شبهة تحريم التوسل والرد عليها
عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
ادعى كثير من خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام وأتباعه - من بعده - وأنصار دعوته .. أنهم يحرمون التوسل .. وحشد الخصوم لإثبات صحة دعواهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وقبل أن نورد الرد والبيان – بشيء من التفصيل – لما تضمنته شبه تحريم التوسل بكلا عنصريها، نرى أن يسبق ذلك إشارة لما يحتويه لفظ (التوسل) من الإجمال والاشتراك الذي يحتاج إلى تفصيل وتمييز.
ولقد بين علماء الدعوة ذلك، فأوضحوا ما يحمله مصطلح (التوسل) من الإجمال الذي لابد من تفصيله، وما يتضمنه من الإطلاق الذي لابد تقييده.
يقول صاحب كتاب (التوضيح):
(إن التوسل فيه إجمال واشتراك بحسب الإصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة والتابعين طلب الدعاء من النبي أو الصالح، أو التوجه بدعائه …
وأما معناه في لغة المعاندين فهو أن يسأل الله عز وجل بذات ذلك المخلوق، ويقسم عليه تعالى به، أو يسأل ذلك المخلوق نفسه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله يتقرب بذاته ويسأل منه شفاعته..).
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ما يحتويه لفظ (التوسل) من الاشتراك، فيقول:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعبّاد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله، ودعائه رغباً ورهباً والذبح والنذر، والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.
وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة … ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح. أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر – أي الهيتمي -).
وكذا ذكر الآلوسي ما تضمنه لفظ التوسل من جمال، فقال رحمه الله:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عبّاد القبور التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمَّات).
لقد استغل الخصوم هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل، فقلبوا الحقائق، وأجازوا دعاء الموتى والاستغاثة بهم باسم التوسل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بالأنبياء والصالحين.
فزعم ابن سحيم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يكفّر من توسل بالصالحين. وحرّف ابن منصور الكلم عن مواضعه، فادعى أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بذوات الصالحين، وافترى دحلان حين قال:
(كان محمد بن عبد الوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر).
ويزيد العاملي كذباً وزوراً على سلفه، فيقول:
(والتوسل بأنواعه مما منعه الوهابية وجعلوه شركاً).
إن الشيخ الإمام كفّر من استغاث بالأموات سواء كانوا أنبياء أو أولياء ولو سميت تلك الاستغاثة توسلاً فالعبرة بالحقائق والمعاني وليست بالأسماء والمباني، فالتوسل عند عبّاد القبور يطلقونه على الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منهم – كما تقدم -.
وأما دعوى أن الشيخ كفّر من توسل بالصالحين، بمعنى سؤال الله بجاه هؤلاء الصالحين فقد أجاب الشيخ الإمام على تلك الدعوى – رداً على ابن سحيم – فقال:
(فالمسائل التي شنع بها منها، ما هو من البهتان الظاهر – وذكر الشيخ الإمام منها – قوله: أني أكفر من توسل بالصالحين، وجوابي أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم).
وفي المقابل نجد أن خصوماً فهموا أن الشيخ لا ينكر الاستغاثة بالموتى، وطلب الحاجات منهم، واحتجوا بجواب كتبه الشيخ الإمام في حكم التوسل إلى الله بالصالحين ذكر فيه أنه لا ينكر من توسل بالصالحين؛ لأنها من مسائل الفقه، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، مع أن الشيخ الإمام صرّح، ووضّح في نفس الجواب الفرق بين التوسل بذوات الصالحين بمعنى سؤال الله بذواتهم، وبين سؤال الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، فكان مما قاله رحمه الله: (ولكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يطلب منه تفريج الكربات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين) .
فاحتجوا بهذا النص الذي هو حجة دامغة عليهم، وادعوا به جواز الاستغاثة بالموتى الصالحين باسم التوسل، مع أن كلام الشيخ دليل عليهم لا لهم، وردّ على خطئهم وانحرافهم( ).
وعقب هذه الإشارة التي أوضحت ما يتضمنه لفظ التوسل من الإجمال والاشتراك، فإننا نورد بياناً موجزاً للتوسل الشرعي - كما بينه وقرره علماء الدعوة - تمييزاً له عن التوسل البدعي..
إن التوسل الشرعي إما أن يكون بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى وإما أن يكون التوسل بالأعمال الصالحة، وإما أن يكون التوسل بدعاء الرجل الصالح.
وقد أشار الشيخ حمد بن ناصر بن معمر إلى هذه الأنواع الثلاثة التي تشمل التوسل الشرعي فقال:
(.. الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول ومحبته وطاعته ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته وتوسلوا بدعاء العباس وبيزيد..).
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين بعض أنواع التوسل المشروع فيقول:
(فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة كتوسل المؤمنين بإيمانهم في قولهم: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان)..، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم( )، وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وهذا معنى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) فإنها القربة التي تقرب إلى الله وتقرب فاعلها منه، وهي الأعمال الصالحة).
