مزايا دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله

الشيخ صالح بن محمد بن حسن الأسمري

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إلا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .. أما بعد :
فإن هناك مزايا تُميِّز دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، أو بها عُرِفت هنا وهناك، ومجموع ذلك اثنا عشر شيئاً يميّز هذه الدعوة على غيرها .

أما الشيء الأولى والمَيْزة الأولى : فهي تقديم التوحيد والشهادتين على غيرها من مفردات الدين ومسائله ، وجَعْل أول واجبٍ على الإنسان هو أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وأن يبدأ بالتوحيد .

قرر الإمام ذلك في رسائل ، ومن ذلك : ما جاء في ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية في الرسالة الثانية في صفحتها السادسة عشرة ، وبنحوها في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثامن وصفحتها الخامسة والسبعين حيث قال في رسالةٍ له : (( قولك أول واجب على كل ذكر وأنثى النظر في الوجود ثم معرفة العقيدة ثم علم التوحيد وهذا خطأ ، وهو من علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمه، وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب هو التوحيد ليس النظر في الوجود ولا معرفة العقيدة كما ذكرته أنت في الأوراق)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ مخاطباً بعضاً من الناس المبطلين .

وإنما كان ذلك كذلك أدلة قامت على تقديم التوحيد على غيره وعلى تقديم الشهادة أو الشهادتين على غيرها، والأدلة في ذلك كثيرة مستفيضة، ومن ذلك : قول النبي  صلى الله عليه وسلم  لمعاذ بن جبل لما أرسله إلى أهل اليمن قال له : ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله  صلى الله عليه وسلم)) والحديث مخرج في ((الصحيحين)) ، ويؤخذ منه : أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قدَّم التوحيد على غيره، وجعل الشهادتين مقدمتين على غيرهما من مفردات الدين.

يؤكد ذلك ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في شرحه على الطحاوية، مقرراً إياه في صفحته الخامسة عشرة حيث قال : ((ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يُؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ وتقريره لذلك واضح ظاهر، ومن ثم يُعرف ما عليه كثير من المبطلين من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وغيرهم في هذه المسألة حيث قدَّموا النظر على غيره أو قدَّموا الشك على غيره، والمقدَّم شرعاً والمأمور به حقاً هو أن تُقَدَّم الشهادتان على غيرهما والتوحيد الحق على ما سواه ، هذا من حيث الأصل الشرعي وهو المراد .

وأما ثاني المميزات فهو تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: وهذا مشهور معلوم عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ ، وقد قُرِّر ذلك في مواضع من رسائله، ومنها: ما ذكره كما في ((مجموع مؤلفاته)) في مجلدها الأول وصفحتها السادسة والخمسين بعد المائة ، وكذا في الصفحة المائتين وفيه في الصفحة الثالثة والستين بعد المائة الثالثة ، وكذا في المجلد الخامس في صفحته الرابعة والعشرين بعد المائة الأولى، وفيه في الصفحة الرابعة والأربعين بعد المائة الأولى، وفيه في الصفحة الثانية والثمانين بعد المائة الأولى أيضاً، ومن ذلك: قوله رحمه الله كما في : ((مجموع كتبه ومؤلفاته)) في مجلدها الأول وصفحتها الواحدة والسبعين بعد المائة الثالثة حيث قال : ((فإذا قيل لك : ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؟ فقل : توحيد الربوبية : فعل الرب مثل الخلق والرَّزْق والإحياء والأماتة وإنزال المطر وإنبات النبات وتدبير الأمور ، وتوحيد الإلهية : فعلك أيها العبد مثل الدعاء والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة والنذر والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة))، كذا قال .

والمراد أنه مشهور مستفيضٌ عن الإمام قسمة التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وهو في ذلك متبعٌ لجمعٍ من الأئمة وليس مبتدعاً ، إذ التوحيدُ ثلاثة أقسام أشار إلى ذلك ابن جرير الطبري ـ يرحمه الله ـ في ((تفسيره)) وابن منده، وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ وابن قيم الجوزية في آخرين .
أما القسم الأول فيسمى بتوحيد الإلهية، وضابطه هو: إفراد الله بالعبادات التي يفعلها العبد فلا يجعل لله شريكاً فيها .

وأما الثاني : فتوحيد الربوبية، وضابطه : إفراد الله تعالى بأفعاله وخصائصه كالإحياء والرَّزْق ، ونحوها .

وأما الثالث : فتوحيد الأسماء والصفات : أي جَعْل الأسماء والصفات الأكملية لله سبحانه خالق البرية، تلك هي القسمة الثلاثية للتوحيد، ودليلها في ذلك هو الاستقراء كما أن أئمة العربية استقرؤوا كلمات العرب ، فوجدوها لا تخرج عن ثلاثة أقسام : اسمٍ وفعلٍ وحرف ، فكذلك الأئمة هنا رأوا أن الآيات والأحاديث في تقرير التوحيد دلت على تلك القسمة، وقد قرر ذلك جماعات، ومن أولئك : ابن قيم الجوزية ـ يرحمه الله ـ في كتابه : ((مدارج السالكين)) في مجلده الثالث وصفحته التاسعة والأربعين بعد المائة الرابعة، ومن أدلة توحيد الربوبية: قوله سبحانه : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، ومن أدلة توحيد العبادة والإلهية: قوله سبحانه : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، وكذا قوله سبحانه : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ومن أدلة توحيد الأسماء والصفات قوله سبحانه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، تلك قسمة اصطلاحية مشهورة عند الأئمة إلا أنَّ لها أحكاماً رُتبِّت عليها وأشياء كانت تبعاً لها .

