوله غافل عن فقه التاريخ لأن مابين الدولة والدعوة هو عصبية النشأة واساسها ، وكل دولة تنفك عن عصبية نشأتها لا تقوم لها بعد ذلك قائمة . 
كيف لا وقد كان أجداد محمد بن سعود أمراء في الدرعية وغيرها قبل الدعوة بقرون ، ولم يتسن لهم التمكين ولم تَنْقَدْ لهم القلوب وترتاض لهم سباع الجزيرة إلا بالدعوة.    

5- الدرر السنية في الأجوبة النجدية ، ستة عشر مجلداً ، لفت نظري أن أكثر من يُعلقون تعصباً عليها في المواقع الإلكترونية لا يعرفونها ، ومنهم من لم يعرف حتى اسمها إلا بعد أن برز الحديث عنها ، فتأكد لي أن كثيراً من السهام التي تتعرض لها هذه المجلدات منشؤها تعصبٌ ضد المنهج أو ضد حامليه ، وجد له متنفساً للظهور فأخرج أنفه ، حاشا قليل جداً من طلبة العلم الذين لهم رأي حقيقي في بعض ما تضمنته تلك من أحكام فهؤلاء أبرزوا رأيهم بكل وضوح ، فإن لم يكن عليهم تثريب في ذلك فأولى أن لا يكون ثَمَّ تثريب على من رد عليهم . 

على أن ضرورة تقبل النقد والمراجعة يستخدمها البعض وتراً يطرقون عليه لتمرير طعونهم ويعنون بذلك  ضرورة التسليم بالنقد الصادر منهم خاصة دون مناقشةٍ، وأما النقدُ الموجه لنقدهم فهو دليلٌ على الانغلاق ورفض وجهة النظر المخالفة. ومحصل كلام هؤلاء أن علامة الانفتاح تلقي كلامهم بالقبول ، ومن هذا مسلكه فهو الأولى بوصف الانغلاق ورفض النقد.

 6مجموع الدرر السنية في الأجوبة النجدية لا يحتاج إلى مراجعة ، بل هو تراث ينبغي للأمانة أن يبقى كما هو ، أما نقد ماحواه من آراء ممن هو أهل لذلك من العلماء وطلاب العلم النابهين ، فهو مالا يَتَحَاشَى عنه كتاب خلا كتابَ الله عز وجل ، لكن ليس من النقد أبداً الجزمُ بكونه مصدر التطرف وأن أتْبَاعَ الدعوة من هيئة كبار العلماء متطرفون يتوافقون مع داعش ويُخْفون مالا يُبْدُون .
ولو راجعنا بعض فتاوى شيوخ عصرنا كابن باز وابن عثيمين ، وجميع العلماء الذي تتابعوا على عضوية هيئة كبار العلماء في السعودية وغيرهم لوجدناهم يخالفون بعض ما جاء في الدرر السنية حتى في بعض المسائل المتعلقة بالتكفير ، وهذا عين المراجعة. 

7- الدرر السنية لمن لا يعرفه ليس كتاباً واحداً بل هو مجموع من كتبٍ تحتوي على تحرير علمي ،وكتبٍ أقلَّ تحريرا ورسائل شخصية متبادلة بين العلماء وبعضهم ،  ورسائل بين العلماء وبين أئمة الدولة السعودية وأمرائها ، ورسائل بين العلماء والأمراء وأهالي المدن والقرى والبوادي ، وأجوبة على استفتاءات خاصة وعامة ، منها ما دُوِّن ابتداء ومنها الشفهي الذي دُوِّن لاحقا ، وكذلك يحتوي على محاضر لقاءات وشهادات ، وغير ذلك .

8- أما موضوعاته فمتعددة جداً فالسلسلة تتضمن الاعتقاد والفقه والسياسة الشرعية والتاريخ والتفسير وأصول الفقه وأصول  التفسير والآداب.

9- ولا تنتمي هذه الكتابات التي تضمنها مجموع الدرر السنية لجيل واحد من العلماء أو الأئمة والأمراء ، بل لعدد من الأجيال على مدى أكثر من مائتي عام ، ومن هذه الكتابات ماجاءت على سبيل التحرير العلمي ومنها ماجاء جواباً مجملاً غيرَ مُفَصَّلٍ ومنها ما كان على سبيل التقعيد والتأصيل ومنها ماجاء جواباً أو اعتراضاً أو رسالة في سياق حدث تاريخي لا يمكن تقييمه دون فهمٍ كاملٍ للحدث ، ومن الكتابات ما جاء على سبيل البسط والتفصيل ومنها ما نحى منحى الإيجاز واكتفى بالمعهود في الذهن عن التفصيل . 

والظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية ، مختلفة من جيل إلى جيل من أجيال كُتَّاب الدرر السنية ، فجيلٌٌ عاصر جهلاً عاماً بتعاليم الدين ومقتضيات التوحيد في جميع البوادي وأكثر الحواضر ، وعاصر إنشاء دولة من العدم . 

وجيلٌ : عاصر انتصارات عظيمةً للدعوة ودولتها وانتشاراً لها في جميع بلاد الإسلام، كما عاصر عداوات ظالمة لها منقطعة النظير ما بين حشود عسكرية أجنبية ، وبين احتشاد في الردود وحملات التشويه المتواصلة , 

وجيلٌ شاهد سقوطاً مدوياً للدولة ومحاولات عملية لإماتة الدعوة . 

وهذا الاختلاف اقتضى اختلافاً في لغة الخطاب بين كاتب وآخر ، بل اختلافاً في لغة الخطاب بين تلك الأجيال وبين جيلنا الذي يختلف في كل شيء عنها. 

 واختلافُ العصورِ لا يقتضي اختلافاً في الخطاب فقط ، بل في الأحكام أيضا ، وهذا باب في أصول الفقه لا يخفى على طالب علم.

 لهذا تَطَلَّب تقيَيم كتاب الدرر السنية فهم العصور التي كُتِبَتْ فيها نصوصُه ، ومن استهان في هذا الجانب وقَيَمَ هذه المُدَوَنَة دون دراسة لعصرها فقد أبلغ في الشطط، وهذه القاعدة صحيحة في جميع الكُتب وليس الدرر السنية وحدها.

ولذلك تُلزِم الجامعات ، وكثير من المؤسسات البحثية محقِقِي النصوص التراثية بكتابة مُقَدِّمَةٍ تحتوي على تعريفٍ بعصرِ المؤلف . 

10- من العلماء الذين تضمنت االدرر السنية شيئا من نِتَاجهم من غَلَبَ عليه جانبُ العلم بالاعتقاد وهو في غيره من العلوم في مقام المشارك وحسب ، ومنهم من غلب عليه جانبُ الفقه ، وهو في جانب الاعتقاد مشارك ، ومنهم من هو وسط في كل تلك العلوم ، بل منهم من يغلب عليه التاريخ وهو مشارك أو ضعيف في غيره من العلوم .

11- كل ما تقدَّم من صفات للكتابِ وموضوعاتِه وكُتَّابِه وتاريخِ كتاباتِه يجعلُ من غير المنطقي نسبةُ قول معين إلى مجموعِ الكتابِ سواء أكان في العقيدة أم الفقه أم غيره ، فالمسألة الواحدة تتكرر في المجموع مراتٍ عدة من أشخاص مختلفين وفي تواريخ مختلفة وظروف مختلفة وعلى صفات مختلفة ، فمرةً تأتي مبسوطةً محررةً ضمنَ كتاب مستقل ، فلا يمكن الاجتزاء منه وترك سائر تقريراته ومحترزاته وقيوده ، ومرة تأتي في شكل جواب مقتضب عن سؤال ، ونقصُ قيودِها ومحترزاتها خاضعٌ لظروف السائل والمجيب ، ومرة تأتي تعليقاً على قولٍ أو حدثٍ متقدم  ، والفهمُ الصحيح العادل فيها مرتبطٌ ولا بد بفهم ذلك الحدث وسوابقه وتداعياته . 

12- لو كان المجموع من ستة عشر مجلداً لعالم واحد من أوله إلى آخره وليس لمجموعة من العلماء في عصور وظروف مختلفة ، لما صح منهجياً نسبةُ قولٍ لصاحب المجموع من كلمة وردت في أول الكتاب أو وسطه أو آخره ، بل لابد من استقراء نصوص المؤلف ورد بعضها إلى بعض حتى نُحرر قوله ، فكل عالم نراه يكتب مرة ويُحرر القول في الحكم ويذكر قيوده ومحترزاته ، ومرة يجيب سائلاً فلا يذكر شيئاً من القيود ، ومرة يخاطب عالماً فيستغني عن التفصيل بالإجمال ، ومرة يحكم في واقعة لا ينطبق حكمه إلا عليها لخصائص في تلك الواقعة تقتضي الحكم ليست في غيرها  ، لذا لا تتقرر الآراء كاملة إلا برد ما فاله إلى بعض وليس بالاكتفاء بالمجتزأ أو اختزال المطول .    

فإذا كانت هذه هي المنهجية الصحيحة في التعامل مع مجموعٍ لعالم واحدٍ ، فما كان لعلماء مختلفي الزمان والمكان فهو أولى بهذه المنهجية.




نشر :