منح الوهاب في احتساب محمد بن عبد الوهاب

عبده قايد الذريبي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده. أما بعد:

ففي كلِّ زمان ومكان يقيِّض الله لهذه الأمة مَن يُجَدِّد لها دينها، ويربط حاضرها بماضيها؛ كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدِّد لها دينها)).

ومِن هؤلاء الأعلام الذين بعثهم الله واختارهم لتجديد دينه الإمام المجدِّد "محمد بن عبد الوهَّاب - رحمه الله"؛ فقد جدَّد الله به دينه في جوانب عديدة، ومن ذلك: جانب الاحتساب، فقد عاش - رحمه الله - في عصرٍ انتشرت فيه الشركيات، وعمَّت الجهالات، وفَشَت البدع والخرافات؛ فتصدَّى لإنكار ذلك بكل وسيلة شرعية متاحة (بيده، ولسانه، وقلمه، ... و...).

والحديث عن احتسابه - رحمه الله - يحتاج إلى الإلمام به واستيعابه مصنفات عدة، ولكننا سنشير إلى بعض ما منحنا الملك الوهَّاب معرفته في احتساب هذا الإمام المجدد؛ فمن ذلك:

المنحة الأولى: احتسابه على الشركيات، ومن ذلك:

1- احتسابه على التبرك بالأشجار؛ فقد أمر بقطعِها، وباشر ذلك بنفسه، قال المؤرخ ابن غنَّام - رحمه الله -: "أمر الشيخ محمدٌ الأميرَ عثمانَ بهدمِ القُبَب... وقطع الأشجار التي كانت الخلق لها في كل ساعة منتابة، فبادر عثمان لذلك وامتثل، وخرج الشيخ معه وجماعتهم على عجل، وخرجوا بالمعاوِل، والكلُّ للأجر آمِل... وخرَّ ما في العارض من مُعبودات الأشجار كشجرة قريوة وأبي دُجَانة والذيب، فلم يكن أحد إلى التبرك بهما ينيب، ولم تسألها من لم تتزوج مثل العادات زوجًا حبيبًا، وليس هذا في تلك الأزمان بغريب، وليس وقوع أقبح منه بعجيب، وكان الشيخ - رحمه الله تعالى - هو الذي باشر قطع شجرة الذيب بيده مع بعض أصحابه، فنال من ربِّه جزيل أجرِه وثوابه، وقَطَع شجرة قريرة ثِنْيَان بنِ سُعُود، ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم، وجماعة سواهم، فأدركوا من الفوز مناهم".

وقال ابن عثمان بن بشر النجدي - رحمه الله - : "وكان فيها - أي في العُيَيْنة - أشجار تعظَّم وتعلَّق عليها، فبعث إليها سرًّا مَن يقطعها بأجرةٍ من ماله فقُطِعت، وفي البلد شجرة هي أعظمُهن عندهم، وذُكِر لي أن الشيخ خرج إليها بنفسه سرًّا يريد قطعها، فوجد عندها راعي غنم أهل البلد، فأراد أن يمنعها منه، أو أنه خاف أن ينم عليه، فأعطاه الشيخ أحد أسلابه - أي أحد ملابسه التي كانت عليه - الذي عليه، وخلَّى بينه وبينها، فقطعها".

2- احتسابه على القباب المبنية على القبور؛ لأن ذلك وسيلة من الوسائل المُفْضِيَة إلى الشرك، فقد قام بهدمِها، قال المؤرخ ابن غنام - رحمه الله -: "أمر الشيخ محمدٌ الأميرَ عثمانَ بهدم القُبَب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة ... فبادر عثمان لذلك وامتثل، وخرج الشيخ معه وجماعتهم على عجل، وخرجوا بالمعاول، والكل للأجر آمل، فهدموا تلك المساجد وأزالوا رفيع المشاهد، وأزالوا جميع المحظور عن جميع تلك القبور، وعدلت على السنن المشروع، واندرس الأمر الممنوع، وهُدِم رفيع ذلك البناء، وبَطَلَ ذلك التعظيم والاعتناء، وخَرَّ شامخ الأحجار".

وفصَّل المؤرخ عثمان بن بشر النَّجْدِي - رحمه الله - قصةَ هَدْمِ الإمام لهذه القبة، فيقول: "إن الشيخ أراد أن يهدم قبة قبر زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - التي عند الجُبَيلة، فقال لعثمان: "دَعْنَا نَهْدِم هذه القبة التي وُضِعَت على الباطل وضلَّ بها الناس عن الهدى، فقال: "دونكها فاهدمها"، فقال الشيخ: "أخاف من أهل الجُبَيلة أن يوقعوا بنا، ولا أستطيع هدمها إلا وأنت معي، فسار معه عثمانُ بنحو ستمائة رجل، فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوها، فلما رآهم عثمانُ علم ما همُّوا به فتأهَّب... فلما رأوا ذلك كفُّوا عن الحرب، وخَلُّوا بينهم وبينها، وذُكِر لي أن عثمانَ لما أتاها قال للشيخ: نحن لا نتعرضها، فقال: أعطوني الفأس، فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها، ثم رجعوا، فانتظر تلك الليلة جهال البدو وسفهاؤهم ما يحدث على الشيخ بسبب هدمها، فأصبح في أحسن حال".