ثالث المزايا : أن النبي  صلى الله عليه وسلم  بل جميع الأنبياء والمرسلين لم يبعثوا التقرير توحيد الربوبية أو الأسماء والصفات أصالةً، وإنما بُعثوا أصالة لتقرير توحيد الإلهية، وغيرُ توحيد الإلهية تبعٌ له أو مضمنٌ إياه ، مع أن الأصل توحيد الإلهية والعبادة .

وهذا قرره الإمام محمد ـ رحمه الله ـ في رسائل وكتب ، وهو معلوم مستفيض عنه، ومن ذلك: ما جاء في ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية في الرسالة الرابعة والعشرين في صفحتها السادسة والستين بعد المائة الأولى ، وكذا بنحوها في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثامن وصفحتها الخامسة والسبعين، وفيه يقول ـ يرحمه الله ـ : ((إن التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم إفراد الله بالعبادة كلها ليس فيها حق لملَكٍ مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهم))، كذا قال ـ يرحمه الله ـ
ويدل على صحة ذلك أدلة كثيرة ومن ذلك أيها الخيرة قول الله سبحانه : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، وكذا عموم قول الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، حيث إن هذه فيها دلالة واضحة على أن الله تعالى أمر بعبادته، وهو المسمى بتوحيد العبادة المتعلق بإفراد الإنسان عباداته الله لا أن يجعل له فيها شريكاً .

رابع المزايا : أن المشركين زمن بعثة سيد المرسلين كان الخلل عندهم في توحيد الإلهية ظاهراً ، خلافاً لتوحيد الربوبية فقد كانوا مقرين به ، قرر ذلك الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ في رسائل ومسائل، وهو معلوم مستفيضٌ عنه ، ومن ذلك قوله كما في : ((مجموع مؤلفاته)) في مجلدها الأول وصفحتها السادسة والخمسين بعد المائة الأولى .

قال : ((فإذا تحققتَ أنهم مُقِرُّون بهذا ـ أي بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت إلى آخره مما يتعلق بتوحيد الربوبية ـ ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وعرفتَ أن التوحيد الذي جحده هو توحيد العبادة، وعرفت أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده ، كما قال تعالى : {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، فإقرارهم بتوحيد الربوبية ـ والكلام لا يزال للإمام – رحمه الله – ـ لم يدخلهم في الإسلام وإن قَصْدَهُم الملائكة والأنبياء والأولياء يُرِيدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك : هو الذي أحل دمائهم وأموالهم)) ثم قال بعدُ ـ يرحمه الله ـ : ((وهذا التوحيد هو معنى قولك : لا إلا الله)) ، كذا قال ـ يرحمه الله ـ ويدل على صحة ذلك في الجملة: أدلة كثيرة ، ومن ذلك قوله سبحانه : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، وكذا قوله عز من قائل : {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}، وهاتان الآيتان فيهما دلالة على أن الكفار زمن بعثة النبي المختار أفضل صلاة وأتم تسليم كانوا مقرين بتلك الحقيقة مذعنين لها إلا أنهم كانوا يصرفون العبادة لغير الله سبحانه وهذا لا يمنع ـ أعني تقرير ذلك ـ أن يكون هناك من يجحد كل أنواع التوحيد فلا يأتي بتوحيد الربوبية ولا غيره إلا أن الأصل العام هو ما سبق .

خامس المزايا : أن الإنسان لا ينتفع بقوله : ((لا إله إلا الله)) إلا إن أتى بشروطها ، أما إذا قال لفظة خاوية من معانيها الصحيحة غير عاملٍ بمقتضاها ولا مؤدٍ لحقها الواجب، فإن ذلك لا ينتفع به صاحبه، وهذا مشهور منشور عن الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ قرر ذلك في كتبٍ له ورسائل ، ومن ذلك قوله كما في ((مجموع مؤلفاته)) ، وفي ((الرسائل الشخصية)) في الرسالة الثانية والعشرين في صفحتها الرابعة والخمسين بعد المائة الأولى ، وكذا في ((الدرر السنية)) في مجلدها الأول وصفحتها التاسعة والأربعين قال : ((المراد من هذه الكلمة ـ أي لا إله إلا الله ـ معناها لا مجرد لفظها)) كذا قال، وأكّد ذلك ـ يرحمه الله ـ مبيناً أيضاً في ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية في الرسالة العشرين ، في صفحتها السابعة والثلاثين بعد المائة الأولى، وكذا في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثاني وصفحته الرابعة والعشرين حيث قال : ((إن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها، وهو ترك الشرك، كذا قال ـ يرحمه الله ـ ، وهذا أمر معلوم إذ إن الإنسان إذا قال كلمات لا يؤمن بها ولا يتيقن صحتها ولا يقبلها وما إلى ذلك فإنها لا تنفعه عندالله سبحانه وتعالى ، ولا تُنْجيه في الدار الآخرة قطعاً.