ويوجز الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنواع التوسل المشروع بقوله:
(التوسل المشروع الذي جاء به الكتاب والسنة وهو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان التوسل المشروع، وأنه ما كان في عرف الصحابة والتابعين فيقول:
(التوسل في عرف الصحابة والتابعين هو طلب الدعاء من الرسول في حياته كما كانوا يتوسلون به عند القحط، فيدعوا الله ويستسقيه، فيسقيهم الله، ثم بعد مماته توسل عمر بدعاء عمه.. فهذا (من) التوسل المشروع، والشيخ – أي محمد بن عبد الوهاب – لا يمنع من هذا ولا ينكره).
فالتوسل الشرعي معلوم ومفهوم بأدلته وأنواعه، وكما قال أبو السمح: (وأما التوسل إلى الله تعالى فقد أمر تعالى به إجمالاً وتفصيلاً، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً حتى أصبح من فلق الصبح..) .
وقد فصّل القصيمي أنواع التوسل المشروع، فجعلها أحد عشر نوعاً .. وهي في الحقيقة كلها مندرجة ضمن الأنواع الثلاثة من التوسل المشروع.
وهذا التوسل المشروع قد أقر به الشيخ رحمه الله، وكذا أتباعه امتثالاً لما شرعه الله تعالى لعباده من الوسائل التي تقربهم إليه.
لذا يقول محمد بن نسيب الرفاعي:
(فإن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقرون بالتوسل المشروع، ويدعون إليه.. فهل الإنصاف يا ناس أن نتهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنكر التوسل، ونقيم الدنيا عليها ونقعدها بالباطل، بينما هي تقر بالتوسل على ما يحب الله ورسوله، وتحض المسلمين عليه) .
(فإن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقرون بالتوسل المشروع، ويدعون إليه.. فهل الإنصاف يا ناس أن نتهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنكر التوسل، ونقيم الدنيا عليها ونقعدها بالباطل، بينما هي تقر بالتوسل على ما يحب الله ورسوله، وتحض المسلمين عليه) .
وبعد هذه العجالة التي أوضحنا فيها المراد بالتوسل المشروع وأنواعه، وبعض أدلته، وإقرار وإيمان أئمة الدعوة السلفية بهذا التوسل الذي شرعه الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ننتقل إلى الرد والبيان لما تضمنه العنصر الأول من شبهة تحريم التوسل، ونعرض لأنواع التوسل البدعي بالرد والمناقشة، ثم نتحدث عن أدلتهم ومدى صحتها سنداً، ومدى صحة الاستدلال بها متناً.
نقصد بالتوسل البدعي، التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وأشخاصهم، والتوسل إلى الله بجاه الصالحين ومنزلتهم عند الله، الإقسام على الله بالمتوسل به – كما ذكره خصوم الدعوة السلفية -:
وينبغي أن يعلم – ابتداء – أن حكم هذه الأنواع الثلاثة لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر الذي يخرج عن الملة، وإنما هي بدع قد تصل إلى درجة التحريم، أو دونه، لأن من توسل إلى الله بهؤلاء الصالحين، أو جاههم، فهو يدعو الله مخلصاً له الدين، ولكن يقول: أسألك بهؤلاء الصالحين.
ولعلنا إذا أوردنا – الآن – الردود على تلك الأنواع من التوسل البدعي يتضح الحكم ويزول اللبس والإشكال.
وقد تحدث الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن ذلك التوسل فقال:
(وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين ومن قال هذا من الصحابة والتابعين.
وأما التوسل بالذات بعد الممات فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك. وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء، فالواجب رد ما تنازعوا إلى الله والرسول. ومعلوم أن هذا لم يكن منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مشهوداً بين السلف، وأكثر النهي عنه.
ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مرّ من التوسل به من الدعاء للمتوسل وبمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل به الإنسان إذا توسل إلى غير بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه لا يجوز الإقسام بالمخلوق، كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين، فالتوسل إلى الله بذات خلقه بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان).
ويوجز الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الجواب على أنواع هذا التوسل، فيقول:
(وأما التوسل، وهو أن يقال: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة ولم يرد بذلك نص) .
يبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حكم سؤال الله بالموتى فقال:
(وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه، وبعضهم ينهي عنه ويكرهه .. لكنه لا يوصله إلى الشرك الأكبر..) .
وأما التوسل إلى الله في الدعاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عنه الشيخ عبد الله:
(لا نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روي فيه أثر) .
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين حكم الإقسام على الله بمخلوق فقال:
(وأما الإقسام على الله بمخلوق فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه تنزيه أو تحريم ؟ على قولين أصحهما أنه كراهة تحريم).