ولكن كما هو معلوم أن سنن الله في عباده: أنه يبتليهم حتى يعلم الصادق من الكاذب؛ ولذلك فقد ابتلي هذا الإمام بعد موقفه هذا؛ وقوبل موقفه هذا بالصد والنفور؛ كما وصف ذلك المؤرخ ابن غنَّام - رحمه الله - بقوله: "فأنكرت ذلك قلوب الذين حَقَّت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأوَّلون ذوو الكفر والإعجاب: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، فأخذوا في رَدِّه والإنكار عليه، وأَتَوا بأعظم الأسباب، وزجُّوا الخلق في لُجَّة الضلال والارتياب، وضَجُّوا على كلمة الحق بالتكذيب والإكذاب... وبهتوا الشيخ بأنه ساحرٌ ومفترٍ وكذاب، وحكموا بكفره واستحلال دمه وماله وجميع من له من أصحاب، ﴿ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [غافر: 5].

وأشرُّ الناس إنكارًا عليه وأعظمُهم تشنيعًا وسعيًا بالشر إليه سليمانُ بنُ سُحَيم وأبوه محمَّد، فقد أَنْهَم في ذلك - أي أفرط - وأنجد، وجَدَّ في التحريش عليه والتحريض، وهيَّئوا له أسباب الجَرِيض (الغُصَّة)، وأرسل بذلك إلى الأَحْسَاء والحرمين والبصرة، فلم ينل من مراده سوى الخزي والعار والحسرة، ولم يحصل من مراده بغير العَثْرة، ولقد كادَ، وشنَّع وعادى، وجشر - أصابه سعال جاف - علماء السوء ونادى، وكذب عليه وبهت وزور، وجدَّ في دحض الهدى وشمر، وسعى في إبطاله وما قصر، وبعث الطروس - الصحيفة - منزعة بالباطل والمَيْن - الكذب - إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين، فقاموا معه فورًا بالإنكار، وأَفْتَوا للحكام والسلاطين والأشرار، بأن القائم بدعوة التوحيد ليس له في الحق تثبُّتٌ ولا قرار، وأنه من لظى الجحيم والنار على شفا جُرُف هَار، بل جَزَم أكثر علماء الأمصار في تلك الأزمان والأعصار، بأن هذا المبيِّن لآثار السلف الأخيار المتبِع لهدي نبيه المختار، من أقبح الضُّلاَّل والفسَّاق والكفار، وأشر الخوارج والفجار، وحَسِبوا أنهم إذا حرَّشوا عليه الحكام يجدُّون في قتله ويجتهدون، فيفوزون حينئذ بما كانوا يؤمِّلون، ولقد عَرَفوا أن الذي جاء به الحق، ولكنهم كانوا يكتمون: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32]، فصنَّفوا المصنَّفات في تبديعه وتضليله، وتغييره للشرع النبوي وتبديله، وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله، وسطَّروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله، وأَوْحَى بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غرورًا، ولو شاء ربُّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون، فأطبق أهل الباطل والضلال على قبيح تلك الأقوال، وأرهفوا أسنَّة المقال، والكلُّ خاض في الإفك ونال، فآب بالخسران والإذلال، ورجع ولله الحمد بخيبة الآمال؛ ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 113].

