الوهابية في مواجهة الغلاة

عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

لقد أقبلت دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لتصوغ الحياة كلها - فضلاً عن الإعلام - وفق عقيدة التوحيد، وتنقل المجتمعات من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولذا حاربت الغلو بشتى صوره وأنواعه، بما في ذلك الغلو في التكفير، ونسوق هذه الحرب وفق السطور التالية:

واجهت هذه الدعوة الغلو في المعظَّمين من البشر: الصالحين والعلماء والأمراء، والتي حكاها الإمام عبد الله بن مبارك في قوله:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

                                  وأحبار سوء ورهبانها

فأما الغلو في الصالحين فطالما نهى أئمة الدعوة عن الغلو في الصالحين، وبيّنوا بالأدلة والبراهين أن سبب كفر بني آدم هو الغلو في الصالحين، وأن أول شرك وقع في الأرض ناشئ عن الإفراط في تعظيم الصالحين، ومجاوزة الحد في محبتهم.

ومن الأدلة التي احتفى بها أئمة الدعوة النجدية في ذم الغلو والتحذير منه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله».

حكى بعض تلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب طرفاً من هذا الغلو في نجد قبل الدعوة فقالوا: «ويكفيك من التطويل أن الشرك بالله يخطب به على منابرهم، ومن ذلك: اللهم صلّ على سيدنا وولينا، ملجأنا منجانا، معاذنا ملاذنا».

لكن هذا الشرك والغلو صار أثراً بعد عين بعد ظهور هذه الدعوة المباركة فالحمد لله على الإسلام والسنة.

لقد حاربت الدعوة الوهابية هذا الغلو الجاثم على أمة الإسلام، وكشفت عن حقيقة أدّعياء الولاية، وقررت توحيد المرسلين عليهم الصلاة والسلام بأن الله هو الإله المعبود المقصود المعتمد عليه[6]، وبيّن علماء الدعوة أن معنى «الإله» هو الذي يسميه العامة: السيد أو الشيخ، حيث يظن الدهماء أن السيد والشيخ يُستغاث بهما، ويُلجأ إليهما، فالغلو في السادة أو الأشراف مما يتوارد لدى العامة وأشباه العامة، فأبطلت الدعوة هذا الغلو، وسدّت كل طريق وذريعة تفضي إليه، وأظهروا أن العبادة حق محض لله لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، فضلاً عن سادة أو مشايخ.

يقول العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: «إن السيد عند أكثر المشركين في هذه الأزمان هو الذي يُدعى ويُستغاث به في الشدائد، ويرجى للنوازل ويحلف باسمه، وينحر له على وجه التعظيم والقربة، وبعضهم يطلق على ذلك اسم الولي كما هو في اصطلاح كثير من أهل مصر».

بل تضاعف الغلو في نجد قبيل الدعوة فظهر متصوفة غلاة في معكال يتبعون ابن عربي وابن الفارض، وينصرون مذهب الاتحادية!.

والرزية أن هؤلاء الذين يُدّعى لهم الولاية والصلاح هم من أفجر الناس وأفسقهم، بل إن أولئك الغلاة فيهم يشهدون عليهم بالفجور والسرقة وترك الصلوات!.

كان الشيخ الإمام صارماً تجاه هذا الغلو الشنيع، حازماً في مدافعة هذا الظلم العظيم، فبينما كان العامة يقدّسون أولئك المتظاهرين بالصلاح في نجد، نجد أن الشيخ يصفهم بالكلاب والشياطين، كما في قوله:

«إذا كان من اعتقد في عيسى ابن مريم مع أنه نبيّ وندبه فقد كفر، فكيف بمن يعتقدون في الشياطين كالكلب أبي حديدة، وعثمان الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج، وغيرهم في سائر البلدان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله».

والحاصل أن الغلو في الصالحين قد انمحى واندرس، وأظهر الله تعالى الحق بعد خفائه بسبب هذه الدعوة الإصلاحية المباركة.

ومما يحسن التنبيه عليه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما كان إماماً ربانياً، فإنه لم يردّ البدعة بالبدعة، بل حارب الغلو في السادة والأشراف، وحذّر في الوقت نفسه من التفريط والجفاء تجاههم، فقد عاتب الشيخُ بعضَ طلابه على إنكارهم على أحد الأشراف لما كان يلبس الأخضر، وتُقبّل يده، فبيّن أن الإنكار لا يكون إلا بعلم ودليل، وأن تقبيل اليد مسألة اجتهادية لا توجب إنكاراً، وكذا لباس الأخضر سائغ؛ لئلا يقصّر في حقهم[12]، ثم قال: «وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم، ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادّعاء الألوهية فيهم».

وحاربت الدعوة الغلو في العلماء والأمراء، كما في هذا الباب الذي عقده الشيخ الإمام في كتاب التوحيد بعنوان «باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرّم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله».