ويدل على ذلك أدلة ، وكذلك ما وقع على ما اشتهر لمسيلمة الكذاب وحزبه الذين كانوا معه فإنهم كانوا يصلون ويصومون ويذكرون الله كثيرا وكانوا يقولون : لا إله إلا الله ، ولكنهم أتوا بما ينقضها وأتوا بما ينفي مقتضاها الحق ولذلك كُفِّروا وكانت القتلة لهم في معركة مشهورة كتبها التاريخ ، وكذلك قل يا رعاك الله في أهل الردة على المنشور المشهور عند الجمهور ، فإنهم كذلك فإنه من لم يأتِ بالمقتضى الواجب الحق اللازم لقول الإنسان لا إله إلا الله إيماناً وإذعاناً فإنه لا تنفعه تلك الكلمات الجوفاء ، ولا الألفاظ التي يقولها دون إيمانٍ حقٍ واجبٍ .

ولذا تكلم الفقهاء يرحمهم الله وأئمة الإسلام عن أنواع الردة وموجباتها وهذا مشهور مستفيض في كتب الفقه فقد بوّبوا باباً عن الردة وذكروا ما يوجب رجعة الإنسان عن الإسلام وما يقوم عليه من الأحكام، وأوّلُ ذلك إعلان ردته وما يأتي قبلها من استتابته .

سادس المزايا : ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات حيث إن الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ قد قرر في ذلك ركنين :

أما الركن الأول : فإثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله محمد  صلى الله عليه وسلم  لله من أسماء ووصفات واردة على المعنى الوارد عند العرب في لغتهم على الوجه اللائق به سبحانه .
وأما الركن الثاني : فنفي الباطل عن أسماء الله وصفاته من التحريف والتعطيل والجهل بالكيفيات ، كل ذلك ساقان لما يقرره الإمام محمد في رسائله ومسائله في كتبه ودواوينه ، ومن ذلك قوله ـ يرحمه الله ـ كما في ((مجموع مؤلفاته)) في مجلده الخامس وصفحتها الثامنة ، حيث قال : ((ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من غير تحريف ولا تعطيل ، بل اعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرِّف الكلم عن مواضعه، ولا أُلحد في أسمائه و آياته، ولا أُكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه ؛ لأنه تعالى لا سميَّ له ولا كفؤ له ولا ند له ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره ، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً فمُنَزَّهٌ سبحانه كما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وكما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ .

ولا ريب أن الإيمان بما جاء في كتاب الله وسنة النبي  صلى الله عليه وسلم  من أسماء وصفات لله سبحانه وتعالى واجب، وأما ما يتعلق بكيفياتها وكُنْهِهَا وصفاتها فإن لك لا ينظر إليه وإنما يفوض إلى الله سبحانه وتعالى فالكيفيات كُنْهُ ذاته سبحانه وصفاته التي هي مُغَيَّبةٌ عنّا كل ذلك لا يُدرى ، لكن نثبت ما أثبته الله ورسوله على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى ، ولا ريب أن اللغة العربية واضحة عند أهلها بيّنةٌ لمن عرفها ، دون تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ، فكل ذلك باطل ، وإنما كان ذلك للآية السابقة ، وهي قوله :{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} ففيه نفي المثلية عن الله سبحانه وتعالى ، وكذلك فيها إثبات السمع والبصر ، واسم السميع البصير لله سبحانه وتعالى ، وقد أطنب المصنف يرحمه الله في نفي مالا يليق بالله عن الله.

ومن ذلك : أن يكون له مِثْلٌ أو شبيه من خلقه ، فهو المُنزّه عن ذلك سبحانه ، ومن أمثلة وتطبيقات ذلك : ما قرره المصنف يرحمه الله من قاعدةٍ في ذلك حيث قال في ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية)) في الرسالة العشرين وصفحتها الثلاثين بعد المئة الأولى، وكذا في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثالث وصفحتها الواحدة والثمانين بعد المئة
الأولى قال: ((وذلك أن إنكار (الأَيْن) من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه اتباعاً لرسول الله  صلى الله عليه وسلم  كما في ((الصحيح)) ـ أي في مسلم ـ أنه قال للجارية : ((أين الله؟)) فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة، وأن إنكارها مذهب أهل السنة كما قيل ، وعكسُه بعكسِه… )) كذا قال ، ومراده : إثبات أن الله تعالى في جهة العلو وأنه يُشار إليه بالأصبع ، وأنه كذلك، كما هو مفهوم حديث الجارية ((أين الله؟)) والحديث في ((صحيح مسلم)) .


وقرر ذلك عنه أيضاً في أمثلةٍ سئلوا عنها من نزول الله تعالى وغيره، ابنُه عبدُ الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهما الله ـ ، فإنه قرر ما سبق إيضاحُه أيضاً كما في : ((مجموعة الرسائل والمسائل)) في مجلدها الرابع وصفحتها الثامنة عشرة بعد المئة الأولى .

سابع المزايا : أن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ يرحمه الله ـ فيها تكفير كل من أشرك بالله سبحانه وتعالى خصوصاً في باب العبادة لشيوع ذلك وكثرته على ما حكاه وقتئذٍ جمعٌ ممن كتب في التاريخ ، ومن أولئك : ابن غنام وابن بشر تلميذا الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ .

وقد قرر الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ ذلك كما في : ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية في الرسالة الرابعة والعشرين في صفحتها السادسة والستين بعد المئة الأولى ، وكذا في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثامن وصفحتها الثامنة والسبعين حيث قال : ((فمن أخلص العبادات لله ، ولم يشرك فيها غيره، فهو الذي شَهِد ألا إله إلا الله، ومن جعل فيها مع الله غيره فهو المشرك الجاحد لقول: لا إله إلا الله، وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبّق (أو طَبَق) مشارق الأرض ومغاربها إلا الغرباء المذكورون في الحديث ، وقليل ما هم، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم في المذاهب)) كذا قال ، وفيه حكايةٌ من الإمام رحمه الله لواقعه وقتئذٍ أنه ومن معه غرباء بين أهل الأرض؛ لما هم عليه من توحيدٍ واعتقاد؛ إذ إن النبي  صلى الله عليه وسلم  قد بيَّن حديث الغُرْبة ومن ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم  : ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) .

وإنما كان تكفير المشرك في العبادة كذلك صحيحاً ؛ لأدلةٍ كثيرةٍ، ومن ذلك: قول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ، والنبي  صلى الله عليه وسلم  قد بيَّن حقّ الله على خلقه وأعظمه وهو ألا يُشرك به سبحانه وتعالى ، ومن ذلك : قول النبي  صلى الله عليه وسلم  لمعاذ : ((حقٌّ لله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً)) وهذه أدلةٌ واضحة فكل إنسانٍ عبدَ غير الله، وأشرك مع الله آلهةً أخرى فإنه كافر خارج من ملة الإسلام سواءٌ أقال : أنا مسلم أم لم يقل، فإن هذا بيِّن، والإجماع من السلف الصالح قد قام على تكفير كل من عَبدَ غير الله . وأشرك معه آلهةً أخرى، والآيات في ذلك قطعية واضحة .

ومن الأمثلة التي يُمثَّل بها على ذلك: الاستغاثة بغير الله سبحانه؛ فإن الذي يستغيث بغير الله صارفاً خِصّيصَةً من خصائص الله لغير الله سواءً أكان السيّد البدوي ـ كما يُقال ـ أم كان الحسين أم الرفاعي ، أم غيرهم ، كل ذلك شرك، وقد قامت الأدلة على ذلك .

واشتهر عن الإمام محمد وأتباعه : إنكار ذلك ، وإشهارُ سيف الإنكار على أولئك، ومن قرّر ذلك جماعة، ومنهم : الشيخ حمد بن ناصر ابن معمّر رحمه الله كما في : ((مجموعة الرسائل والمسائل)) ، في مجلدها الرابع وصفحتها الثانية والتسعين بعد المائة الخامسة ، حيث قال ـ يرحمه الله ـ : ((اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان :

أحدهما : سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه ، مثل : سؤاله أن يدعوَ له، أو ينصره ، أو يعينه، فهذا جائز ، كما كان الصحابة يستشفعون بالنبي  صلى الله عليه وسلم  في حياته فيشفع لهم ، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم .

النوع الثاني : سؤال الميت والغائب وغيرهما ما لا يقدر عليه إلا الله مثل : سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين… )) ثم قال : ((وهذا يُعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام)) كذا قال.

ومن الأمثلة التي كَثُر وقوعها في أرجاء الأرض عند طوائفِ من المنتسبين إلى الإسلام ، وهي من مظاهر الشرك قطعاً ، ومما يَحرم في الإسلام ولا يجوز: الطواف حول القبور ، وعلى هذا الفقهاء ، وقضى به الإمام أحمد ومالكٌ وغيرهما من الأئمة .

ثامن المزايا : ما يتعلق بحماية التوحيد ؛ إذ إن الإمام محمد رحمه الله اشتهر بحمايته للتوحيد ، وتتبُّع ما قد يدخل على التوحيد بمطعنٍ أو خدشٍ أو نحو ذلك، وهذا أمر مستفيضٌ عنه من مسائل وفي رسائل وكتب له، ومن ذلك: ما قرره في ذلك ـ يرحمه الله ـ حيث كما في ((مجموع مؤلفاته)) في القسم الرابع منها في الصفحة الثالثة والسبعين بعد المئتين حيث قال : ((لا يجوز إبقاء مواضع الشرك بعد القدرة على إبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الكفر وهي أعظم المنكرات ))كذا قال.

ولاشك أن مواضع الشرك ومحالّ الكفر إذا عُلمتْ في أي مكانٍ كان، فإن الواجب إنكارها، وإبعادها وكف شرها عن الإسلام والمسلمين، ويدل على ذلك أدلة عن السلف يرحمهم الله، ومن ذلك (وهو واضح) ما جاء عند ابن سعدٍ في ((طبقاته)) وابن أبي شيبة في ((مصنفه)) وصحّح سنده الحافظ ابن حجرٍ ـ يرحمه الله ـ كما في ((فتح الباري)) في مجلده السابع وصفحته الثامنة والأربعين بعد المئة الرابعة ، وفيه جاء مُسنداً إلى عبد الله بن عون عن نافع أنه قال : كان الناس يأتون الشجرة التي يُقال لها : شجرة الرضوان، فيصلون عندها، قال : فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأوعدهم فيها ، وأمر بها، فَقُطِعت، وإنما فُعِل ذلك من قِبَل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إيغالاً في حماية التوحيد، واستئصالاً لما قد يأَتي بذلك الكفر أو الشرك أو الغلو المُوجِب لذلك .