ومما أجاب به الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب لمن سأله عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والمرسلين، فكان مما قاله رحمه الله:
(وأما التوسل بجاه المخلوقين كمن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك بعد موتهم، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعاً. ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم؛ لأن الذين لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك بشيء إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن سؤاله الله بالرجل الصالح ليس في الشريعة ما يدل على جوازه فيقول:
(ولو جاز (سؤال الله بالرجل الصالح)، لما ترك الصحابة السابقون الأول من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا. وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، ثم قال ارفع يديك يا عباس فرفع يده، يسأل الله تعالى، ولم يسأله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره، ولو كان هذا التوسل حقاً، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص).
ونورد بعض جواب الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن في مسألة سؤال الله بالمخلوق، والإقسام على الله به، حيث قال رحمه الله:
(وإذا تقرر هذا، فقد عرفت سلمك الله كلام الناس في مسألة سؤال الله بمخلوق، والإقسام على الله به، وقد ذاكرتك فيها بأن الذي نعتقده أنا لا نكفر بها أحداً، بل نقول هي بدعة شنيعة نهى عنها السلف..)
ويسوق السهسواني جواباً حول السؤال بحق فلان فيقول:
(فالقول الفصل في ذلك: أن السؤال بحق فلان إن ثبت بحديث صحيح، أو حسن فلا وجه للمنع، وإن لم يثبت فهو بدعة، وقد عرفت فيما سلف أن كل حديث ورد في هذا الباب لا يخلو من مقال ووهن، فالأحوط ترك هذه الألفاظ، وقد جعل الله في الأمر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوسل المشروع على هيئات متعددة، فلا ملجيء إلى الوقوع في مضيق الشبهات..).
ويقول الشيخ صالح بن أحمد:
(وأما التوسل بذوات الأشخاص فغير جائز، وهو من البدع المحدثة وأمر لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن اجتلبوا له أحاديث لا أصل لها، ودندنوا حولها، وحملوا بعض الآيات على غير محملها لهواهم، وليس كل قول قيل بالقبول يقابل، إلا ما جاء في كتاب الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جل ذلك عن الرد).
ولعل تصور أنواع التوسل البدعي – الثلاثة – يكون أكثر وضوحاً وبياناً، وكذلك حكمها، عندما ننتقل إلى رد وبيان العنصر الثاني من شبهة هذا الفصل.
ومن المناسب – في هذا المقام – أن نذكر كلمة جامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة التوسل بالصالحين حيث يقول رحمه الله:
(ومازلت أبحث، وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك).
وأما ما أورده القوم من الأدلة القرآنية واستدلالهم بها، وكذا أحاديثهم..، فنذكر أمثلة من إجابات أنصار هذه الدعوة السلفية على تلك الأدلة.
فأما استدلالهم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) فيقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين:
(الوسيلة هي القربة والتوسل إلى الله التقرب إليه بطاعته، واتباع رسوله، والاقتداء به، وهذا هو الوسيلة المأمور بها في قوله سبحانه (وابتغوا إليه الوسيلة) ومن الوسيلة دعاؤه لهم صلى الله عليه وسلم وطلبهم ذلك منه في حياته كما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم كقول عمر: اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، فهذا من الوسيلة المأمور بها) .
ويبين الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المراد بالوسيلة في الآية فيقول:
(إن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها) ( ).
وقد ساق القصيمي الجواب على استدلالهم بهذه الآية من ثمان وجوه كلها على طريق الإلزام والجدل.
كما أورد القصيمي سبعة وجوه جواباً على استدلالهم بقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله …. الآية)، نختار وجهاً واحداً منها حيث قال:
(وهي واقعة معينة لا تفيد العموم بمعناها، ولا لفظها، وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم، فمن أين أخذت التعميم في الحياة والممات ؟ مع أن لفظها لا يفيد، ومعناها لا يريده، وأما كون الوقائع المعينة تكون عامة لغير صاحب الواقعة فمن أدلة أخرى دلت عليه) .
وأما استدلالهم ببعض الأحاديث، فالجواب عليها ما يلي:
فأما حديث توسل آدم بحق محمد، فقد أجاب عليه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فكان مما قاله رحمه الله:
(فأما حديث توسل آدم بحق محمد. فالجواب أن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن يزيد ضعيف بالاتفاق ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا كما ترى تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو هو. وقال الحافظ الذهبي في (تلخيص المستدرك) لما ذكر الحاكم هذا الحديث، فقال هذا صحيح.
قال الذهبي: أظنه موضوعاً ثم هو مخالف للقرآن؛ لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام، وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم) .
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المعنى الصحيح لحديث (أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي …) – وهو في السنن – حيث استدلوا به على سؤال الله بخلقه. فقال الشيخ رحمه الله في بيان معناه:
(وأما ما ورد في السنن (بحق السائلين عليك) وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده، وإحسانه، وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه حقاً تفضلاً منه، وإحساناً إلى عباده، فليس هذا من الباب أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منعه فقهاء الحنفية، كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي( ) رحمه الله بداره بالأسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق.