والذي تولَّى منهم هذا الأمر الكبير، واقتحم لُجَج موجه الخطير، وشمَّر فيه أعظم التشمير، وتنادى عليه مع أعوانه لأجل التغيير، حسدًا وبغيًا لفوزه بهذا الفضل الكثير، والفخر النابل المنير - سليمان ابن سحيم وأبوه محمد من مطاوعة الرياض والموانيس من أهل منيخ، وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق، فصار كل من هؤلاء معاندًا مجادلاً مشاققًا، وحذَّروا منه جميع الأنام، وأخرجوه بلا شك من حوزة الإسلام، وأغروا به الخاص والعام، خصوصًا السلاطين والحكام، وقطعوا لهم أنه رافض شريعة محمد - عليه الصلاة والسلام، وأنه مغيِّر لمنار السنة والأحكام، وليس له منها تمسُّك والتزام، ولا بالدين أخذ واعتصام، فليس له ولا لأصحابه عهد ولا ذِمام، ولم يكن له قصد ولا مَرام، إلا تنفير الخواص والعوام، ملأ قلوب الجهال والطغام، بما يبديه لهم من ذلك الكلام، فيقومون بالمشاققة على الحكام والولاة، ويكونون عليهم عتاة، وبما يأمر وينهى به في جميع الأحوال عصاة، فهذا غايته ومناه، ومنتهى مراده وأقصاه، يخوفونهم بهذه الأقاويل، ويجلبون لهم أنواع الأباطيل، ويحذرونهم منه أنه إن تمكن أمره في البلاد أزال جميع المنكرات والفساد، وقطع جميع ما كان من المظالم معتادًا، فكانوا بهذا الكلام لهم يُغْرُون، وعن طريقه يحذِّرون وينفِّرون، وهو - رحمه الله - صابر على ما يقولون، محتسب الأجر فيما إليه ينسبون، مُتَسَلٍّ بما كابده وقاساه قبله الموحِّدون، وما لقيه من الابتلاء المؤمنون، وما سعى به لهم الضلال والمشركون: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 1، 2]، وهذه سنة الله - تعالى - في عبادة جارية في جميع الأزمان على مراده، يختبر بها أحبابه المؤمنين، ويمتحن بها أحزابه المفلحين،﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]، فيرفع - جل وعلا - قدر الصابرين، ويُعْلِي مرتبة الصادقين، ويخفِض منزلة المنافقين، ويفضح بإرادته الفاسقين والكاذبين، ويحق عليهم كلمة العذاب أجمعين، ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].

فمضى - رحمه الله تعالى - في المناصحة، وبذل الجد في الدعوة، والخلق رموا النبال نحوه، فصبر متأسيًا بسلفه الصالح، فكان له بهم أسوة ما كانوا عليه يحزنون: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 173]".

المنحة الثانية: احتسابه على البدع، ومن ذلك: احتسابه على بدعة التذكير، فقد قال - في معرض رده على سؤال وُجِّه إليه عن حكم هذا الفعل - : إنَّه بدعة، فذكر - أي السائل - أنَّ عندنا مَن لا يعرف الجمعة إلاَّ به، وذكرت له أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم منَّا بمصالح أمته، وهو سنَّ الأذان ونهى عن الزيادة، فلمَّا فتح الله لكم بابًا في اتباع نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فلا تستثقلوا من قطع العادات في طاعة الله ورسوله".

واحتسب - رحمه الله - على من يجيز هذه البدعة من العلماء، فقال: "من العجب كَفُّكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة، وتقولون لا يتعين علينا الفتيا، ثم تبالغون في مثل هذه الأمور؛ مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع وكلام الإقناع بإنكاره".

المنحة الثالثة: احتسابه على المعاصي الظاهرة، ومن ذلك:

1- احتسابه على ترك الصلاة والتهاون بها: وأول من احتسب عليهم في هذا الباب "أهله وعشيرته"، كما صرح بذلك في قوله: "ألزمتُ من تحت يدي بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك من فرائض الله".

2- احتسابه على الرشوة: كما في قوله - رحمه الله -: "أنكرنا عليهم أكل السحت والرِّشا، إلى غير ذلك من الأمور".

3- احتسابه على أخذ المُكُوس: قال المؤرخ ابن غنَّام - رحمه الله - حاكيًا عن قومه الذين شكوه إلى سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأحساء: "وصاحوا عنده - أي عند سليمان آل محمد - وقالوا: إنَّ هذا يريد أن يخرجكم من ملكِكم، ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور، ويبطل العشور والمُكُوس".

وذكر المؤرخ ابن عثمان بن بشر النجدي - رحمه الله - : أنَّ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - لما تعاهد مع الأمير محمد بن سعود على النصرة دار بينهما حوار جاء فيه: "أريد أن أشترط عليك - أي الإمام محمد بن سعود يشترط على الإمام محمد بن الوهاب - أنَّ لي على الدرعية قانونًا - أي له طريقة في الخَرَاج الذي اعتاد أن يأخذه من أهل الدرعية - آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول: لا تأخذ منهم شيئًا، فقال الشيخ: ... فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها، فوقع تحقيق ظنِّه - رحمه الله تعالى - فإنَّه أتى إليه غنيمة عظيمة، فقال الشيخ: هذا أكثر مما أنت تأخذه على أهل بلدك".

4- احتسابه على جريمة الزنا: كما يقول ابن عثمان بن بشر النجدي - رحمه الله -: "أتت امرأة إلى الشيخ، واعترفت عنده بالزنا والإحصان، وتكرر منها الإقرار، فسأل عن عقلها، فإذا هي صحيحة العقل، وقال: لعلك مغصوبة، فأقرت واعترفت بما يوجب عليها الرجم، فأمر بها، فرجمت".

وفي الأخير: هذه بعض المِنَح الاحتسابية اقتطفناها من حياة هذا الإمام المجدد، نسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


نشر :