ومن الأمثلة التي وقعت للإمام محمد بن عبد الوهاب ـ يرحمه الله ـ ، واشتهرت عنه ، حمايةً للتوحيد : هدم القباب التي على القبور والمباني التي بُنيَت عليها، خصوصاً القبور التي تُعَظَّم من قِبَل الناس ؛ ليفعلوا عندها المنكرات والاستغاثات المحرمات، وغير ذلك من طقوسٍ ومبتَدَعَات .

وقد قرر ذلك الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ ذلك كما في ((مجموع مؤلفاته)) في القسم الثالث في صفحته السبعين حيث قال : ((أما بناء القباب عليها ـ يعني القبور ـ فيجب هدمها ، ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده، وقصده لأجل الدعاء ، فكذلك لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حصول الشرك، فيشتدّ نكير العلماء لذلك ، كما صحّ عنه  صلى الله عليه وسلم  أنه قال : ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وذكر العلماء أنه يجب التغليظ في هذه الأمور؛ لأنه يفتح باب الشرك))، كذا قال ـ يرحمه الله ـ .

وعليه ؛ فإن البناء على القبور محرَّمٌ ولا يجوز، على ما يفيده أحاديث ، ومن ذلك : ما جاء في ((صحيح مسلم)) من حديث جابر وفيه قال : نُهيَ أن يُجَصَّصَ القبر وأن يُبنَى عليه(( ومن ذلك ما جاء في ))الصحيح أن النبي  صلى الله عليه وسلم  بعث علياً رضي الله عنه وأرضاه إلى الفيافي والقفار ألا يدع قبراً مُشْرِفاً إلا سَوَّاه ـ أي مبنياً عالياً ـ إلا وأن يسوِّيَه بالأرض كل ذلك تتبعاً لذلك .

ومن ذلك أيضاً : بناء المساجد على القبور ؛ فإنها من البدع الحادثات ويحرم بناء المساجد على القبور ، واختلف الفقهاء هل الصلاة فيه تكون باطلة أم أنها مكروهة مع النهي عن ذلك .
إلا أن القول المرجَّح المختار والذي تدلُّ عليه النصوص، ومنها ما سبق هو حُرْمة البناء على القبور ، وأنه يُفصَّل في ذلك فإن كان القبر سابقاً للمسجد هُدِم المسجد، وإن كان العكس فإن قُدِرَ على نبش الجثة التي فيه وأخذ رُفاتها إلى محلٍّ بعيد كان وإلا أُبعد ذلك المسجد .

تاسع المزايا : ما يتعلق بالبدع والنهي عنها؛ فقد اشتد نكير الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ على البدع كلها ، وهي كل ما حدث مخالفاً للدين ، وشُرِّع منسوباً إلى هذا الإسلام الحنيف ، فإن ذلك منكر على قرره ـ يرحمه الله ـ في رسائل كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في ملحق المصنفات في ((مجموع مؤلفاته))، في صفحته الخامسة والعشرين بعد المائة الأولى ، حيث قال : ((الأمر بالسنة والنهي عن البدعة أمر بمعروف ونهيٌ عن منكر، وهو من أفضل الأعمال)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ ، وقال كما في ((مجموع مؤلفاته )) في الرسائل الشخصية في الرسالة الثانية عشرة في صفحتها الخامسة والثمانين ، وهو في ((الدرر السنية)) في مجلدها الخامس وصفحتها الرابعة والستين بعد المئتين قال: ((فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير إتباع ما شرع الله وإبطال من غيّر حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله. هذا هو فعل الخير وفيه الفلاح خصُوصاً مع قوله  صلى الله عليه وسلم  : ((وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعةٍ ضلالة)) كذا قال . بل شدَّد في هجر أهل البدع ، وأنه هو المتعيّن معهم فقد قال كما في الرسائل الشخصية من ((مجموع مؤلفاته)) في الرسالة الأولى في صفحتها الحادية عشرة وفي ((الدرر السنية)) في مجلدها الأول وصفحتها الثلاثين حيث قال : ((وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكُم عليهم بالظاهر، وأَكِلُ سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة" كذا قال ـ يرحمه الله ـ .

ولا ريب أيُّها الإخوة والأخوات أن البدع الحادثات التي تُنسَبُ إلى شرع رب الأرض والسماوات ، وهي لا تَمُتُّ إلى الإسلام بشيء : باطلة، ومنهيٌّ عنها، ويدلُّ على ذلك أدلة ومن ذلك : ما جاء في ((صحيح البخاري)) من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه قالت : قال النبي  صلى الله عليه وسلم  : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ" قال الإمام النووي ـ يرحمه الله ـ في ((شرحه على مسلم)) في مجلده الثاني عشر وصفحته السادسة عشرة عن هذا الحديث قال : ((هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به كذلك)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ .

ومن الأدلة : حديث النبي  صلى الله عليه وسلم  المشهور ، وفيه يقول : ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثةٍ بدعة، وإن كل بدعةٍ ضلالة)) ولذلك أطلق على ذلك الأئمة يرحمهم الله النهي ، وأنه ليس في ذلك بدعةٌ حسنة ألبتة، وهو الصحيح المختار المرجَّح الذي عليه أهل الحق؛ فقد خرَّج اللالكائي وابن بطَّة العُكْبَري في ((الإبانة)) من خبر ابن عمر رضي الله عنهما وفيه قال : ((كل بدعةٍ ضلالة، وإن رآها الناس حسنة)) .

وليُعلم أيها الأحبة أنَّ البدع التي يُنكرها الإمام محمد في دعوته، وهي كذلك منكرة ، منها ما يُنسب لعقائد لطوائف ، ومنها ما يفعله بعضٌ من المسلمين، عازٍ ذلك إلى صحيح الدين، وقد أخطأ بلا مَيْن .

ومن ذلك أيضاً بدع تتعلق بغير العقائد أصالةً وربما أُدخل فيها عقائد فاسدة، ومن ذلك ما أنكره الإمام محمد بن عبد الوهاب من بدعة المولد التي يقع فيها ما لا يُرضي الله ولا رسوله  صلى الله عليه وسلم  ، ولما فيها من مضاهاةٍ للنصارى في ميلاد عيسى كذا قال ـ يرحمه الله ـ ، حيث قال ما نصُّه كما في ملحق المصنفات في صفحته الثامنة والثمانين قال : ((الأعياد من الشرائع فيجب فيها الإتباع، وما أُحدث في المولد إما مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى ، وإما محبة للنبي  صلى الله عليه وسلم  ، ويصحب هذه الأعمال من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يُفسد حال صاحبها)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ .

ويلحق في ذلك أيضاً : الغلو والإطراء الذي يقع من بعضٍ من تلاةِ قصائد المديح ، فربما وقعوا في الشرك عياذاً بالله، من قصائد يُتغنَّى بها، وأهازيجَ تُنشَد ، كل ذلك مدحاً في النبي  صلى الله عليه وسلم  ، والنبيُّ  صلى الله عليه وسلم  هو الذي نهى عن إطراءه ذلك الإطراء ، ومن ذلك ما جاء في ((البخاري)) أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال : ((لا تطروني كما أطرتِ النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)) فإن ذلك من البدع وبدعة المولد من البدع الحادثة بالإجماع لا خلاف في ذلك، واشتهر أن الذين أحدثوه: الفاطميون أصحاب العقائد المنحرفة المشهورة، وقد حكى ذلك جماعات، ومنهم : الفَاكِهَاني ـ يرحمه الله ـ، وكذا السخاوي – يرحمه الله - في آخرين .

ومن البدع أيضاً : التبرك بالتمسُّح بقبر النبي  صلى الله عليه وسلم  وقبور الأولياء والصالحين، فيأتي إنسان إلى خشباتٍ قد رُفعت فوق القبر، أو بناءٍ قد ضَمَّ ذلك الضريح ، فيتمسَّح بخده ، ويشقُّ المَرائر قَدَّا على هذا القبر والضريح ، ولا ريب أن هذه من البدع التي دخلت على المسلمين، ولكن الزيارة المشروعة للقبور التي هي قبورٌ صحيحة في أماكنها المعروفة ، صحيحة ولا شيء فيها .

وليُعلم أن الزيارة للقبور تأتي على نوعين :
أما النوع الأول : فنوعٌ غير مشروع ، ومن ذلك : أن يَشُدَّ الإنسانُ الرحال ويسافر من بلده إلى بلدٍ آخر ليزور القبور ؛ فإن ذلك من المنهي عنه، ويدل على صحة ذلك ورُجْحَانه وأنه هو ألحق : أدلة ومن ذلك: ما جاء في حديث النبي  صلى الله عليه وسلم  ، وفيه قال : ((لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ يرحمه الله ـ في بعض رسائله : ((يؤخذ من ذلك أن غيرها لا يجوز له أن يُشَدّ الرحل)) وعليه فلا يجوز أن يشد الرحل الإنسان أي يسافر إلى القبور . هذا هو مذهب الحنابلة في آخرين في المسألة .

وقد يرتفع الأمر إلى الشرك عياذاً بالله كأن يذهب الإنسان ليسجد لهذا الضريح أو يعبد هذا الضريح ولو كان النبي محمداً  صلى الله عليه وسلم  ، يأتي إنسان من الهند أو من السند أو من أماكن بعيدة، فيدخل إلى مسجد النبي  صلى الله عليه وسلم  فيسجد للنبي محمد ،  صلى الله عليه وسلم  ويُقدم عبادات للنبي  صلى الله عليه وسلم  ، وهذا لا يجوز في حقه لا حياً ولا ميتاً  صلى الله عليه وسلم  ، وصَرْف عبادة من العبادات لغير الله سبحانه وتعالى مما هو من خصائص الله كفرٌ وشركٌ وضلالٌ بيقين لا شك فيه .

وأما النوع الثاني: فزيارة مشروعة ، ومن ذلك : أن يزور الإنسان قبراً في بلده، أو مقبرةً في بلده بدون فعل منكراتٍ أو شركياتٍ وبدع وخزعبلات هناك.