ويشهد لهذا ما يروي أن داود قال: اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك، فأوحى الله إليه: (أي حق لآبائك عليّ) أو نحو هذا. والحق المشار إليه بالنفي هذا غير ما تقدم إثباته. فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق وما جعله الله للماشي إلى الصلاة، وللسائلين من الإجابة، والإنابة فضلاً منه وإحساناً، والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعارضة، والمقابلة على الإيمان والأعمال الصالحة، فالأول يرجع ويعود إلى التوسل بصفاته الفعلية والذاتية، والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين، فتأمله فإنه نفيس جداً) .
وأما استدلالهم بحديث (يا عباد الله أعينوني)، وحديث (يا عباد الله احبسوا) فأجاب عنه الشيخ محمد بن ناصر الحازمي فقال: (والحديثان لا يصحان. أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بإسناد منقطع، والثاني: ففي إسناده معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث..).
وكتب الشيخ أحمد بن عيسى جواباً على استدلالهم بحديث الأعمى، فكان مما كتبه:
(قد قرر جمع من العلماء ما قرره شيخ الإسلام في معنى حديث الأعمى، وبينوا أنه ليس فيه إلا طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دلالة فيه على التوسل بالذات، كالعلامة السويدي وابنه، والشيخ نعمان بن محمود أفندي الآلوسي..).
وقد أفاض الشيخ السهسواني في الرد على ما استدلوا به من أحاديث، وتعقبها بالرد والنقد، فكان مما قاله رحمه الله – جواباً على استدلالهم بحديث فاطمة بنت أسيد على جواز التوسل بالأنبياء -:
(وفيه – أي حديث فاطمة بنت أسيد – روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال الذهبي في (الميزان) روح بن صلاح المصري يقال له ابن سبابة ضعفه ابن عدي، يكنى أبا الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم ثقة مأمون. أ.هـ.
فقد علم بذلك أن في سنده روح بن صلاح المصري وهو ضعيف ضعفه ابن عدي، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال كما في (فتح المغيث) للسخاوي ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف كما في (الميزان).
وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح كما قال السخاوي) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري في حاشية الجواب السابق:
(هذا الحديث – أي حديث فاطمة بنت أسيد – لا يصح دراية، إذ صيغة متنه وركاكة ألفاظه وما فيه من المبالغة مما يدل على عدم ثبوته. زيادة على غرابته، وما في سنده من الضعف الذي تكلم عليه المؤلف).
وأما استدلالهم بحديث عثمان بن حنيف، فقال السهسواني عن هذا الحديث:
(في سنده أبو جعفر، فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ما هان أبو جعفر الرازي التميمي – كما ظنه الحافظ ابن حجر في (التقريب) – فالأكثرون على ضعفه .. قال عنه الحافظ في (التقريب): صدوق سيء الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الفلاس: سيء الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي.
وإن كان أبا جعفر المدني كما في سنن ابن ماجة فهو مجهول..).
وأما استدلالهم بحديث (أسألك بحق السائلين إليك)، فقد تكلم السهسواني على سنده فقال:
(ففي سنده عطية العوفي فإن جارحيه أكثر من معدليه، ووجه ضعفه كونه شيعياً مدلساً، وكذا عدم الضبط وكثرة الخطأ .. كما أن في سنده فضيل بن مرزوق، وهو ممن اختلف فيه.. وكذا في سنده الفضل بن موفق أبو الجهم ضعفه أبو حاتم، والأشبه أن هذا الحديث موقوف كما قال أبو حاتم).
هذه بعض الردود على استدلال الخصوم في إثبات التوسل البدعي، ولم نقصد بتلك الردود الإحاطة والتفصيل، وإنما قصدنا مجرد التنبيه والتمثيل، فلقد ألفت – ولله الحمد – كتب عرضت لهذه الأدلة بالرد والنقد التفصيلي، فأغنى ذلك عن ذكره. وننتقل إلى الرد على ما جاء في العصر الثاني من هذه الشبهة ونشرع في الرد عليها – أولاً – فيما ادعوه بأن التوسل إلى الله بالموتى بمعنى الاستغاثة بهم، فقد أورد صاحب كتاب (التوضيح) هذه الدعوى ثم أبطلها من عدة وجوه، فكان مما قاله رحمه الله:
(فإن قيل يجوز أن يكون لفظ الاستغاثة بغير الله بمعنى التوسل، فمعنى قول المستغيث أستغيث برسول الله، وبفلان الولي أي أتوسل برسول الله أو بالولي الصالح، ويصح حينئذٍ أن يقال تجوز الاستغاثة في كل ما يطلب من الله بالأنبياء والصالحين بمعنى أنه يجوز التوسل بهم في ذلك ويصح لفظاً ومعنى. الجواب أن هذا باطل من وجوه:
أحدهما: أن لفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به لا بمعنى التوسل، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن الاستغاثة لا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقول القائل أستغيث به بمعنى توسلت بجاهه، هذا كلام لم ينطق به أحد من الأمم لا حقيقةً ولا مجازاً ولم يقل أحد مثل هذا، ولا معناه لا مسلم ولا كافر.
