هل دعوة الإمام المجدد هي الفتنة التي ستخرج من نجد؟!!

الشيخ مشهور حسن سلمان

وقد زعم بعضُ من أزاغ الله قلبه أن (نجداً) المذكورة في الأحاديث السابقة هي (الحجاز) ، وأن الفتن التي ظهرت منها هي دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى-!

وهذه فرية بلا مرية، إذ فيها مضادّة للأحاديث النبوية الصحيحة الشهيرة، وقد تتابعت جهود الأعلام من العلماء على اختلاف أعصارهم وأمصارهم على كشف الباطل الذي فيها، وهذه شذرات من كلماتهم:

* الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قال في «مجموعة الرسائل والمسائل» (4/264-265) :

«الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا» الحديث ... قيل أنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ؛ كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة ... وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده.

وعلى كل حال؛ فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس» .

ثم قال -رحمه الله-: «فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة ... ، وما ضرَّ المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مُهاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام، وما ذُمَّتْ مكةُ بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه» .

* الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن :

يقرر -رحمه الله- في كتابه «منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس» (ص 62) المراد بالمشرق ونجد الذي ورد ذمه في الأحاديث السابقة، فيقول: «إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق؛ لأنه يحاذي المدينة من جهة المشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: «وأشار إلى العراق» ، قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية الشام ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد: ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور؛ فإنه ما انخفض منها، وقال الداودي: أن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في «مسلم» عن ابن عمر، قال: يا أهل العراق! ما أسأَلَكم عن الصغيرة وأركَبَكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الفتنة تجيء من ها هنا» ، وأومأ بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر المراد بالإشارة الحسيّة، وقد جاء صريحاً في «المعجم الكبير» للطبراني النصُّ على أنها العراق، وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال، كل هذا يعين المراد ... » .

ويشير الشيخ عبد اللطيف إلى فضل بني تميم، فيقول:

«وقد جاء في فضل بعض أهل نجد كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: أُحِبُّ تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله لما جاءت صدقاتهم: «هذه صدقات قومي» ، وقوله في الجارية التميمية: «اعتقها فإنها من ولد إسماعيل» ، وقوله: «هم أشد أمتي على الدجال» ... هذا في المناقب الخاصة، وأما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل
والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.

ومعلوم أن رؤساء عباد الصور الداعين إلى دعائهم وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم، وأهل نجد للرد على دجاجلة عبّاد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إنْ قلنا أن «ال» في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا أنها للعهد -كما هو الظاهر-؛ فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله، فتأمله فإنه نفيس جدّاً» .

* الشيخ محمود شكري الآلوسي العراقي (ت 1342هـ) :

قال في كتابه «غاية الأماني» (2/180) مقرراً أن نجداً بها يطلع قرن الشيطان في معرض كلامه على من تكلم على ابن تيمية من أهل العراق:

«ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزيّة، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام، إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري، وتواتر النقل به واشتهر من أصولهم الخمسة، التي خالفوا بها أهل السنة، ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية غايةً يسقط بها الأمر والنهي، إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في الإمام علي، وسائر الأئمة ومسبة أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا معروف مستفيض» .

* الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (ت 1326هـ) :

أسهب في كتابه «صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان» في رد هذه الفرية، وعمل على تخريج الحديث، ودقق في ذكر مروياته وألفاظه، ومما أفاد وأجاد بهذا الصدد، قوله فيه (ص 497) بعد كلام:

«قد عرفت من هنا أن زيادة لفظة (من)، لا تعرف في شيء من طرق الحديث، ولعلها من أغلاط المؤلف (2) ، ولا يستبعد ذلك منه، فإنه كثيراً ما يغلط في نقل الروايات؛ لأنه ليس من أهل هذا الشأن، وهذا الحديث لا شك في صحته، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث صحيحة أخرى» .

وقال (ص 496) : «أقول: كون الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه مصداق تلك الأحاديث ... محل نظر» .

وذكر (ص 498-499) بعض كلام الشراح المتقدم؛ ككلام الخطابي والقسطلاني، وقال على إثره داحضاً الكذبة المذكورة: «ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث لا يقتضي أنّ كل من يولد في المشرق أو يسكن فيه، يكون مصداقاً لهذا الحديث، حتى يثبت ما ادّعاه المؤلف من كون الشيخ -يريد: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب- مصداقاً له، والمؤلف لم يبيّن وجه الاستدلال به، حتى يتكلم فيه، ويجاب عليه. ومجرد وقوع الفتنة في موضع لا يستلزم ذم كل من يسكنه» .

ثم أورد أحاديث فيها وصول الفتنة إلى المدينة، ثم قال (ص 500) :

«وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه، لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمن موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما، بل وما من بلد أو قرية إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة (3) ، فكيف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناطُ ذم شخصٍ معينٍ كونُه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع» .

* نكتة مهمة

وهنا نكتة مهمة، لا بد من بيانها والتركيز عليها؛ وهي:

«إنه لا يقول مسلم بذم علماء العراق؛ لما ورد فيها، وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة، وأهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق» .

و «الفضل والتفضيل باعتبار الساكن يختلف وينتقل مع العلم والدين، فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان أكثرها علماً، وأعرفها بالسنن، والآثار النبوية، وشر البلاد أقلها علماً، وأكثرها جهلاً وبدعة وشركاً، وأقلها تمسّكاً بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح، فالفضل والتفضيل يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان».

نشر :