وحذّر الشيخ الإمام من الغلو في التمذهب والتقليد، فقال مخاطباً أحد مخالفيه: «وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس أن من سلك هذا المسلك [يعني اتباع السنة النبوية] فقد نسب نفسه للاجتهاد، وترك الاقتداء بأهل العلم، وزخرفه بأنواع الزخارف فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه».

إلى أن قال: «لا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم، وإنما الشأن إذا اختلفوا هل يجب عليّ أن أقبل الحق ممن جاء به وأردّ المسألة إلى الله والرسول مقتدياً بأهل العلم، أو أنتحل بعضهم من غير حجة، وأزعم أن الصواب في قوله؟! فأنتم على هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله وسمّاه شركاً، وهو اتخاذ العلماء أرباباً، وأنا على الأول أدعو إليه».

وفصّل بعص أئمة الدعوة هذه المسألة فقالوا: «إذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة، ثم رأى حديثاً يخالف مذهبه، فاتبع الدليل، وترك مذهبه، كان هذا واجباً عليه إذا تبيّن له الدليل، ولا يكون مخالفاً لإمامه الذي اتبعه، فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا الأصل.

وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة، يخالف القول الذي نصّ عليه العلماء، أصحاب المذاهب، فنرجو أن يجوز العمل به، لكن لا ينبغي الجزم بأن هذا شرع الله ورسوله، حتى يتبيّن الدليل الذي لا معارض له في المسألة، وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها، والذي ننكر هو التعصب، وترك اتباع الدليل».

لقد كان علماء نجد قبل الدعوة يقتصرون على المشهور من مذهب أحمد دون التفات إلى الدليل كما هو في مجموع ابن منقور (ت 1125هـ)، ولما ظهرت الدعوة أقبلوا على متابعة الدليل ولزوم السبيل، يقول الشيخ عبد الله البسام: «أما في الدرر السنية فترى الفتاوى مستقاة من مذهب أحمد، إلا أنها مقرونة بأدلتها الشرعية، كما تجد أنها قد تخالف المشهور من المذهب حينما يكون الدليل الصحيح خلاف المذهب.. وكذلك تجد الكتابة في التفسير والحديث».

وكما قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «فمن أراد تحقيق ما نحن عليه فليقدم علينا الدرعية فسيرى ما يسر خاطره، ويقر ناظره، من الدروس في فنون العلم، خصوصاً التفسير والحديث».

ثم إن هذه الدعوة جابهت طغيان الأمراء، والغلو في السلاطين، ومن هذا الصنيع أن الشيخ الإمام أشار إلى تهافت مقالة أنه لا يصح شيء من الأحكام إلا بالإمام فقال: «لا يعرف أن أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم، لكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة حجة في ردّ ما لا يقدرون على جحده، كما أني لما أمرت برجم الزانية قالوا: لا بد من إذن الإمام، فإن صح كلامهم لم يصح ولايتهم القضاء، ولا الإمامة ولا غيرها».

كما فنّد حفيده العلامة عبد الرحمن بن حسن مقالة ابن نبهان: لا جهاد إلا مع الإمام، فإذا لم يوجد إمام فلا جهاد! فقال رحمه الله: «بأي كتاب، أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟! هذا من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين، والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر».

ثم إن هذه الدعوة الإصلاحية التجديدية، وما فيها من تحرر وإبطال للوثنيات بشتى صورها - قبورية أو سياسية - لابد أن تصطدم مع أنظمة ودول، وهذا أمر طبعي أدركه العلماء آنذاك - زمن ظهور الدعوة - كما صرّح به الشيخ الإمام في رسالته لفاضل آل مزيد رئيس بادية الشام قائلاً: «هذا الأمر الذي أنكروا عليّ [يعني عبادة الله وحده واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبغضوني، وعادوني من أجله، إذا سألوا عنه كل عالم في الشام، واليمن، أو غيرهم، يقول: هذا هو الحق، وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أظهره في مكاني، لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره، لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه».

إلى أن قال: «حتى من علماء الشام من يقول: هذا هو الحق، ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة».

والحاصل أن هذه الدعوة كانت في منأى عن الغلو، بل كانت حرباً على الغلو وأصله - كما سبق - ومما يؤكد ذلك أن الخوارج الغلاة وسائر أهل الأهواء تجمعهم ثلاث علامات إجمالية: الفرقة والتنازع، واتباع المتشابهات، واتباع الهوى، كما بسطها الشاطبي في الاعتصام، والناظر في تراث علماء الدعوة إنما يجد الاجتماع والاتفاق، والتأكيد على الالتزام بالمحكمات والكشف عن المتشابهات، وردّها إلى المحكمات، ثم إن القوم في عافية من اتباع الأهواء، فهم معرضون عن الهوى، ومقبلون على الهدى.

وأخيراً فإن المتأمل في مناهج هذه الدعوة العلمية ومواقفها العملية يجد لزوم الوسط والعدل، ومجانبة الغلو والجفاء.
نشر :