الثاني: أنه لا يقال أستغيث إليك يا فلان بفلان أن تفعل بي كذا، وإنما يقال أستغيث بفلان أن يفعل بي كذا، فأهل اللغة يجعلون فاعل المطلوب هو المستغاث به، ولا يجعلون المستغاث به واحداً والمطلوب آخر، فالاستغاثة طلب منه لا به.
الثالث: أن من سأل الشيء، أو توسل به، لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل، أتوسل إليك يا إلهي بفلان: إنما هو خطاب لله، لا لذلك المتوسل به بخلاف المستغاث به، فإنه مخاطب مسئول منه الغوث فيما سأل من الله فحصلت المشاركة في سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله، وكل دعاء شرعي لابد أن يكون الله هو المدعو فيه.
الرابع: أن لفظ التوسل والتوجه ومعناهما يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم عند خالقهم في حال دعائهم إياه، فهذا هو الذي جاء في بعض ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله عليهم .. وهذا هو الذي عناه الفقهاء في كتاب الاستسقاء في قولهم ويستحب أن يستسقى بالصالحين..).
ويوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بين التوسل والاستغاثة فيقول:
(وبينهما فرق عظيم أبعد ما بين المشرق والمغرب.. فالعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم أتوسل إليك بنبيك أو بملائكتك أو بالصالحين أو بحق فلان وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور ولا يسألونها وينادونها فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه، ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال أتوسل إليك برسولك أو أتوجه إليك برسولك فقد استغاث به حقيقة فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسئول مدعو فيفرقون بين المسئول وبين المسئول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق).
كما يوضح الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بينهما فيقول:
(واعلم أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه، فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فهذا بدعة ليس شرك، وسؤاله ودعاؤه هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة وأنا في كرب شديد، فرج عني، واستجرت بك من فلان فأجرني ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه من الملة؛ لأنه صرف حق الله لغيره؛ لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله فافهم ذلك).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على هؤلاء المجوزين للشرك باسم التوسل، فيقول:
(وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان يجوز التوسل بالصالحين ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله، وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، فإن كان أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به فهذا هو شرك المشركين بعينه، والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جداً) .
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن ضلال داود بن جرجيس حيث خلط بين التوسل إلى الله بالموتى وبين الاستغاثة بالموتى، فكان مما قاله الشيخ رحمه الله:
(فدخل عليه الضلال والخطأ من وجوه: منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغيثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به) .
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن الفرق بين مسألة الله بجاه الخلق، ومسألة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله، فيقول:
(فاعلم أن مسئلة الله بجاه الخلق نوع، ومسئلة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله نوع آخر، فمسئلة الله بجاه عباده منعها أهل العلم، ولم يجزها أحد ممن يعتد به، ويقتدي به كالأئمة الأربعة، وأمثالهم من أهل العلم والحديث، إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد.. الحديث. قال ابن عبد السلام إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.- إلى أن قال الشيخ عبد اللطيف: وبالجملة فهذه المسألة نوع، ولا يخرج بها الإنسان عن مسئلة الله، وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله، فسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، ولو قال يا ولي الله اشفع لي فإن السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله) .
ويشير الشيخ السويدي إلى الفرق بينهما فيقول:
(وهذا التوسل الذي ذكر فيه الخلاف فيما إذا كان الداعي يتوجه إلى ربه، متوسلاً إليه بغيره مثل أن يقول أسألك بجاه فلان عندك، أو بحرمته أو بحقه، وأما إذا توجه إلى ذلك الغير وطلب منه فهو شرك كما تحقق).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان أنواع التوسل جملة، موضحاً الفرق بينهما فيقول:
(والتوسل له أقسام، فقسم مشروع وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وطلب الاستغفار منه، وبدعاء الصالحين وأهل الفضل والعلم، وكذلك بالأعمال الصالحة، وقسم محرم، وبدعة مذمومة، وهو التوسل بحق العبد وجاهه وحرمته نبياً كان ذلك، أو ولياً، أو صالحاً؛ لأن ذلك لم يرد به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين.. وأما قصد هؤلاء من التوسل فهو دعاء الأنبياء والأولياء، والصالحين، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين..) .
وبهذا يعلم أن هناك توسلاً شرعياً، توسلاً بدعياً محرماً، وأن التوسل عند عباد القبور هو بمعنى دعاء الموتى والاستغاثة بهم. وكذلك ندرك خطأ ما ذكره هؤلاء الخصوم بأن لفظ التوسل بمعنى الاستغاثة، وكذلك بمعنى الالتجاء، وغيرها من الألفاظ التي أوردوها بقصد التمويه والتلبيس، وتزيين الشرك بأسماء ينخدع بها عامة الناس، لذا يقول أبو بطين رحمه الله:
(ولما علم الشيطان أن كل من قرأ القرآن، أو سمعه ينفر من الشرك، ومن عبادة غير الله ألقى في قلوب الجهال أن هذا توسل، وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب) .