المَيْزَة العاشرة : ما يتعلَّق بالتصوف ، حيث إن الإمام محمد ابن عبدالوهاب ـ يرحمه الله ـ قد أعلن إنكاره للتصوف جملةً وتفصيلاً ، وأنكره، وكفَّر ابن عربي وابن الفارض ، ومن سار مسيرتهم .

ولا شك أن التصوف الذي فيه اتخاذ طريقه يُظنّ أنها تُوصِل إلى الله غير طريقة النبي محمدٍ  صلى الله عليه وسلم  : باطل ، وإنكاره متعيّن ، وهو من الضلالات والخزعبلات، ومن ذلك : الطُرق الصوفية المضلَّة التي يفعل فيها الضلال والباطل والمنكر عياذاً بالله، فكيف إذا وقع فيها اختلاط ووقع فيها أشياء وأشياء معروف بطلانها عند الناس .

وكذلك يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك كما في ((مجموع مؤلفاته)) في الرسائل الشخصية في الرسالة الحادية عشرة في صفحتها الثامنة والستين، وكذا في ((الدرر السنية)) في مجلدها الثامن وصفحتها السادسة والخمسين قال : ((وقال أيضاً ـ يعني : صاحب الإقناع ـ في أثناء الباب ـ أي : باب الردة ـ : ومن اعتقد أن لأحدٍ طريقاً إلى الله غير متابعة محمدٍ  صلى الله عليه وسلم  ، أو لا يجب عليه اتباعه ، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه ، أو قال أنا محتاجٌ إليه في علم الظاهر دون علم الحقيقة أو قال : إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وَسِعَ الخَضِر الخروج عن شريعة موسى : كفر في ذلك كله . ولو تعرف من قال هذا ـ وهو يخاطب رحمه الله شخصاً برسالته ـ . قال ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه وجزم بكفرهم وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء لقضيتَ العجب)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ في رسالةٍ لبعض الناس .
وهنا اشتد إنكار الإمام محمد ـ يرحمه الله ـ على قصائد الصوفية التي فيها شركيات أو إطراء باطل للنبي  صلى الله عليه وسلم  ، ومن ذلك : تكفيره لابن عربي (النكرة) ، و ابن عربي له جمل وكلمات ظاهرها كفر، يُقطع بأن ظاهرها كفر قطعاً باتفاق لا خلاف في ذلك، ولذلك كفَّر ابنَ عربي جماعات، وألف في ذلك بعضٌ كتباً ، ومنهم : برهان الدين البقاعي (المتوفى سنة خمسٍ وثمانين بعد المائة الثامنة للهجرة) في كتابه : ((تنبيه الغبيّ إلى تكفير ابن عربي)) كذا قال ، وإنما نازع بعضٌ من المتأخرين في تكفير ابن عربي أنَّ هذه الكلمات دُسَّت عليه ، أو هذه الجُمل ليس المراد الظاهر منها ، وإنما معانٍ إشارية، لكن قطعاً هذه الجمل تلك الكلمات المنسوبة إليه لو صحَّت عنه وأُخِذَ بظاهرها فهي كفر ، هذا لا خلاف فيه، فليحذر الناس من تلك الجمل ، ومن تلك الكفريات المنسوبة إلى ابن عربي أو شاكلته، لو اخترع الناس اليوم بعض الطرق الكفرية أيضاً هذا يحرم ولا يجوز، وعلى هذا قِسْ .

وعليه فالطرق المُضِلَّة الصوفية التي يتّبعها الناس ، ففيها ما فيها على ما سبق ، فإن ذلك كله باطل، ولا يجوز ، ويكفينا شرع ربنا، يكفينا شرع ربنا، الدين كامل ، لا نقصان فيه ، ليس بحاجة إلى أحد يأتي ليُتمِّم ديننا .

الحادي عشر من المزايا : شدة الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ يرحمه الله ـ على أهل المنكر ، والمنكرات التي ثبت كونها منكراً ، ومن ذلك : شدته على السحرة ، وأصحاب الكهانة والتمائم المحرمة والغناء الباطل وما إلى ذلك ، فكلها منكرة، ولذلك أتى عليها .
فالغناء بآلات الطرب وما إليه كلها من الأشياء المنكرة المحرمة .

وليُعلم أن الغناء بالمعازف غير الدف قد اتفق الفقهاء على حرمته، وعدم جوازه، وعلى هذا أيضاً اتفاق المذاهب الأربعة ، وحكاه ابن قيم الجوزية في ((مسألة السماع)) ، وكذا ابن رجب إجماعاً عن السلف الصالح، أي على حرمة ذلك وعدم جوازه .

وينبغي ألا يُتساهل أيها الإخوة الأحبة في المنكرات ، وتركها تذهب يميناً وشمالاً في بيوتنا وغيرها، فيصبح الإنسان على إيقاعات موسيقية ويُمسي عليها، ويُربّى الصغار على المنكرات والمحرمات من موسيقى ، ويُعَلَّمون هذا ربما في بعض المدارس مع الأسف ، إلى غير ذلك ، هذه كلها من المنكرات .

ومن المنكرات أيضاً : السُّفُور المحرم فتجد المرأة لا تأخذ حجابها الواجب عليها ، ثم تقع بها الفتنة للشباب ، وتقع الفتن إلى زنا، إلى ما يُسمَّى بالمعاكسات الهاتفية وغيرها وهي بريدٌ للزنا عياذاً بالله، وطريقٌ إليه ، وكم من حوادث وقعت في ذلك .

