فضل دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب
أحمد بن ناصر آل عبدالله
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يُحيون بكتاب الله – عز وجل – الموتى ، ويُبصرون بنور الله أهل العمى . فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين: اما بعد فاتقوا الله عباد الله فبها النجاة والفوز بالمرضاة ،{ياأيها الذين أمنوا أتقوا الله حق تقاته ولاتموتن الا وأنتم مسلمون}.
لقد بعثَ اللهُ نبيَّه محمداً صلى الله عيه وسلم بالهدى ودينِ الحقِّ ليظهرَه على الدينِ كلِّه، فأكملَ اللهُ به الدينَ, وارتفعَتْ رايةُ التوحيدِ والسنة, وانطمسَتْ معالمُ الشرك والوثنية، وعُبِدَ الله وحدَه، {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وتبعه على ذلك صحابته من بعده ، ومن بعدهم حملةُ الشريعةِ المطهرة, الذّابّون عن حياضِ السنةِ والتوحيد, فأظهر اللهُ من كلِّ طبقةٍ علماء ، نصروا السنةَ وحاربوا البدعة, ودَعَوا إلى توحيدِ ربِّ العالمين, وحذّروا من سبلِ المشركين، كما عند أبي داود وصححه الألباني (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا).
حتى كان القرن الثاني عشر للهجرة فاشتدَّتْ غربةُ الإسلام بينهم ، وعَفَتْ آثارُ الدِّين لديهم ، وانهدمتْ قواعدُ الِملَّةِ الحنيفيَّة ، الا بقايا ندر، وغلب على الأكثرِينَ ما كان عليه أهلُ الجاهليَّة ، وغَلَبَ الجهلُ والتَّقليدُ ، وشَبَّ الصَّغيرُ لا يَعْرِفُ مِن الدِّين إِلَّا ما كان عليه أهلُ بلده ، وهَرِمَ الكبيرُ على ما تلقَّاهُ عن الآباءِ والأجداد .
فشاع بين الناس دعاء الأموات والتعلق بالأضرحة والمزارات ، والغلو في الصالحين والذبح لقبورهم والنذر لها، والاستغاثة بها عند الشدائد ، علاوةً على السحر والشعوذة ، وتصديق مدعي علم الغيب ، ونبذ الشرائع والتحاكم إلى العوائد الجاهلية.
جل ببصرك عالم المسلمين فاقرأ ما ذكره المؤرخون آنذاك ، فهذا علي باشا مبارك في كتابه (الخطط التوفيقية) يذكر عن بلاد مصر أنه كان في القاهرة وحدها مائتان وأربعة وتسعون ضريحاً!! تعبد من دون الله.
وقبله ذكر المؤرخ الجبرتي المصري أن أغنى الناس في مصر وأعظمهم ثراءً في وقته هم سدنة القبور والأضرحة .
أما في بلاد الشام فيذكر عبدالرحمن بك سامي ، صاحب كتاب (القول الحق) أنه رأى في دمشق وضواحيها فقط مائةً وأربعة وتسعين ضريحاً ومزاراً. وأما العراق فقد شق الشرك بقرنيه السماء ، وكذا بلاد المغرب ، وارجع الى بلاد اليمن وتصفح ما كتبه اماماها آنذاك ابن الأمير الصنعاني والشوكاني ترى العجب العجاب .
ولا غرابة اذ كان ذلك بحماية ومباركة من السلطنة العثمانية والقائمة على نشر التصوف الشركي فلقد كانت عاصمتها الآستانة ذات الأربعمائة وواحد وثمانون جامعاً لا يكاد يخلو جامعٌ فيها من ضريح !
ثم قلب نظرك سريعا في حضانتها لبلاد الحرمين مكة البلد الحرام وما ذكره المؤرخ محمود فهمي في كتابه (البحر الزاخر ): أن النجديين بعد دخولهم لمكة هدمُوا فيها ما يزيد على ثمانين قبة فاخرة مبنية على قبور.