ولكن تغيير الأسماء لا يغير الحقائق، الحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً، وليس مع الأسماء والألفاظ، لذا قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله:
(فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور، لا بالأسماء والاصطلاحات والحكم يدور مع الحقيقة، وجوداً وعدماً لا مع الأسماء..) .
وأما دعواهم بعدم الفرق بين التوسل والاستغاثة بالأحياء وبين التوسل والاستغاثة بالأموات؛ لأنه ليس للميت ولا للحي تأثير أو فعل؛ لأن الفاعل – حقيقة – هو الله وحده، وإن وجد في كلام العامة بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسناد الفعل إلى الأموات، فلا جناح عليهم؛ لأن هذا الإسناد إسناد مجازي لا حقيقي، هذه هي دعواهم، فأما الرد عليهم فيكون على النحو التالي:
يبين الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين بطلان دعواهم بأن الطلب من الأموات من باب التسبب، فيقول:
(نحن لا ننكر إضافة الأشياء إلى أسبابها، ولكن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات، ولا يلزم من ذلك أن نعتمد على الأسباب، فضلاً عن أن نسألها ونرغب إليها وهي مخلوقة، بل يتعين على العباد أن يعتمدوا على خالق الأسباب ويرغبوا إليه، ويستعينوا به ويعبدوه وحده، إياك نعبد وإياك نستعين).
ثم يقول: (فطرد هذا الأصل الباطل – أي دعاء الأموات كأسباب – أن يجوز ذلك في جميع الأسباب، وقد قال تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً) . فيلزمه أن يجوز للناس أن يطلبوا من الريح أن تسير لهم سحاباً ماطراً، وقال تعالى في حق نبيه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) والمراد بالظلمات ظلمات الجهل والكفر والشك إلى نور العلم والإيمان، فيجوز على أصل هذا أن يقال يا رسول الله أخرجنا من الظلمات إلى النور) .
ويكشف الشيخ صالح الشثري بطلان دعوى دحلان – ومن معه – حين جوز التوسل والاستغاثة بالأموات، ما دام أن المتوسل والمستغيث بهم يعتقد أن التأثير والإيجاد لله وحده، وأنه ليس للحي ولا للميت فعل أو تأثير، يقول الشثري رحمه الله:
(وعلى معتقد هذا الملحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ وظلم في قتال المشركين؛ لأنهم لا يعتقدون تأثيراً، ولا إيجاداً لغير الله، مع أن هذا الملحد قد نقض أصله في نفس تعريفه بقوله: فالمستغيث يطلب ممن استغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، فهل التحصيل إلا فعل قائم بالواسطة الذي طلب منه، وقد سلك في معتقده هذا مع تناقضه مذهب القدرية المجبرة، القائلين بأن العبد مجبور لا فعل له حقيقة، بل إسناد الفعل إليه مجاز، فكأنه لم يسمع قول الله سبحانه وتعالى: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) فأثبت سبحانه فعل الظلم لهم فعاقبهم عليه، وقال تعالى (ومكروا ومكر الله) الآية، أيظن من له أدنى رائحة من عقل أن الله قصد نسبة مكر المشركين إليهم مجاز، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) .
ويرد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على دعوى ابن جرجيس حين ادعى أن من اعتقد أن الأسباب العادية فاعلة من غير استنادها إلى الله فهو كافر إجماعاً فيقول:
(إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً، وهي من الأسباب العادية التي أودع الله فيها قوة فاعلة، فكيف لا يكفر من أسند مالا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات إلى غير الله من الصالحين، ونحوهم، وزعم أنها وسائل أو أن الله وكل إليهم التدبير كرامة لهم، هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله.
ويقال للعراقي أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة وأنه شرك أصغر يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثباته، وبين من كفرته وجزمت بعقابه ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته..
ويقال جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب، وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يستغاث بها وتدعى وترجى، وتعظم على أنها وسائط فهذا دين عباد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله، وإن لم يعتقد الاستقلال كما نص عليه القرآن في غير موضع) .
ويورد الشيخ السهسواني ما في دعوى دحلان من البطلان، حين ادعى أن المتوسلين والمستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، فيقول السهسواني رحمه الله:
.. أقول: فيه كلام من وجوه:
الأول: أنه يعتقد كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله..
الثاني: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق والإيجاد والإعدام.. لا يبريء من الشرك فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده..
الثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، وكيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بدعاء الأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن..).