استمع يا رعاك الله إلى إنكار الإمام محمد بن عبد الوهاب على بعض الأشياء ، وشدته في ذلك ، من ذلك ما قاله في الرسالة الحادية عشرة من : ((مجموع مؤلفاته)) في صفحتها الثالثة والسبعين، وفي ((الدرر السنية)) في مجلدها الثامن وصفحتها التاسعة والخمسين حيث قال : ((لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الشرك والكفر، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حُكم المشاهد التي بُنيت على القبور التي اتُخذت أوثاناً تُعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصد للتبرك والنذر والتقبل لا يجوز إبقاء شيءٍ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثيرٌ منها بمنـزلة اللات والعُزى ومناة الثالثة الأخرى بل أعظم شركاً عندها وبها والله المستعان)) كذا قال .

وقال كما في ((مجموع مؤلفاته)) في القسم الرابع في صفحته السابعة والثمانين بعد المائة قال : ((ومنها تحريق أمكنة المعصية، كما حُرِّق مسجد الضِرار، وكل مكانٍ مثله ، فالواجب على الإمام تعطليه إما بهدمٍ أو تحريقٍ وإما بتغيير صورته وإخراجه عمّا وُضع له …. )) .

ثم قال : ((وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بني على قبر ، كما يُنبَش الميت إذا دفن في المسجد، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله، وغربتُه بين الناس كما ترى)) كذا قال ـ يرحمه الله ـ ـ أي : أن الواقع اليوم خلاف هذا في كثيرٍ من الأماكن ، لكن والحمد لله أصبحت بلاد الحرمين ـ حرسها الله من كل عدوان وإثم ـ مضرب مثل في تطهيرها من هذه المنكرات المعروفات .

أما الأمر الأخير والميزة الأخيرة الثانية عشرة : فهو ما يتعلق في منهجه رحمه الله في التعامل مع مسائل الفقه والفروع، حيث إنه قرر في ذلك شيئين معلومين لمن تتبع رسائله وكتبه وتقريراته رحمه الله :
الشيء الأول : أن الحق ليس منحصراً في المذاهب الأربعة الفقهية مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله ورضي عنهم ، ولا ريب أن الله لم يأمرنا أصالةٍ باتباع هذه المذاهب الأربعة ، ولا بالتزام مذهبٍ منها البتة ، وإنما جاء ذلك واضحاً في كتاب الله وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم  باتباع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم  ، ويكون ذلك على فهم السلف الأول .
وأما الشيء الثاني : فهو ما يتعلَّق باتباع الدليل ، فهو يدور معه أنّى دار، حتى ولو خالف شيخه وقدوته الإمام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ ، ومن ذلك : ذهابه إلى أن الإسبال تحت الكعبين للرجال لغير كبرٍ وخيلاء حرام ولا يجوز . والمعروف عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة على ما نقله ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) والسفاريني في ((غذاء الألباب)) وجماعة أن شيخ الإسلام لم يذهب إلى تحريم ذلك، بل قطع بعدم تحريم الإسبال في الحالة السابقة ، وسكت عن الكراهة. كذا قال ابن مفلح ـ يرحمه الله ـ .

وعليه فإن هاتين القاعدتين هي المقررة في رسائله وفتاويه واستعمالاته ـ يرحمه الله ـ ، وإليه جاءت الإشارة في أمر الأدلة في : ((ثلاثة الأصول)) في أولها حيث ذكر أنه يجب على كل مسلمٍ ومسلمة إتباع دين الإسلام بالأدلة ، ومراده كذا لعله أن يعرف الإنسان الإسلام على وجهٍ معلوم ليس على وجهٍ تقليدي مذموم، فإن ذلك لابد للإنسان منه. كذا هو المفهوم من كلامه ، وفيه إشارة إلى ذلك . ولا ريب أيها الأحبة أن الإنسان إذا عَلِم الحق بدليله ، واستبان له بدليله، فالواجب عليه أن يتّبعه ، ولو خالف المذاهب الأربعة كلها ، ولو خالف مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أو غيرهم ، إذ الإنسان إذا علم الحق بدليله وجب أن يدور معه حينئذٍ ، ولذلك انعقد الإجماع على ذلك على ما حكاه جماعة، وقاله الشافعي ـ يرحمه الله ـ .

تلك هي مزايا دعوة الإمام المجدد داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بها تعلم دعوته ، وتدري طريقته، فليس مبتدعاً شيئاً جديداً، ولا آتٍ بدين إرهابي كما يقوله بعض الناس، ولا شيئاً من ذلك الذي يُزعم من باطلٍ لا يصح عنه ـ يرحمه الله ـ .

إنما كانت تلك الكلمات في هذا الزمان بياناً للحقيقة، وحصراً لما عليه ذلك الإمام ـ يرحمه الله ـ .
سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يُميتنا وإياكم على السنة، وأن يقينا مصرع أهل البدعة، اللهم اجعلنا دعاة إلى سبيلك، هداةً إلى دينك، اللهم اجعلنا عالمين عاملين، هداةً متقين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد .
نشر :