وأما المدينة النبوية فحدث عن البقيع ولا حرج ، بل ذكر الإمام سعود بن عبدالعزيز أنهم لما دخلوها كان مما وجدوا في الحجرة الشريفة رسالة من السلطان العثماني يستغيث فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مطلعها (من عُبَيْدك السلطان سليم ).
واما قبر ذي الخلصة في تبالة من قرى بيشة والذي اخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يعبد فقد اشادوا بناءه فهدمه الإمام عبدالعزيز بن محمد وبعد سقوط الدولة السعودية أشادوا بناءه مرة أخرى حتى هدمه الملك الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن .
هذه الوثنية القبورية كلها في المدن الزاخرة بالعلماء فما بالك بالقرى والبوادي فالأمر أشد وأطم .
ولم تكن بلاد نجد بمنأى عن هذا فقد كانت كما يقول الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله ، من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم .
فاستنقذ الله هذه الجزيرة بدعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب لنشر التوحيد والدين الصحيح الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم بل ووصلت دعوته الى أطراف البلاد فمن جاكرتا شرق حتى بلاد مراكش المغربية غربا .
فشرق بذلك أهل البدع والضلال، من الصوفيين والقبوريين، ومن كان متكسبًا من ذلك، وناصبوه العداء، وافتروا عليه، وألصقوا به ما هو منه بريء.
وكما هي عادة أهل الضلال ما إن يقوم مصلح الا ويقفوا في وجهه بالنبز بالألقاب فسموا دعوته بالوهابية وتمحلوا الكذب والافتراء فحسيبهم الله .
وقد تحدّث الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- عن هذه الهجمة قائلاً: "لما أظهرت تصديق الرسول فيم جاء به سبُّوني غاية المسبّة، وزعموا أنّي أكفِّر أهل الإسلام وأستحل أموالهم".
ويقول: "ولبّسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس، وكبرت الفتنة وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورَجْله، فزعموا أني أكفّر بالظن، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، وأن الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر ، وأن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأني أكفِّر من توسل بالصالحين، وأني أكفِّر البوصيري، وأني أكفِّر مَن حلف بغير الله ،فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله".
ابتدأ الشيخ تعلمه بالقرآن فحفظه عن ظهر قلب قبل بلوغه عشر سنين ، وقرأ على أبيه وكان قاضيا في الفقه ، و جد في طلب العلم وأدرك و هو في سن مبكرة حظاً وافراً من العلم ورحل الى مكة والمدينة والأحساء والبصرة لطلب العلم .
ثم عزم أن يصحب الحاج الشامي وينشر دعوته في بلاد الشام، ومن لطف الله وتدبيره وحكمته أنه نام تحت شجرة ومضى الحاج وتركوه وأتى سراق الحجيج فضربوه وسلبوا ثيابه وماله وما معه، فذهب إلى المدينة وصرف النظر عن الشام:
وكم لله من لطف خفي *** يدق خفاه عن فهم الذكي
لقد ابتلي الشيخ رحمه الله .. فصبر على البلاء و ثبت حتى جاوز الامتحان والابتلاء ، و ما ذلك إلا تأييد الله له ، وأمثلة ذلك في حياته كثيرة، فلقد طرد من العيينة ،وكاد يفتك به اهل حريملاء وتسوروا عليه جدار داره، وأوذي بالبصرة ثم أخرج منها وقت الهجيرة في شدة القيظ لما كان ينكر الشرك .
فصبر في سبيل ذلك حتى أيده الله بمناصرَهُ الإمامُ الُمظفَّرُ محمَّد بن سعود رحمه الله ومعاهدَته له ، فمَكَّنَ اللهُ لهما ما لم يُمَكِّنْ لغَيرِهما ، فَمِنْ حُكْمِ «الدِّرعيَّة» إلى حُكْمِ الجزيرةِ ، تحقيقًا لوَعْدِ اللهِ عبادَهُ الُموحِّدِينَ في قَولِه : {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }.
فرحم الله الإمام المجدد وجزاه الله ما جزى مصلحا عن أمة الإسلام .
نشر :