ويسوق الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين حجة في الرد على دعوى دحلان – ومن سار على نهجه – حين زعم أن ذكر الصالحين في الاستغاثة والتوسل إنما هو سبب عادي لا تأثير له، فقال الشيخ عبد الكريم مجيباً:
(فإن كان كما زعم، فينبغي أن لا يكون التأثير والخلق والإيجاد لله القدير بدون ذكر الأخيار عادة، فإنه سبب عادي على قوله، فيلزم منه أنه لا يشبع بطن أحد بمجرد أكله إلا إذا ذكر هؤلاء الأخيار، فإن الأكل سبب عادي للشبع، وذكر الأخيار سبب عادي ثاني، وأن لا يسرج سراج بالفتيلة والزيت إلا بذكر الأخيار وقس على ذلك كل شيء من غير انحصار).
وأما دعوى بعضهم أنه يجوز الاستغاثة بالأموات والأحياء؛ لأن لهم قدرة كسبية وتسببية، فيجيب الآلوسي عن هذه الدعوى فيقول:
(وما أورد على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث به أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله ولا يستغاث به، ولا يتوكل عليه ـ ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي، أو ميت قريب، أو بعيد ارزقني، أو أمتني، أو أحيّ ميتي، أو اشف مريضي إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعني في حمل متاعي أو غير ذلك، والقرآن ناطق بحظر دعاء كل أحد، لا من الأحياء، ولا من الأموات سواء كانوا أنبياء أو صالحين، أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة، أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه).
ويرد الشيخ ابن سحمان على ما زعمه الخصوم حين ظنوا أن السكين لا يقطع بنفسه، وإنما القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده فيقول رحمه الله:
(فالجواب أن يقال: هذا من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام، وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون أن الله يخلق عند السبب، لا بالسبب ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون بالأكل.. ولا الطاعات عندهم سبب الثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب).
ويبطل القصيمي دعواهم بالمجاز العقلي في هذه الشبهة، فيقول:
(إذا كان إدخال المجاز جائزاً لديكم في الأدعية وفي النداء، وفي كل الأقوال المعبرة عن الاعتقاديات، وعن الديانات فهل ترون أن هذا جائز بلا قيد ولا شرط في هذه المسائل بحيث إدخال المجاز في كل قول وفي كل دعاء ما دام مقبولاً في قانون البلاغة وعلوم المجازات ؟ أم أنتم لا تدعون هذه الدعوى ولا تذهبون هذا المذهب، فلا تطلقون جواز المجاز في جميع أقوال العبادات .. إنه لا فرار لكم من اختيار أحد المذهبين وأيا اخترتم فقد خصمتم، ولا ريب فإنكم إذا اخترتم الرأي الأول، وزعمتم أن المجاز جائز مطلقاً بلا قيد ولا شرط في كل كلام ومقال، قيل لكم هذا باطل بالإجماع والضرورة فإنه لو كان صحيحاً حقاً لما استطعنا أن نخطيء ولا أن نعارض من قال مثلاً عيسى هو ابن الله، أو قال علي بن أبي طالب هو خالق محمد عليه السلام.. وذلك أن هنالك مجاز الحذف، فيرد بقوله عيسى هو ابن الله أي ابن أمة الله.. وبقوله علي خالق محمد أنه مختار خالق محمد. وبهذا التأويل تصبح هذه الأقاويل من أقاويل المؤمنين الصحيحة المقبولة: التي لا اعتراض عليها ولا فند فيها، وهذا يقضي بألا يؤخذ قائل بمقال، ولا متكلم بكلام…
وأما إن قلتم بالرأي الثاني، أي قلتم أنه ليس كل ما صح مجازاً صح ديناً بل من المجازات ما هو ضلالات، ومنه ما الذهاب إليه إثم كبير، وذنب لا يجوز للمسلم اقتحامه، قيل لكم إذن لعل هذا المجاز الذي زعمتموه وأجريتموه.. هو إثم وباطل).
ويقول أيضاً في الرد على الدعوى السابقة:
(هنالك فرق بين دعوة الميتين وبين قول الناس أنبت الربيع البقل والماء العشب، ذلك أن الأول طلب والثاني خبر، وبين الأمرين فرق حقيقي عظيم معروف، وليس كل ما جاز إخباراً، جاز طلباً، والدليل على هذا الفرق الواضح أنه صح أن يقال أنبت الربيع البقل والماء العشب ولم يصح أن يقال: يا ربيع أنبت البقل، ويا ماء أنبت العشب) ( ).
وأما دعواهم بأن هؤلاء المستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، وليس قصدهم من تلك الاستغاثات إلا التبرك، ولو وقع منهم بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسنادهم التأثير لغير الله.
فإن واقع أولئك المستغيثين بغير الله، يبطل تلك الدعوى ويسقطها، لذا قال الشيخ حسين النعمي معقباً على تلك الدعوى:
(إن من يتكلم بهذا لا يدري ما فشى في العامة.. وما صار هجيراهم عند الأموات، ومصارع الرفات من دعائهم، والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار. وإظهار الفاقة، والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال).
ويرد ابن سحمان تلك الدعوى الخاطئة، فكان مما قاله:
(والألفاظ التي يقولها العوام، وينطقون بها دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله فما معنى الشبهة ؟).
وأما الرد على دعواهم بأنه لا فرق بين الحي والميت؛ لأن الميت له حياة في قبره، وله إدراك وشعور، فإذا كان لا فرق بينهما، فيجوز التوسل، والاستغاثة بالأموات، والأحياء دون تفريق، فإن الرد على تلك الدعوى يكون على النحو التالي:
يوضح الشيخ أبو بطين بطلان دعواهم، وتناقضهم فيها، مع بيان الحق في تلك المسألة، فيقول:
(فمن سوى بين الحي والميت بقوله يطلب من الميت ما يطلب من الحي، فقد سوى بين ما فرق الله والناس بينهما، حتى المجانين يعرفون الفرق بين الحي والميت).
(ويقال لهذا المساوي بين الأحياء والأموات من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائج بعضهم من بعض، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدرعاً من صفوان بن أمية وهو مشرك، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم، والذمي والبر، والفاجر، فيلزم المساوي بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك، فإن قال طلب الحاجات مختص بموتى الصالحين فلا يجوز طلبها من موتى الكفار والفساق قيل له نقضت أصلك حيث فرقت بين أحياء هؤلاء، وأمواتهم، فإن قال موتى الصالحين أحياء في قبورهم كما زعم، فهو كاذب في ذلك، ولم يرد في ذلك حديث إلا ما أخبر الله عن حياة الشهداء مع أن حياتهم لا تدرك بالحس، ولا بالعقل فالله سبحانه أعلم بحقيقتها، وأما سوى الشهداء غير الأنبياء، فلم يأت خبر عن الرسول أنهم أحياء في قبورهم، وإنما هو افتراء وكذب.. فإن قال: أن صالحي الأموات ينعمون في البرزخ، قيل له وضدهم يعذبون فيدركون العذاب كما يدرك الصالح النعيم. وهذا إدراك وإحساس لا يعلم حقيقته إلا الله).
ويؤكد الشيخ صالح الشثري بداهة الفرق بين الطلب من الحي وبين الطلب من الميت فقال:
(من المعلوم بالفطرة السليمة، وإن كان جاهلاً يفرق بين الطلب من الحي الحاضر مما في يده أو دعائه له، وبين الطلب من الميت والغائب، ولا يسوي بين الحي والميت إلا من اختالته الشياطين عن الفطرة التي فطره الله عليها، أو إنسان أعماه الهوى والتقليد..).
وقد أورد السهسواني كثيراً من الحجج في إبطال التسوية بين الحي والميت فكان مما قاله:
(إن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت ثابت بالكتاب والسنة … - منها – قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) . – ومن الأحاديث – قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله …)).
كما أن إثبات الكسب ولو باطنياً للميت مخالف للنص الصريح هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) فلا يعبأ به، على أن قدرة الحي على الكسب يعلم حدها بالمشاهدة، مثلاً نعلم أن الحي يقدر على حمل الحجر، وعلى أن يحول بينه، وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً، أو يدعو له، أو نحو ذلك، وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا تعلم حدها بالمشاهدة، فما طريق العلم بها ؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة عليها أو ناقصة عنها؛ فلابد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء) .
ويصف أحد العلماء قياس الأموات على الحياء بهذا الوصف:
(قياس الأموات من الأنبياء والصالحين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله على الأحياء القادرين على الأسباب العادية المقدور عليها من أفسد القياس، وأبطل إبطال، وأمحل المحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرق بين الأحياء والأموات ولم يسو بينهما بقوله (وما يستوي الأحياء والأموات).
ويتحدث علامة العراق الآلوسي عن مسألة سماع الأموات فيقول:
(لا يشك أحد من أهل العلم أن في مسألة السماع قولين، أحدهما: أن الأموات يسمعون، ومع ذلك لا يستمد منهم ولا يستغاث بهم في قضاء الحاجات، ولا يلجأ إليهم لعدم ورود ذلك في الشريعة.
والآخر: أنهم لا يسمعون، وإلى كل قول من هذين القولين ذهب جم غفير من أهل العلم، وكل منهما أورد أدلة على مدعاه لا يمكن إنكارها، وليس هذا الاختلاف في متأخري الأمة، بل عن السلف كانوا مختلفين في ذلك فإنكار السماع رأساً، وإثباته مطلقاً لا شك في أنه مكابرة محضة، فالراجح قصر السماع على ما ورد وهذا الوجه يجمع بين الروايات المختلفة).
ولكن - كما يذكر الآلوسي - من يقول بسماع الأموات لا يقول بأنهم يسمعون كل كلام، ومن أي محل كان قريب أو بعيد … فإن هذا باطل بإجماع المسلمين).
وأخيراً نكتفي بما أوردناه من نقول موجزة لأئمة الدعوة وأنصارها في إزالة اللبس في هذه الشبهة، ثم ردها، ومن أراد المزيد والتفصيل فعليه بما كتب السلف قديماً، وأتباعهم من أهل هذه الدعوة وغيرهم.
نشر :